انتقل إلى المحتوى

دراسة الكتاب المقدس

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14

الدرس 3 – من إبراهيم إلى إسحق (تكوين 12 إلى 24)

إبراهيم

ظهر إبراهيم على الأرض عشرون قرناً ق.م، منذ حوالي 4000 سنة. في ذلك الوقت، لم يكن الله معروفاً. كان لكل بلد آلهته. كان تعدد الآلهة والميثولوجيا منتشرين في كل مكان مع آلهة تتغير أسماؤها ومرتباتها من بلد إلى آخر. كانت عبادة الأوثان سائدة على شكل تماثيل من خشب أو من حجر للآلهة الأشورية، البابلية، الكنعانية إلخ… ظلت أصنام الميثولوجيا اليونانية في انتشار مستمر أيضاً 1500 سنة بعد إبراهيم. الامبراطوريات الوثنية (الأشورية، البابلية، اليونانية والرومانية) عارضت التوحيد الناشئ معارضة مطلقة. حاربته بضراوة واضطهدت الممؤمنين الأولين. نجد صدى لمقاومة التوحيد في الأنظمة الملحدة العصرية.

في زمن إبراهيم، لم يكن هناك لا يهود ولا عبرانيين. عكس ما يعتقد البعض، إبراهيم هو سوري من حاران، وليس عبرانياً. بذل الكتبة كل جهدهم، لأهداف عنصرية، لإقناع أخوتهم في الدين بوجود خطأ تاريخي بزعمهم أن اليهود كانوا موجودين قبل إبراهيم كشعب عبراني. كان هذا الأخير يتحدر من أحد أبناء سام، عابر، من حيث يأتي الإسم عبراني. البعض يقدم هذا الشعب كـ“عرق” عابر.

أبناء سام، وفقاً لكتبة التكوين، هم: عيلام، أشور، أرفكشاد، لود وأرام. تجدر الملاحظة أن أبناء سام هم أسماء بلدان: عيلام كانت في جنوب إيران وعاصمتها سوسه، أشور هي العراق حالياً، لود هي على الأرجح فلسطين (مطار لود في إسرائيل) وأرام هي سوريا. هذا يعني أن كل هذه المناطق، التي تعود لأبناء سام، هي ملك العبرانيين بالميراث وتشكل “اسرائيل الكبرى”، الامبراطورية التي يطمح إليها الإسرائيليون اليوم. حدودها تظهر على العملة الإسرائيلية الحالية.

كتبة التوراة، محاولين تبرير نزعتهم بأن يكونوا “الشعب المختار”، يقدمون إبراهيم على أنه عبراني منذ دعوته، كونه من “بني عابر” من سلالة أرفكشاد (تكوين 11، 10 – 26)، من بني سام. وقد أعطى “عابر” هذا اسمه للعبرانيين (تكوين 11، 14). كل هذا الإخراج النسبي يهدف إلى إظهار العبرانيين كمختارين من الله، كلهم، بشخص إبراهيم. هكذا إذاً، كان على العالم أجمع أن يفهم أن كل اليهود، من كل زمان ومكان يشكلون “الشعب المختار الوحيد، العرق الوحيد الذي اختاره الله وأقامه فوق كل الأعراق الأخرى.

لهذا السبب أقحم الكتبة ببراعة في التكوين 14، 13: “أبرام العبراني“. هذا الوصف قد تسلل خلسة من “قلم الكتبة الكاذب” (إرميا 8، 8) للحصول على امتيازات عرقية واجتماعية سياسية. لمحاربة هذه النزعة العنصرية، يذكّر موسى اليهود أن أبيهم إبراهيم “كان أرامياً (سورياً) تائهاً…” (التثنية 26، 5)، وليس عبرانياً. يكفي قراءة التكوين للاقتناع بأن كل عائلة إبراهيم، أبناؤه بالإضافة إلى زوجاتهم هم سوريون. فالكتاب المقدس لا يتكلم في أي مكان عن شعب عبراني كان موجوداً قبل إبراهيم… ولا التاريخ أيضاً!

اختار الله إذاً إنساناً لا شعباً، سورياً (أرامياً) وليس عبرانياً. فالعبرانيون لم يكونوا قد وجدوا بعد في ذلك الوقت.

بارك الله إبراهيم ثم قال له: “يتبارك بك جميع عشائر الأرض” (تكوين 12، 3). الحاخامات يفسرون هذه الآية كالتالي: “يتبارك بك جميع يهود عشائر الأرض”. هذا التفسير التقييدي ليس مقصود الله.

دعوة الله لأبرام (إبراهيم) حصلت عندما كان يبلغ 75 سنة من العمر وزوجته ساراي 65 سنة. كان يعيش إذاً في حاران، في شمال سوريا. قال له الله: “إرحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعل منك شعباً عظيماً…” (تكوين 12، 1 – 2). الحاخامات يترجمونها “أمّة عظيمة” ليضفوا على الخيار الإلهي صبغة سياسية، إسرائيلية.

فيما بعد، غير الله اسم أبرام إلى إبراهيم (أب)، “لأني جعلتك أباً لشعوب كثيرة” (تكوين 17، 5). هنا يظهر مخطط الله الشامل: فهو يشمل جميع البشر وليس ذات منفعة حصرية لمجموعة معينة من البشر. اليهود العنصريون لا يرون في هذه الآية سوى اليهود المشتتين بين الأمم ليحكموا العالم. هذه الأمم هي سلالة يافث، الغير يهود، “فمن هؤلاء تفرقت أمم البحر ببلدانهم وعشائرهم، كل جماعة حسب لغتها” (تكوين 10، 1 – 5). “أمم البحر” تمثل أمم وبلدان البحر المتوسط إضافة إلى العالم الغير يهودي.

حصلت دعوة إبراهيم 2000 سنة ق.م؛ هكذا يكون المسيح تماماً في المنتصف بينه وبيننا، نحن بشر القرن الواحد والعشرين. يتساءل البعض لماذا انتظر الله طويلاً كي يتجلى للإنسان. فقد مرت آلاف القرون قبل إبراهيم! الجواب هو التالي: الخطيئة الأصلية جعلت الإنسان يفقد قدراته الروحية والنفسية. كان يجب انتظار كل هذا الوقت، قروناً طويلة، كي يستعيد الإنسان حدّاً أدنى من القدرات التي تؤهله للتفكير. استطاع عندئذٍ بلوغ درجة معينة من النضج الفكري ليفهم أن الله هو روح، أنه واحد، ولا يجب البحث عنه في الأشياء المادية (الشمس، إلخ…) ولا في الأصنام. اليوم أيضاً، كثير من الناس هم غير قادرون على استيعاب الحقائق الروحية ووجود الله الواحد. في مجتمعات تزعم التمدن ما زالت العبادات والمعتقدات الباطلة موجودة. فحتى اليوم أيضاً لا زالت توجد في أفريقيا، آسيا، أميركا وأستراليا قبائل تعبد الأصنام. كما أنك ستدرك صعوبة الكشف والتكلم عن الله مع الناس في عصرنا: يجب أن يكون عندهم حد أدنى من الاهتمام الروحي وأن يكونوا قد بلغوا درجة معينة من النضج النفسي ليتمكنوا من قبول الله… أو من رفضه على حساب مصالحهم الشخصية حتى بعد أن يكونوا قد تعرفوا إليه.

