انتقل إلى المحتوى

دراسة الكتاب المقدس

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14

الدرس السادس – اللاويين – العدد – التثنية

مع هذا الدرس ننهي دراسة الكتب الثلاثة الأخيرة من التوراة، أو أسفار موسى الخمسة، والتي يسميها اليهود كتب “الشريعة”. كتاب الخروج يروي قصة خروج الإسرائيليين من مصر. هذه الكتب الثلاثة الأخيرة للشريعة تنتهي تماماً قبل دخولهم إلى فلسطين مع موت موسى.

اللاويين

هذا الكتاب عسير الهضم وقد تجاوزه الزمن. علينا مع ذلك أن نطّلع عليه لتكون عندنا ثقافة كتابية جيدة، لكن دون التوقف على الطقوس الغريبة. كل ذلك قد أصبح قديماً اليوم. إقرأه دون التوقف على التفاصيل، ثم عاود قراءة الدرس.

تمت كتابة سفر اللاويين من قِبل الكتبة والكهنة اللاويين، من حيث اسمه. يقاطع هذا الكتاب سرد أحداث الخروج مقدماً مجموعة طقوس حددها الكهنة أنفسهم ولمصلحتهم الخاصة. لإعطاء وزن وأهمية لهذه الطقوس، نسبوها إلى الله. إن الله هو الذي سيطلب من موسى وهارون أن يطبّقا طقس الذبائح (لاويين 1 – 7)، مراسم تنصيب الكهنة والمنافع المادية التي تعود إليهم (لاويين 8 – 10)، القواعد المتعلقة بالحلال والنجس إلخ…

كي نفهم عمق كتاب اللاويين، يجب أن نبقي في أذهاننا أن الكهنة هم الذين يكتبون بغية المحافظة على مصالحهم المادية وهيمنتهم الروحية والنفسية على المجتمع. هذا الوضع يتجلى اليوم في كل رجال الدين الذين يستأثرون، باسم الله، بالـ “إقتصاد” الروحي.

الفصول1 إلى 7 تعرض تنوع الأصناف المقدمة “إلى الله”، أي إلى الكاهن. نتبين منها:

أضاحي الحيوانات التي تُقدم بـ محرقة (الضحية تحرق كلياً في النار، لا شيء يعود للكاهن) والذبائح عن الخطيئة (الكهنة يقتطعون أجزاءً من الضحية لأنفسهم)، أو أيضاً أضاحي الشكر أو السلامة لتحقيق نذر (لحم الضحية يعود طبعاً إلى الكاهن مقدم الذبائح ويُحرق الشحم لله…).

قربان الحنطة ينص على تقديم حفنة من غلال الأرض لله، لكن “ما فضّل من التقدمة يكون لهارون وبنيه، وهو مقدس كل التقديس لأنه من الوقائد المقربة للرب” (لاويين 2، 1 – 3). نتبين من بين التقدمات الأشياء المقدسة والأشياء المقدسة كل التقديس. هذه الأخيرة تطهر جميع الذين يمسونها (خروج 29، 37).

لقد سبق أن أشرت أن النبي إرميا أدان هذه الممارسات الاحتيالية التي لم يحددها الله بل الكتبة أنفسهم (إرميا 7، 22). أنبياء آخرون أيضاً أشاروا إلى عدم جدواها (هوشع 6، 6 / عاموس 5، 21 – 24). المزمور 51، 18 – 19 يقول أيضاً: “أنت بذبيحة لا تسر، وبمحرقة إذا قدمتها لا ترضى. ذبيحتي لك يا الله روح منكسرة (بالتوبة)، والقلب المنكسر المنسحق لا تحتقره”. ويذكّرنا يسوع أيضاً أن الله “يريد رحمة لا ذبيحة (حيوانات)” (متى 12، 7).

الفصول 8 إلى 10 تتكلم عن طقوس تكريس الكهنة. هذه المراسم القديمة والمثيرة للسخرية، مستوحاة من الوثنية (خاصة المصرية) ومُشرّبة بحركات خرافية. إنها لا تملك أي شيء من الألوهية. فلباس الكاهن هو داخلي و، في زمن الرؤيا، نحن جميعاً مدعوون لنكون كهنة بالإيمان والرحمة… من غير طقوس ترسيم مسرحية (رؤيا 1، 6 / 5، 9 – 10).