هكذا، أندريه جيد، بعد أن تاب عن اضطراباته الجنسية المثلية وأعلن عن محبته لله، يتوجّه إليه قائلاً:

“أغفر لي يا رب! نعم، أعلم أنني أكذب. الحقيقة، هي أن هذا الجسد الذي أكره، ما زلت أحبه أكثر منك” (“أندريه جيد بنفسه”، كتاب كل الأزمنة، دار نشر لو سوي، كلود مارتن، 1963).

عددهم كبير الذين يفكرون بهذه الطريقة.

دعا الله إبراهيم إلى ترك بلاده، سورية، أهله وبيت أبيه. كان يجب إبعاده عن محيطه الوثني والمتعدد الآلهة بغية عزله، بعيداً عن كل تلوث روحي وانتقاد معارض. أرسله الله إلى حيث لا يعرفه أحد لحماية مخططه وضمان حسن تطوره. كان على ابراهيم أن ينفصل عن المجتمع الذي كان يعرفه، عن الأهل والأصحاب الذين كانوا يشكلون خطراً كبيراً على إيمانه الجديد. هذا هو حال كل إنسان عندما يبدأ باكتشاف الله والحياة الروحية؛ الاكتشاف الذي يثير عداء الماديين. ألم يقل يسوع: “يكون أعداء الإنسان أهل بيته” (متى 10، 36). كل من يسمع نداء الله ويريد الانجذاب إلى حياة الروح عليه ان يعرف كيف يتخلص من الحالة، أن يجرّد ذهنيته، أن يحررها من الروابط التي تؤدي إلى إعاقة اندفاعه الداخلي. لقد تم تفسير ذلك في “التمهيد” و “إدراك الذات”. يجب التحلي بالشجاعة لقطع العلاقة مع كل إنسان يعيق تطورنا، حتى ولو كان من أحد افراد العائلة. يقول المزمور (45، 10 – 11) للنفس المؤمنة: “اسمعي يا ابنتي انظري وأميلي أذنك، إنسي شعبك وبيت أبيك (حرري نفسك!)، فيشتهي الملك جمالك، هو سيدك فاسجدي له!”. ويقول المسيح أيضاً بهذا الخصوص: “من أحب أباه وأمه أكثر مما يحبني، فلا يستحقني” (متى 10، 37).

ها هي الآن النقاط الأكثر أهمية في هذا الدرس:

وعد الله إبراهيم بنسل وأرض (تكوين 12، 6 – 7)

بعد أن طلب من إبراهيم أن يترك بلاده، سورية، أعلن الله لإبراهيم أنه سيحميه ويكافئه: “لا تخف يا أبرام، أنا ترس لك، وأجرك عندي عظيم جداً”. هذا الإعلان لم يرضي المدعو: “ايها السيد الرب، ماذا تعطيني؟ إني منصرف عقيماً…” (تكوين 15، 1 – 6).

cb_sites-mesopotamiens_ar
مواقع قديمة في بلاد ما بين النهرين والشرق الأدنى ذات صلة بتاريخ البطاركة

إضافة إلى هذا الوعد وعده الله أن يعطيه، هو ونسله، أرض ميعاد كتعويض عن تلك التي تركها: “لنسلك أعطي هذه الأرض” (تكوين 12، 7). ينتقل الكتبة بشكل مفاجئ من النسل الذي طالب به إبراهيم إلى أرض غير مطلوبة وغير محددة، لم يتم تحديدها إلا لاحقاً: أرض كنعان، فلسطين.

هذه الهبة الجغرافية لنسل ابراهيم هي في أصل مفهوم “أرض الميعاد” التي نسبها العبرانيون، على مر القرون وعلى نحو غير صحيح، بصورة حصرية. لتصحيح هذا التفسير الباطل، يجب فهم ما هما، وفقاً لله، هذه الأرض وهذا النسل الحقيقي لإبراهيم.

الأرض التي وعد بها الله ليست بقعة جغرافية، إنها رمز لواقع أبدي أسمى. المقصود هو النعيم السماوي، الذي كان يتمتع به آدم قبل طرده من الفردوس. “أرض الميعاد” هذه ترمز إلى الله نفسه، الوحيد القادر على إرواء الروح المتعطشة للحياة والسعادة بشكل تام؛ الخالق هو الوطن الوحيد المستقر والآمن، إلى الأبد.

يؤكد القديس بولس الرسول على هذه الحقيقة الروحية لأرض الميعاد بقوله: “بالإيمان لبّى إبراهيم دعوة الهر فخرج إلى بلد وعده الله به ميراثاً… نزل في أرض الميعاد كأنه في أرض غريبة… لأنه كان ينتظر المدينة الثابتة على أسس والله مهندسها وبانيها” (عبرانيين 11، 8 – 10). هذه المدينة الغير أرضية هي الله نفسه، لأنه، كما يفسر بولس أيضاً، “ما لنا هنا في الأرض مدينة باقية، ولكننا نسعى إلى مدينة المستقبل” (العبرانيين 13، 14).

أمّا بالنسبة إلى نسل ابراهيم، فإنهم تلاميذ يسوع. يشير بولس إلى هذا الواقع بقوله: “فإذا كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم ولكم الميراث (الأرض السماوية) حسب الوعد” (غلاطية 3، 29).

دعا الله إبراهيم إلى الاستقرار في أرض كنعان ليعيش فيها بسلام مع سكانها. المقصود الإلهي كان أن تنشر هذه الطائفة التوحيدية الأولى نور الله حولها بإخاء وحكمة. هدف الله لم يكن “طرد أهل الأرض…” كما يعلن الكتبة دون خجل في كتاب العدد (العدد 33، 55). إن مثل هذه الآيات هي التي أدانها النبي إرميا واصفاً إياها بالكذب (إرميا 8، 8). هدف الله من خلال دعوته لإبراهيم لم يكن أبداً سياسياً أو وطنياً، بل روحياً وشاملاً.

عندما اقتحم اليهود فلسطين في القرن الثامن ق.م، بعد خروجهم من مصر مع موسى، استقروا فيها وأرادوا إقامة مملكة إسرائيلية. هذا التسييس للديانة اليهودية أدانه الله والأنبياء.

لم تكن مهمة إبراهيم تأسيس أمّة “كسائر الأمم”، بل تكوين طائفة توحيدية تشمل كل الأمم. هذه المهمة كانت ترتكز على الكشف عن الله الواحد وتحضير البشرية لاستقبال المسيح. لقد انحرف اليهود عن مخطط الله الشامل بتحويل الديانة اليهودية إلى صهيونية سياسية.

عندما ألّف الكتبة التوراة في القرن العاشر ق.م، كانت المملكة الإسرائيلية قد تأسست وقتئذٍ. كتابة التوراة تمت إذاً بروح مسيّس، مصهين. عَبَر الوحي الإلهي من خلال الموشور الصهيوني، وعمل الكتبة كل جهدهم لتضمين النصوص لهجات وإشارات مؤيدة لسياستهم. بالتالي لم يتغاضى الأنبياء عن إدانة هذه الممارسة “الكاذبة” (إرميا 7، 22 / 8، 8).

لإقامة دولة إسرائيلية، في الأمس كما اليوم أيضاً، ارتكبت جرائم مشينة ولا زالت ترتكب حتى اليوم. النبيان ميخا وإشعيا، ثمانية قرون ق.م، أدانا “رؤساء بيت يعقوب وقواد بيت إسرائيل الذين يمقتون الحق ويعوجون كل استقامة، الذين يبنون صهيون (الصهيونية) بالدماء وأورشليم (عاصمة إسرائيل) بالظلم” (ميخا 3، 9 – 10). “ويل للذين يصلون بيتاً ببيت ويقرنون حقلاً بحقل حتى لم يبقى أي مكان فتسكنون وحدكم في وسط الأرض” (إشعيا 5، 8).

كذلك، وفقاً للأنبياء أنفسهم، القومية اليهودية لا يمكن أن تبنى إلا على الظلم.

في القرن الثاني عشر ق.م، فهم جدعون ذلك ورفض رفضاً قاطعاً طلب اليهود بأن يتوّجوه ملكاً عليهم: “لا أنا أتسلط عليكم ولا ابني يتسلط عليكم، بل الرب هو يتسلط عليكم” (القضاة 8، 22 – 23). النبي صموئيل رفض هو أيضاً الخضوع لطلب الرؤساء الإسرائيليين الذين طلبوا منه قائلين: “أقم علينا ملكاً يقضي بيننا كما هي الحال في جميع الأمم. فاستاء صموئيل من قولهم…” حاول النبي ثنيهم، لكن “شيوخ الشعب رفضوا أن يسمعوا لصموئيل وقالوا: بل يملك علينا ملك. ونكون نحن أيضاً كسائر الشعوب” (صموئيل الأول 8، 4 – 21). أدرك الشعب فيما بعد أنه اقترف إثماً خطيراً بتأسيس مملكة واعترف لصموئيل: “زدنا على جميع خطايانا سوءاً حين طلبنا لنا ملكاً” (صموئيل الأول 12، 19).

يسوع، بدوره، رفض هذه المملكة الأرضية. لهذا السبب، عندما رأى أن القوميين اليهود المنبهرين بأعاجيبه “يستعدون لاختطافه وجعله ملكاً، ابتعد عنهم ورجع وحده إلى الجبل” (يوحنا 6، 15). وأمام بيلاطس الذي سأله: “أأنت ملك اليهود؟”، أجاب يسوع: “أنت قلت، أنا ملك… لكن ما مملكتي من هذا العالم” (يوحنا 18، 36 – 37).

لذلك، فإن كل مسيحي يعترف بحق اليهود اعتبار فلسطين أرضهم الموعودة، يبرهن أنه لم يفهم شيئاً من رسالة يسوع. المسيحي الذي يؤيد تأسيس دولة إسرائيلية يتخلى عن شهادته ليسوع.

لاحظ، أخيراً، أن حدود هذه الأرض “الموعودة” في الكتاب المقدس تتغير وفقاً لطموحات وشهية الكتبة المتعددين على مر القرون: في التكوين 15، 18، تمتد هذه الحدود من النيل إلى الفرات. في العدد 34، 1 – 2، تتوقف حدودها الشرقية عند بلاد الأردن والبحر الميت، بعيداً جداً عن الفرات… في يشوع 1، 4، تمتد من جديد إلى الفرات، لكن حدودها الغربية تنحصر بسيناء ولا تتجرأ على الامتداد حتى نهر النيل. لو كان الله هو من أوحى بهذه الحدود الإسرائيلية، لما كانت خيالية لهذه الدرجة. فالله لا يناقض نفسه.

ملكيصادق (تكوين 14، 17 – 20)

من المهم جداً أن نعرف ملكيصادق لأنه يرمز إلى المسيح كما يفسر بولس في عبرانيين 7، 1 – 3: “ملكيصادق هو ملك شليم… ليس له أب ولا أم (معروفين) ولا نسب، وليس لأيامه بداية ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله (يسوع)…”

إقرأ الآن دفعة واحدة الفصول 12 إلى 50 من كتاب التكوين. ستصادف نقاطاً غامضة وغريبة عن عقليتنا وعن عادات القرن الواحد والعشرين. لا تتوقف عندها، بل تابع قراءتك حتى النهاية. عندما ستستأنف بعد ذلك دراسة الكتاب المقدس، ستحصل على كل التوضيحات الضرورية. لاحظ طوال قراءتك كيف خلق الله بواسطة إبراهيم في ذلك الوقت مجتمعاً توحيدياً وسط أمم وثنية. لاحظ دوره الروحي الغير سياسي. أنشأ الله هذه الطائفة انطلاقاً من رجل سوري، ولم يختار شعباً عبرانياً، كون هذا الأخير لم يكن موجوداً في تلك الفترة.

الفصل 14 يروي حرب إبراهيم لإنقاذ ابن أخيه لوط. لقد شرحت لك لماذا الآية 13 تذكر إبراهيم “العبراني”، وهي كلمة دسّها الكتبة لإعطاء الانطباع أن العبرانيون كانوا موجودين منذ بدء العالم. تذكّر دائماً أن شعاع الوحي الإلهي قد عبر من خلال موشور السياسة الصهيونية العنصرية المشوّه. لاستعادة هذا الشعاع بنقاوته وصفائه، يجب، كم قلت لك سابقاً، تطهير الكتاب المقدس من محتواه السياسي الصهيوني، تماماً كما يُصفّى الذهب من الوحل بالنار، وكما يُفصل القمح عن الزؤان.

بعد انتصار إبراهيم، جاء ملكيصادق ليهنئه ويباركه. من هو ملكيصادق؟ ملكيصادق ليس معروفاً من التاريخ البشري. كتاب التكوين لا يكشف سوى جوانبه الرمزية، الخطوط، كما يفسر بولس، التي تجعله “على مثال ابن الله”، يسوع (العبرانيين 7، 1 – 3). كتاب التكوين يكشف أنه في نفس الوقت ملك وكاهن. إنه ملك “شليم” (أورشليم) وفي نفس الوقت كاهن “الله العلي”، أعلى وأكبر قدرة من جميع آلهة الميثولوجيا الشرق أوسطية. تجدر الملاحظة أن هذا الله العلي هو “خالق السماوات والأرض” (تكوين 14، 19). الله الذي كان يعبده ملكيصادق هو إذاً، من غير علمه، الله الواحد الخالق الذي نعرفه، الذي تجلى لإبراهيم، ثم لموسى، وتجسد في مسيحه، يسوع الناصري.

ملكيصادق يجسّد إذاً المسيح الذي، مثله، هو في نفس الوقت كاهن وملك. يسوع هو كاهن لأنه قدّم نفسه بنفسه ذبيحة لله – لا على يد كاهن آخر – على مذبح الصليب في أورشليم، مدينة ملكيصادق. يسوع هو أيضاً الملك الروحي، سيد القلوب، كون مملكته ليست سياسية وتشمل جميع البشر من كل الأعراق واللغات. يملك يسوع على المؤمنين انطلاقاً من أورشليم السماوية (رؤيا 21، 2)، الممثلة بأورشليم الأرضية، “شليم” ملكيصادق. من أورشليم إذاً ملكيصادق ويسوع يملكان ويقدّمان قرابينهما. بتقديمه ملكيصادق ملك وكاهن “شليم”، كان الله يشير إلى ملك وكاهن آخر سيخرج بعد 2000 سنة من هذه المدينة بالذات: يسوع، الذي، هو أيضاً، يقدّم الخبز والخمر إلى خاصته كل يوم.

يسوع هو كاهن، لكن كهنوته يختلف عن كهنوت الوثنيين الذي يكتفي بذبح الحيوانات لله. كهنوت المسيح يشبه كهنوت ملكيصادق الذي جلب “خبزاً وخمراً لأنه كان كاهناً لله العلي”، كما يفسّر بطريقة مباشرة تكوين 14، 18. المعنى الحقيقي للخبز والخمر أوضحه يسوع أثناء عشاء الفصح الأخير مع رسله: الخبز هو جسده الممزق والخمر هو دمه الذي أهرق على الصليب (متى 26، 26 – 29). خبز وخمر يسوع إذاً يجعلان ذبيحته حاضرة. إنها ذبيحة النظام الكهنوتي الجديد الذي أسسه يسوع لخلاص جميع المؤمنين، والذي يبطل ذبائح الحيوانات التي حددتها التوراة، لكن الغير قادرة على تليين قلب الله: “لأن دم الثيران والتيوس لا يقدر أن يزيل الخطايا”، كما يقول بولس (عبرانيين 10، 4). كل ذلك سيصبح أكثر وضوحاً فيما بعد.

ملكيصادق، كملك كاهن، بارك إبراهيم مستلم العهد الإلهي: “مبارك أبرام من الله العلي، خالق السماوات والأرض” (تكوين 14، 19). لاحظ في الآية 14، 22 أن إبراهيم حلف أمام ملك سدوم “بالرب الإله العلي، خالق السماوات والأرض”. كشف بالتالي أنه لا يوجد سوى إله واحد خالق، وليس إله ميثولوجيا، مبهم ومجهول، بل “يهوه”، (كلمة تعني “الذي هو”)، إله الوحي الذي تجلى شخصياً للبشر، من خلال ابراهيم.

ملكيصادق يظهر بغتةً، كمشهد خارج إطار سياق النص، مقاطعاً قصة لقاء ملك سدوم مع ابراهيم التي تستأنف فوراً بعد ذلك. ذلك أيضاً رمزي: الروحاني يقتحم حياتنا الزمنية، يقاطع مجرى التاريخ الدنيوي ليكشف ذاته للإنسان، ليجذب انتباهه. ثم تتتابع فصول قصة ملك أدوم: يتابع حديثه مع إبراهيم. هذا يعني أن على الإنسان أن يواصل حياته الطبيعية بعد أن يلتقي الروحانية، لكن عليه أن يبذل جهده أن لا ينسى أبداًهذا العالم الروحاني الذي انكشف له.

المدهش في هذه القصة هو أن إبراهيم، مستلم العهد الإلهي، يعطي ملكيصادق “العشر من كل شيء” (تكوين 14، 20). وهذا الأخير أيضاً هو الذي يبارك إبراهيم: “انظروا ما أعظمه! إبراهيم نفسه، وهو رئيس الآباء، أعطاه العشر من خيرة الغنائم… ملكيصادق أخذ العشر من إبراهيم وباركه وهو الذي نال الوعد من الله. ولا خلاف في أن الأكبر يبارك الأصغر (إبراهيم)”،قال القديس بولس (عبرانيين 7، 4 – 7). سبب عظمة ملكيصادق هو أنه كان يجسد كهنوت المسيح. فسّر الملك داود هذا التجسد في مزمور (نشيد موحى) بعد 800 سنة. يتوجه إلى المسيح الآتي بهذه العبارات: “أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق” (مزمور 110، 4).

ملكيصادق يجسّد المسيح إذاً لأن كهنوته يمثل الكهنوت الذي يرضي الله، العبادة “بالروح والحق” كما يفسر يسوع (يوحنا 4، 23)، لا الكهنوت البشري بحركته المالية وعبادته الشعائرية (الملابس الكهنوتية، البخور، الزينة، حركات معينة إلخ…). الله لا يتأثر بمثل هذا الكهنوت المسرحي: فقد تدخل على مر التاريخ البشري ليكشف لنا أن كهنوت ملكيصادق، رغم ما كان عليه من وثنية، هو بالنسبة له أهم من العبادات التي تزعم التديّن. لذلك كشف أن كهنوت مسيحه ليس على رتبة هارون، العبراني – مع أنه متحدر من إبراهيم، كما سترى لاحقاً – إنما على رتبة غريبة عن هذه السلالة الجسدية. يتحقق ذلك بيسوع الذي أسس، من خلال صلبه، كهنوتاً غريباً عن اليهود. يسوع هو كاهن، بل إنه كبير الكهنة لكهنوت جديد، بالرغم من أنه ليس من عشيرة لاوي، كما يفسر بولس في رسالته إلى العبرانيين، الفصول 5 إلى 7. بالنسبة لليهود، وحدهم بني لاوي من سلالة هارون، يمكنهم أن يكونوا كهنة وأن يقرّبوا الذبائح (العدد 18). بيسوع، قلب الله كل هذا المفهوم البشري للكهنوت بإبطاله، من خلال الصليب، أضاحي الحيوانات.

مع كتاب الرؤيا، (كما سترى ذلك لاحقاً)، يقلب الله المفهوم الشعائري للكهنوت المسيحي من خلال تأسيس كهنوت جديد مؤلف من جميع الذين يؤمنون بالتفسير الوحيد لكتاب الرؤيا الذي كشفه يسوع بنفسه في 13 آيار 1970. (راجع نص “مفتاح سفر الرؤيا”.)

كذلك، بما أن ظهور ملكيصادق كان قصيراً ولم يعاد ذكره سوى مرة واحدة أيضاً في العهد القديم (المزامير 110، 4)، فإن الإشارة إلى هذه الشخصية الغامضة تتضمن تعليماً ثميناً يسمح للمؤمن الشجاع بأن يتحرر من العبادات التقليدية المشربة بالمعتقدات الباطلة والعنصرية، ليصل بالتالي إلى أعلى درجات الاتحاد الروحي مع الله من خلال كهنوت القلب، على “رتبة ملكيصادق”، لا على رتبة عبادة مسرحية يهودية، مسيحية، إسلامية، بوذية، أو بشرية مهما كانت… فقد قال يسوع: “يعبد العابدون الصادقون الآب بالروح والحق. هؤلاء هم العابدون الذين يريدهم الآب. الله روح، وبالروح والحق يجب على العابدين أن يعبدوه” (يوحنا 4، 23 – 24).

هذا هو التعليم الذي يجب حفظه من ملكيصادق.

من الأفضل، في هذه المرحلة، قراءة الفصول من 5 إلى 10 من رسالة بولس إلى العبرانيين. فبولس يعلّق بطريقة رائعة على دور ملكيصادق ويعرض أهمية كهنوت يسوع الجديد لخلاص البشرية. إنه الخلاص الذي وعد به آدم وحواء.

عهد الأنصاف (تكوين 15، 7 – 17)

لقد وعد الله إبراهيم، الذي كانت زوجته عاقراً ومسنّة، نسلاً وأرض ميعاد. هذا الإبن الذي طال انتظاره لم يأتِ. كان إبراهيم، ذو السنوات الثمانين، يشكو إلى الله أن غريباً سيرث بيته: “يا سيدي الرب ما رزقتني نسلاً، ووارث بيتي هو أليعازر الدمشقي”. لكن الله قال له: “لا يرثك أليعازر، بل من يخرج من صلبك هو الذي يرثك”. يطلب إبراهيم بعدئذ أن يتثبت من الأرض التي سيسكنها بعد أن يترك حاران: “يا سيدي الرب، كيف أعلم أني أرثها؟”. كان إبراهيم بحاجة لعلامة ملموسة ليؤمن بالمعجزة، خاصة في ذلك الزمن. لقد فهم صعوبة رسالته والعهد مع الله، وأراد أن يكون “توقيع” الله موضوعاً في أسفل “العقد” بينهما. فيقول له الله: “خذ لي عجلة عمرها ثلاث سنوات، وعنزة عمرها ثلاث سنوات، وكبشاً عمره ثلاث سنوات، إلخ…”. فأخذ إبراهيم “كل هذه الحيوانات وشطرها أنصافاً (بعد أن ذبحها) وجعل كل شطر مقابل الشطر الآخر” (تكوين 15، 1 – 11).
كي نفهم هذا النص، يجب أن نعرف أن الناس في زمن إبراهيم كانوا خرافيين. كذلك، كانت العادة أن يبرم كل اتفاق بالطريقة التالية: كان يؤتى بحيوان (أو عدة حيوانات وفقاً لأهمية العقد) يذبح لهذا الغرض، ثم يشطر إلى نصفين يعبر بينهما المتعاقدان. هذا العبور بين الشطرين كان يعني إبرام العقد وأن الفئة التي تنقض بنود العقد يكون مصيرها كمصير هذا الحيوان (أو هذه الحيوانات) فتشطرها الآلهة من النصف. بقيت هذه العادة تمارس من قِبل اليهود بعد إبراهيم بقرون عديدة، يذكرها النبي إرميا في القرن السادس ق.م، 1500 سنة بعد إبراهيم، الذي يدين خيانة العبرانيين بهذه العبارات: “أمّا الرجال الذين خالفوا عهدي ونقضوا ما تعاهدوا عليه أمامي حين قطعوا العجل شطرين ومرّوا بين قطعتيه، وهم رؤساء يهوذا وأورشليم والخصيان والكهنة وجميع شعب هذه الأرض، فأسلمهم إلى أيدي أعدائهم، وأيدي الذين يطلبون حياتهم” (إرميا 34، 18 – 20).

للإشارة إلى أنه سيحقق وعده لإبراهيم، يعبر الله بين القطع المشطورة “مثل تنور دخان ومشعل نار”. يفسر كتاب التكوين أنه “في ذلك اليوم قطع الله عهداً مع أبرام” (تكوين 15، 17 – 18). هكذا يكون الله قد “وقّع” العقد مع الذي اختاره. كانت هذه الرؤية هي العلامة الملموسة التي طلبها إبراهيم.

كان الاعتقاد سائداً في ذلك الوقت أنه إذا التهمت الطيور الكاسرة لحم أضاحي الحيوانات، سيكون ذلك بمثابة نذير شؤم للعقد. لذلك يقول الكتاب المقدس: “انقضت الطيور الكاسرة على الجثث، فأخذ أبرام يزجرها” (تكوين 15، 11). هذه علامة إضافية للدلالة على نجاح هذا العهد. سيحصل إبراهيم إذاً على “أرضه”، ونسله من ساراي، زوجته العجوز والعاقر. على الرغم من الاستحالة البشرية لتحقيق بنود العقد “آمن أبرام بالرب، فبرره الرب لإيمانه” (تكوين 15، 6). إيمان إبراهيم هو نور لجميع المؤمنين. حرّك هذا النور الرسل وغالباً ما استند إليه بولس وتناوله كعبرة: “هكذا آمن إبراهيم بالله، فبرره الله لإيمانه. إذاً، فأهل الإيمان هم أبناء إبراهيم الحقيقيون” (غلاطية 3، 6 – 7).

هذه الرؤية تقودنا إلى نتيجتين مهمتين علينا أن نحفظهما كي نفهم روح الكتاب المقدس:

1) الله هو مربّي: يستعمل لغة الإنسان ويحترم ذهنيته. ينزل إلى مستواه، يتوجه إليه بلغة بشرية ليتمكن هذا الأخير من فهمه، ثم يرفعه تدريجياً إلى الفكر الإلهي الذي هو الروح القدس. أيضاً، بعبوره بين الأنصاف، يعطي الله إبراهيم علامة يستطيع فهمها.
2) كي نفهم أي نبي، علينا أن نضعه في إطاره التاريخي والاجتماعي. لا يصح ذلك بالنسبة للعهدين القديم والجديد فقط (القديم بالتوراة، والجديد بالإنجيل)، بل اليوم أيضاً للعهد الرؤيوي، عهد نهاية الأزمنة الذي هو العهد الأخير، فرصة البشر الأخيرة لإصلاح أنفسهم. علينا أن ننظر إلى الرسول الرؤيوي بأعين جديدة و، لنتمكن من فهمه، علينا أن نضعه في الإطار التاريخي والاجتماعي لعصره: القرن العشرين والواحد والعشرين.

إسماعيل (تكوين 16)

إبراهيم وسارة، اللذان كان يجهلان قدرة الله، لم يفهما كيف سيعطيهما الله ابناً وهما عجوزان وسارة عاقر. فالأعاجيب لم تكن معروفة بعد في أيامهما.

في ذلك الوقت، كان يوجد قانون للملك حمورابي يقضي بأنه في حال العقم، يمكن للزوجة الشرعية أن يكون لها أولاد يعتبرون شرعيين من خلال سماحها لزوجها بمضاجعة خادمتها. الطفل المولود من هذه العلاقة الخارجة عن الزواج كان يُعتبر مع ذلك طفل الزوجين، بشرط أن تحمله الزوجة الشرعية فور ولادته بين ذراعيها تعبيراً عن موافقتها الكاملة (اليوم يوجد ما نسمّيه “أمهات حاملات”).

عندما رأت سارة، التي كان إيمانها أقل صلابة من إيمان زوجها والتي كانت تعلم أنها عاقر، أن هذا الابن لم يأتي، دفعت بإبراهيم نحو هاجر، جاريتها المصرية، قائلة له: “الرب منع عني الولادة فضاجع جاريتي لعل الرب يرزقني منها بنين” (تكوين 16، 2). هذا التصرف سيتكرر لاحقاً مع يعقوب، إبن ابراهيم الأصغر، الذي سيتزوج جاريتي زوجتيه، راحيل (تكوين 30، 1 – 6) وليئة (تكوين 30، 9 – 13).

من تزاوج إبراهيم وهاجر وُلد إسماعيل. كان إبراهيم وقتئذٍ يبلغ 86 سنة من العمر (تكوين 16، 16). تجدر الملاحظة أن الله لم يستعجل بتحقيق وعده بإعطاء إبراهيم إبناً من سارة؛ هذه طريقته بجعل الإنسان ينمو لبلوغ النضج الإلهي بالصبر.

هكذا، أخذت سارة مبادرة الحصول على إبن على طريقتها. إنما لله مخططه الخاص الذي لا يريد تعديله. مولد إسماعيل لم يثنيه عن الظهور مجدداً لإبراهيم ليكشف له عن مخططه الرائع: “أمّا ساراي امرأتك فلا تسمها ساراي، بل سارة. وأنا أباركها وأعطيك منها ابناً… فوقع إبراهيم على على وجهه ساجداً وضحك وقال في نفسه: أيولد ولد لابن مئة سنة؟ أم سارة تلد وهي ابنة تسعين سنة؟ فقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يحيا أمامك!”. لكن الله شدد قائلاً: “بل سارة امرأتك ستلد لك ابناً وتسميه إسحق، وأقيم عهدي معه” (تكوين 17، 15 – 19). كان هذا الإعلان عن الأعجوبة الأولى في التاريخ البشري. العهد كان يعني أن المسيح سيأتي من سلالة إسحق.

إسحق (تكوين 17 و18)

كان على إبراهيم أن ينتظر مطولاً هذا الابن المُعلن عنه في عهد “الأنصاف”. فإسحق لم يولد إلا خمسة عشر سنة بعد هذه الرؤية.

عند إعلان ولادته، “ضحك” أباه وأمه على السواء (تكوين 17، 17 و 18، 12). مناسبة الضحك هذه هي في أصل اسم إسحق الذي يعني “يضحك” في العبرانية: “الله جعلني أضحك، وكل من سمع يضحك لي أيضاً. من كان يقول أن سارة سترضع لإبراهيم بنين؟ وها أنا ولدت له ابناً في شيخوخته!”، قالت زوجة الشيخ فرحةً، والتي كانت عند ولادة إسحق تبلغ 90 سنة وزوجها 100 سنة من العمر (تكوين 21، 6 – 7). وحده الله كان يستطيع أن يعلن لإبراهيم مثل هذه المفاجأة وأن يحققها. بالنسبة للزوجين المسنين كان هناك فعلاً ما يدعو للضحك. لكنّا فعلنا نفس الشيء. كثير من الناس يضحكون أمام تسعينية حامل.

يتمتع إسحق بأهمية كبيرة لأنه يأتي ليجسّد العلامة التي طلبها إبراهيم من الله: هذا الابن هو إتمام لعهد “الأنصاف”. هذه العلامة، التي يتعذر على العلم تفسيرها، هي شاهد رهيب لبشر كل الأزمنة. لا تخص إذاً إبراهيم وحده، بل تشملنا جميعاً لأن العهد الذي على إسحق أن يخلّده هو من خلال المسيح؛ على هذا العهد أن يأتي من نسل ابن إبراهيم، وليس من نسل أحد آخر، لأن الله يقول: “أمّا إسماعيل فسمعت لك، وها أنا أباركه… لكن عهدي أقيمه مع إسحق” (تكوين 17، 20 – 21).

لقد عززت هذه الأعجوبة إيمان إبراهيم، كما يجب أيضاً أن تعزز إيماننا. لهذا الهدف أرادها الله.

إن مخطط الخلاص الذي أعلنه الله لآدم وحواء يتحقق إذاً من خلال إبراهيم. عليه أن يظهر كمبادرة وتدخل إلهيين، برهان قاطع عن جبروت الله، وعن مخطط إلهي على البشر أن يحترموه ويتبعوه. وحدهم المؤمنون الصادقون سيرون ويفهمون.

لاحظ صبر الله: ليس إلا بعد 13 سنة من ولادة إسماعيل حتى أوضح الله مخططه لإبراهيم. فهذا الأخير لم يكن يفكر أبداً أنه سيرزق بأبناء آخرين، ولا حتى زوجته. فقد كانا مكتفيان باسماعيل. لكن لله مخططه و، ليحققه بشكل كامل، كان عليه أن يقلب المفاهيم البشرية رأساً على عقب. تلك هي حكمته. على الخليقة أن تتعلم باستمرار أن تتأقلم مع مشيئة الخالق؛ ستكتشف حكمة الله العميقة من خلال خضوعها لمشيئته دون مقاومة ولن تندم أبداً من استسلامها له تعالى.

مع إسحق، برهن الله عن جبروته. بهذه الطريقة حضّر البشرية لأعجوبة أخرى، تفوقها روعة، أعجوبة ميلاد المسيح 2000 سنة بعد إبراهيم: وُلد يسوع من مريم العذراء بتدخل إلهي مباشر، من دون تدخل بشري: “أرسل الله الملاك جبرائيل إلى عذراء اسمها مريم… وقال لها: ستحبلين وتلدين ابناً… وابن الله العلي يُدعى… الروح القدس يحل عليكِ… فالقدوس الذي يولد منكِ يُدعى ابن الله…” (لوقا 1، 26 – 38).

يأتي إسحق إذاً ليحضّر البشر لاستقبال المسيح. فلم يعد من مبرر لعدم الإيمان بولادة يسوع الأعجوبية.

الختان (تكوين 17، 9 – 14)

الختان هو عادة تعود إلى زمن ما قبل الكتاب المقدس؛ كانت موجودة قبل إبراهيم، وكانت يمارسها الوثنيون لأسباب مختلفة. في الحرب، كان المنتصرون يخضعون المهزومين لـ “إذلال” الختان. هذه الحقيقة مذكورة في الكتاب المقدس عندما طلب الملك شاول من داود “مئة غلفة من الفلسطينيين انتقاماً من أعدائه” (صموئيل الأول 18، 25). هذه الممارسة إذاً لا تعني بالضرورة عهداً مع الله، حتى ولو أن كتبة العهد القديم يقدمونها كـ “علامة للعهد” مع الله (تكوين 17، 11).

منذ العصور القديمة، كانت عادة الختان تمارس في جميع أنحاء العالم. اليوم أيضاً، بعض القبائل في أستراليا، أفريقيا وأميركا يعتبرونه رمزاً للرجولة: الأب يرفض تزويج ابنته لغير مختون. بعض الشعوب تجري هذه العملية حتى للفتيات (استئصال البظر).

عندما رأى إبراهيم أن الوثنيين كانوا يختتنون لأجل آلهتهم، ظنّ أن الأجدر به أن يختتن هو أيضاً من أجل الله الواحد الحقيقي. لكن مع الوقت، فهم الأنبياء القيمة الرمزية للختان، فقد طلب موسى أن يكون الختان ختان القلب (التثنية 10، 16). إرميا بدوره أصر على تطهير النفس من خلال ختان القلب (إرميا 4، 4). لم يتوقف هذا النبي الكبير على دعوة المؤمنين إلى التأمل و “تطهير” الضمير، بل قام بإدانة وهم وسطحية ختان القلف، مشدداً على أن الوثنيون يمارسونه أيضاً: “ستأتي أيام يقول الرب أعاقب فيها المختونين بالجسد مع غير المختونين من أهل مصر ويهوذا وأدوم… فإذا كان كل هؤلاء الأمم غير مختونين بالجسد، فكل بيت إسرائيل غير مختونين بالقلب” (إرميا 9، 24 – 25). لاحِظ أن يهوذا (اليهود) وُضعت في نفس مرتبة وثنيي ذلك الوقت (مصر وأدوم) على الرغم من الختان، وأن هذه العادة كانت تمارس خارج حدود فلسطين.

يجب مقارنة الختان مع العبادات العصرية المستوحاة من الوثنية: ملابس الكهنة، التبخير، السجود إلخ… جميع أشكال العبادة هذه ليست سوى أوهام، تديّن مفرط سطحي لا يرضي الله ولا يساهم في التطور الروحي. إنها عراقيل مادية أمام الارتقاء الحقيقي للنفس. يمكننا أن نقول نفس الشيء عن معمودية الماء؛ ليست سوى رمز. العبادة الوحيدة الصحيحة هي العبادة بالمعرفة والمحبة، عبادة الله “بالروح والحق” كما سبق ذكره (يوحنا 4، 23 – 24).

مع الإنجيل، ننتقل بشكل نهائي من المفهوم المادي للختان إلى المفهوم الروحي الذي يبطل هذه العادة: “لا الختان له معنى، ولا عدم الختان، بل الخير كل الخير في العمل بوصايا الله”، يقول بولس (كورنثوس الأولى 7، 19). وأيضاً: “ففي المسيح يسوع لا الختان ولا عدمه ينفع شيئاً، بل الإيمان العامل بالمحبة” (غلاطية 5، 6)، وفي المسيح كان ختانكم ختاناً، لا بالأيدي، بل بنزع جسم الخطايا البشري، وهذا هو ختان المسيح”، كما يضيف بولس (كولوسي 2، 11).

هذا الشعب “باطلاً يعبدني”، قال يسوع عن الكتبة والفريسيين بالرغم من ختانهم (متى 15، 9). إشعيا، كمعظم الأنبياء، شجب هو أيضاً هذه العبادات: فقد “قال الرب: هذا الشعب يتقرب مني بفمه ويكرمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيد عني. فهو يخافني ويعبدني بتعاليم وضعها البشر” (إشعيا 29، 13). نندهش من إصرار “تلاميذ” يسوع اليوم أيضاً على العبادة طبقاً لشعائر وطقوس أدانها يسوع والأنبياء: “يا مراؤون، صدق إشعيا في نبوءته عنكم حين قال: هذا الشعب يكرّمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيد عني. وهو باطلاً يعبدني بتعاليم وضعها البشر”، يكرر يسوع (متى 15، 7 – 9).

كشف الثالوث الألهي (تكوين 18)

الفصل 18 يكرر إعلان الله لإبراهيم عن ولادة إسحق، لكن هذه المرة بحضور امرأته سارة. في الرواية الأولى، إبراهيم هو الذي “ضحك” (تكوين 17، 17)، لكن في الرواية الثانية، إنها سارة، التي “كانت تسمع عند باب الخيمة وراء إبراهيم”… والتي “امتنع أن يكون لها عادة كما للنساء”، هي التي “ضحكت في نفسها وقالت: أبعدما عجزت وشاخ زوجي تكون لي هذه المتعة؟” (تكوين 18، 11 – 12).

في الروايتين نميّز تكرار ذكر أن إسحق سيولد “في مثل هذا الوقت من السنة المقبلة” (تكوين 17، 21 / 18، 14). يوجد هنا تقليدين شفهيين، الثاني يريد احترام كرامة الشيخ الجليل: ليس إبراهيم من ضحك وشكّ، بل سارة التي إيمانها أضعف من إيمان زوجها الذي يُعتبر دون عيب. الرواية الأولى تعود للتقليد الألوهي: “قال الله لإبراهيم…” (تكوين 17، 9 – 22)، والثانية تعود للتقليد اليهوي: “وتراءى الرب يهوه لإبراهيم عند بلوط ممرا…” (تكوين 18، 1 – 14).

الله، الذي يعرف ما في القلوب، رأى أن سارة ضحكت في نفسها، فسألها لماذا ضحكت، لا ليثقلها، إنما ليجعلها تدرك جبروته. سارة، التي رأت أنها انكشفت، تملّكها الخوف وأنكرت قائلة: “ما ضحكت”. لكن الله الطيب والمتفهم عاد وقال لها: “لا، بل ضحكتِ”، ولم يعتبر تصرف خليقته “الصغيرة” الخائفة كذباً (تكوين 18، 15).

النقطة الأهم في هذه الرواية الثانية هو الكشف عن الثالوث الإلهي. فقد ظهر الله لإبراهيم على هيئة ثلاثة أشخاص: “رفع عينيه ونظر فرأى ثلاثة رجال واقفين أمامه” (تكوين 18، 2).

الحوار بين الله وإبراهيم موحٍ في حد ذاته: يتوجه الشيخ الجليل إلى هؤلاء الأشخاص الثلاثة تارة بالمفرد، وطوراً بالجمع. يبدو أنه لم يكن يعرف إن كان عليه أن يتوجه إلى واحد أو إلى ثلاثة: “إن كنت راضياً علي يا سيدي … دعني أقدّم لكم قليلاً من الماء، فتغسلون أرجلكم… فقالوا له: إفعل كما قلت” (تكوين 18، 2 – 5). إنه الله-الثالوث الذي يفاجئ عالم البشر ويتجلى 2000 سنة قبل المسيح، من دون أن يدركه الذكاء البشري الذي كان لا يزال بليداً.

أعد قراءة الفصل 18 بانتباه وتأمل. ما رأيك بهؤلاء الأشخاص الذين ظهروا لإبراهيم؟ لماذا يتغيّر الحوار بين المفرد والجمع؟ ما هو تفسيرك.

تأمّل بالطريقة التي تُنقل بها هذه الرواية: كل شيء قيل ببساطة، بطهارة وبدون رصانة مزيفة، خاصة من ناحية سارة. يسارع إبراهيم لاستقبال ضيفه بحماسة عفوية ويقدّم له أفضل ما عنده من قطيعه (بعكس بخل قايين). وسارة، التي أذوتها السنون، والتي “امتنع أن يكون لديها عادة كما للنساء، ضحكت في نفسها وقالت: أبعدما عجزت وشاخ زوجي تكون لي هذه المتعة؟”

تبين لنا هذه السطور شخصية إبراهيم: إنه رجل بسيط، مستقيم، كامل الصفات، شهم، عفوي وطيّع لمشيئة وإرادة الله. هذا يفسّر لماذا اختاره الله. لا تنسى أن الاختيار الإلهي قد وقع على هذا الرجل، السوري، وليس على “شعب” عبراني قاس القلب ومتمرد على الله كما يكشفه الأنبياء (إشعيا 1، 2 – 4 ؛ إرميا 7، 25 – 28…إلخ.).

سدوم وعمورة (تكوين 19)

بعد إعلانه عن ولادة إسحق، أعلن الله لإبراهيم عن عزمه ضرب سدوم وعمورة بسبب فسادهما. هاتان المدينتان، اللتان كانتا تقعان إلى جنوب البحر الميت، كانتا مشهورتين بفجورهما، خاصة المثلية الجنسية. قرر الله أن يعاقبهما، كما فعل من قبل، في أيام نوح، بحضارة منحلة. على ذلك أن يكون بمثابة درس لأجيال المستقبل ومثل عن العقاب الذي سينقض على العالم الكافر في نهاية الأزمنة (لوقا 17، 26 – 30).

دعي لوط وامرأته لمغادرة سدوم مع ابنتيهما لأنهما لم تكونا قد تلوثتا من قبل السدوميين. رذيلة هؤلاء الأخيرين كانت بكل وضوح المثلية الجنسية (تكوين 19، 4 – 11). طلب الله من لوط وعائلته أن لا يلتفتوا إلى الوراء أثناء خروجهم من المدينة (تكوين 19، 17)، يعني أن يغادروا دون التحسر على الماضي، دون أن يتركوا قلبهم هناك على ممتلكاتهم، بيوتهم، إلخ…، بل أن ينظروا إلى المستقبل، مؤتمنين الله. زوجة لوط لم تبالي بهذه الوصية الإلهية فتحولت إلى “عمود ملح” (تكوين 19، 26).

يجب أن نفهم المعنى الرمزي لهذه القصة: لا يجب أبداً التردد في ترك حياة تخلو من وجود الله. من يرغب في الارتفاع عليه أن يتحرر من الانجذاب الدنيوي وينقض على الحياة الروحية دون الالتفات إلى الوراء، دون تغذية الحنين إلى الملذات السابقة: “ما من أحد يضع يده على المحراث (الحياة الروحية) ويلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله”، قال يسوع (لوقا 9، 62).

ولادة إسحق وطرد هاجر واسماعيل (تكوين 21)

بعد ولادة إسحق، “رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يلعب مع ابنها إسحق، فقالت لإبراهيم: أطرد هذه الجارية وابنها! فابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق” (تكوين 21، 9 – 10). هكذا تبرأت سارة من أمومة إسماعيل ورفضته، وأبعدته مع أمه… بعد أن كانت هي التي حثت زوجها على الإنجاب من هاجر.

موقف سارة “ساء لإبراهيم، لأن إسماعيل كان أيضاً ابنه. لكن الله قال له: لا يسوؤك هذا الكلام على الصبي وعلى جاريتك. إسمع لكل ما تقوله لك سارة، لأن بإسحق يكون لك نسل” (تكوين 21، 9 – 12).

يسمح الله بهذه الغيرة الأنثوية؛ فيقبل بطرد هاجر واسماعيل لا ليقلل من اعتبارهما ويؤيد سارة، كما يفسره الحاخامات، إنما ليتمم مخططه المسيحي من خلال إسحق. كان على العائلة أن تعيش بسلام، دون خصام. لذلك طلب الله من إبراهيم أن لا يحزن من جراء هذا الإبعاد، مؤكداً على بركته التي سبق أن أعطاها لإسماعيل (تكوين 17، 20)، ومذكّراً أنه “سيجعله أمة لأنه من صلبه” (تكوين 21، 13).

cb_lieux-et-peuples-de-canaan_ar
مواطن وشعوب كنعان المذكورة في تاريخ الآباء

هذه المباركة الإلهية تناقض تصرف اليهود المتعصبين فيما يخص إسماعيل والعرب، بحجة أن سلفهم إسماعيل قد “طُرد” من قبل إبراهيم. فكتاب التكوين لم يقدم إقصاء إسماعيل بهذا الروح العنصري الذي يعتبره، هو أيضاً، من نسل إبراهيم. بعد طرد هاجر وابنها، ظهر لهما ملاك من الرب ليخفف عن الأم المضطربة ويمدّها بالقوة: “ما لك يا هاجر؟ لا تخافي. سمع الله صوت الصبي حيث هو … فسأجعله أمة عظيمة. وفتح الله بصيرتها فرأت بئر ماء، فمضت إلى البئر وملأت القربة ماء وسقت الصبي. وكان الله مع الصبي…” (تكوين 21، 14 – 21).

الله لم يتخلى عن إسماعيل أبداً، إنما كان على مخططه المسيحي أن يتحقق من خلال إسحق.

التضحية بإسحق (تكوين 22)

كان من عادة وثنيي ذلك العصر أن يقرّبوا أولادهم كتضحية للآلهة. حتى أن بعض ملوك اليهود بعد إبراهيم مارسوا هذه العادة التي أدانها الأنبياء (إرميا 7، 31). تحت ثقل أزمة ضمير، أراد إبراهيم أن يقدّم ابنه للرب كما يقدم الوثنيون أولادهم لآلهتهم، لاعتقاده أنه بهذه الطربقة يكرّم الله. لكن الله تدخل في الوقت المناسب ليثنيه عن فعلته وليبين له أنه ليس مثل “الآلهة” الوثنية التي تطلب أضاحي بشرية: “قال الملاك لإبراهيم: لا تمد يدك إلى الصبي ولا تفعل به شيئاً. الآن عرفت أنك تخاف الله، فما بخلت علي بابنك وحيدك. فرفع إبراهيم عينيه فرأى وراءه كبشاً… فأقبل عليه وأخذه وقدمه محرقة بدل ابنه” (تكوين 22، 9 – 13).
فيما بعد، فسر الله من خلال الأنبياء أن التضحيات الوحيدة التي ترضيه هي التوبة، العدل والمحبة. فقد قال النبي ميخا: “بماذا أتقدم إلى الرب وأكافىء الله العلي؟… أأبدل بكري عن معصيتي، ثمرة بطني عن خطيئتي؟ أخبرتك يا إنسان ما هو صالح وما أطلب منك أنا الرب: أن تصنع العدل وتحب الرحمة وتسير بتواضع مع إلهك” (ميخا 6، 6 – 8).
مع مجيء يسوع، حصلنا على نور جديد. ليس فقط أن الله لا يطلب من البشر أن يقرّبوا أولادهم، لكنه هو، الله، الذي يقدّم ابنه الوحيد ذبيحة لخلاص البشر: “هكذا أحب الله العالم حتى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”، قال يسوع (يوحنا 3، 16)، وأيضاً: “ما من حب أعظم من أن يضحي الإنسان بنفسه في سبيل أحبائه. وأنتم أحبائي إذا عملتم ما أوصيكم به” (يوحنا 15، 13 – 14). من خلال تدخله بالتاريخ البشري، غيّر الله، بحكمة وأسلوب تربوي، عقلية الإنسان عن أضاحي الحيوانات، و، مع مجيء يسوع، أصبح التغيير شاملاً. آلهة المثولوجيا المستبدة أخلت المكان للخالق الوحيد الذي تجلى صالحاً، عطوفاً وغفوراً.

زواج إسحق (تكوين 24)

أراد إبراهيم زوجة لابنه “من أرضه وعشيرته” (تكوين 24، 1 – 4). فأرسل خادمه إلى سورية، إلى “أرام النهرين” (في شمال دجلة والفرات)، حيث تقع مدينة حاران مسقط رأسه (تكوين 24، 10 – 15). من هناك جاء الخادم بـ “رَفقة” زوجة لإسحق. فرفقة هي البنت الصغرى لملكة، زوجة ناحور، شقيق إبراهيم (تكوين 11، 27 – 29). إنها إذاً ابنة عمه. من هناك أيضاً كانت رفقة تريد زوجة لابنها يعقوب (تكوين 27، 46 / 28، 5). هذا يبرهن الأصل السوري لعائلة إبراهيم.

تأمل
طمأن الله إبراهيم من خلال مباركته لإسماعيل. وأعلن له أيضاً أن هذا الأخير “سيلد اثني عشر رئيساً” (تكوين 17، 20) ذُكرت أسماؤهم في التكوين 25، 12 – 16. هذا العدد رمزي ويجب أن يوضع بالتوازي مع عشائر إسرائيل الاثني عشر (راجع أبناء يعقوب الاثني عشر في التكوين 35، 22 – 26). فروع إسماعيل “العظماء” الاثني عشر أعزّاء على قلب الله جديرون بالاحترام. مثل جميع البشر الصالحين، يحق لهم بنفس الميراث الروحي لأبناء إسحق الصالحين.
لو أن كاتب النص محاب ومؤيد لهاجر وإسماعيل لكان كتب: “بعد أن رُزقت سارة بإسحق، تخلت عن إسماعيل الذي تلّقى الصدمة. وانتهى بها الأمر إلى إبعاده ناسية أنها تشوقت للحصول عليه وتبنّيه. والحال هو أن الغيرة جعلتها ترفض حقه الشرعي بالميراث مثل إسحق، أخيه. موقف سارة “ساء لإبراهيم” (تكوين 21، 9 – 11). فيما بعد، تبنى المتعصبون عقلية سارة المتطرفة، بدلاً من الاقتداء بطيبة وعدالة إبراهيم.

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14
Copyright © 2024 Pierre2.net, Pierre2.org, All rights reserved.