الفصول 11 إلى 27 تعرض بالتفصيل الدقيق الوصايا الشعائرية المختلفة، بوجه خاص، وبحسب الكتبة والكهنة اللاويين، ما هو طاهر أو نجس، محذرين من انتهاك حرمة السبت (لاويين 19، 3 / 19، 30 / 26، 2). وكان ذلك قد حُدد في الخروج 20، 8 – 11 / 35، 1 – 3. المؤمنون كانوا مثقلين بعدد هائل من الوصايا والتعاليم المنسوبة باطلاً إلى الله. كل هذه القوانين لا تملك شيئاً من التطهير ولا من الخلاص. بل إنها، بالعكس، كما كشف الأنبياء في البدء، ويسوع والرسل من بعد، تشكل عقبة خطيرة في وجه التطور الروحي، وتجعل الذين يمارسونها يتعثرون، إنها “وصية على وصية على وصية، وفرض على فرض، وشيء من هنا وشيء من هناك، حتى إذا مشوا سقطوا” تحت حمل الشريعة، كما يوضح النبي إشعيا (إشعيا 28، 13). يسوع هو أيضاً حذّر من الكتبة ومعلمي الشريعة الذين “يحزمون أحمالاً ثقيلة شاقة الحمل ويلقونها على أكتاف الناس …” (متى 23، 4). ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان، قال يسوع، فاستاء اليهود من كلامه (متى 15، 10 – 12).
التحذير من انتهاك حرمة يوم السبت يتكرر بشكل رسمي في كتب الشريعة. في حال المخالفة، يكون العقاب الرجم حتى الموت (خروج 35، 1 – 3). كتاب العدد يروي حالة رجل تجرأ على جمع الحطب في يوم السبت. لقد رُجم بكل بساطة (العدد 15، 32 – 36). كشف الإنجيل كيف غضب اليهود على الرسل الذين كانوا يقطفون السنبل في يوم السبت (متى 12، 1 – 8). يسوع أيضاً اضطُهد لأنه كان يشفي المرضى في السبت (يوحنا 5، 16 – 18). بالنسبة للمتعصبين كان ذلك بمثابة عمل، إذاً، عقوبته الموت. كما ثار اليهود أكثر ضده عندما سمعوه يقول إنه “سيد السبت” (متى 12، 8) وإن “الله جعل السبت للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت” (مرقس 2، 27).
لم يقدر موسى أن يقدّم صورة صحيحة عن الله. من خلال جرائم القتل التي أمر بها باسم الرب، شوّه الوجه الحقيقي للخالق. ثم، أتى الكهنة ورجال الدين لزيدوا هذا الوجه الإلهي تشويهاً، لأنهم لم يفهموا روحه.

معرفة الله هي فهم الله. وحده يسوع كشف لنا الوجه الحقيقي للآب. من خلاله هو وحده نتوصل إلى ولوج الروح الإلهي الذي يتعارض تماماً مع روح الشريعة (التوراة).

الله هو أب لجميع الأعراق. يفتح ذراعيه لجميع البشر الطيبين، لا لبني إسرائيل وحدهم. لهذا السبب كتب يوحنا يقول: “لأن الله بموسى أعطانا الشريعة، وأما بيسوع المسيح فوهبنا النعمة والحق. ما من أحد رأى الله. الإله الأوحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يوحنا 1، 17 – 18). موسى إذاً لم يرى ولم يفهم الله. وإلا لما أمر بالقتل باسمه. إن الشريعة التي فرضها لم تكن بوحي من الله.
هل موسى هو الذي، باسم الله القدوس، قضى بكل هذه الشريعة أو هم الكتبة ورجال الدين؟ لموسى حصة بالتأكيد، أما الباقي فقد أضافه الكتبة والكهنة اللاويون. والحصتان هائلتان، وخطيرتان بشكل مهول. ومهولة هي العواقب على مر القرون. إلى أيامنا هذه…
كتاب أعمال الرسل يروي نضال الرسل المر ليبرهنوا بطلان الشريعة. في رسائله إلى أهل رومة وغلاطية، يشرح بولس أن الإنسان يتبرر بالإيمان بيسوع، كون الشريعة ليست إلا رسالة ميتة وعديمة الجدوى للحياة الأبدية (قرأة رومة 3، 28 – 30 / غلاطية 3، 10 – 24 / أفسس 2، 14 – 16 / عبرانيين 10، 10).

كتاب اللاويين يحوي بعض التعاليم ذات القيمة الفعلية التي تشكل جزءاً من الذهب المدفون في كتب العهد القديم:

استحضار الأرواح

هذه الممارسة الخطيرة هي محاولة بشرية للاتصال بالعالم الثاني بوسائل مادية مختلفة، أدانها كتاب اللاويين: “لا تتشاءموا من شيء ولا تتفاءلوا به (لاويين 19، 26) … كل من التفت إلى السحرة والعرافين وتبعهم في فجورهم أواجهه وأقطعه من بين شعبه (لاويين 20، 6) … من كان من الرجال أو النساء ساحراً أو عرافاً، يُقتل رجماً بالحجارة، ودمه على رأسه” (لاويين 20، 27). يدل ذلك على أن استحضار الأرواح كان يمارس منذ أمد طويل، كما ستظهر فيما بعد قصة الملك شاول مع العرافة التي أطلعت له صموئيل (صموئيل الأول 28).
من خلال انتشاره الواسع في العالم اليوم أيضاً، يضلل استحضار الأرواح عدداً كبيراً من الناس. فإدانة الكتاب المقدس الواضحة لهذه الممارسة تبقى صالحة لكل الأزمنة، لأنه عند دعوة الأرواح الطيبة (ملائكة، قديسين)، الأرواح الشيطانية هي التي تطلع، أرواح أو نفوس متعلقة بالأرض. الله لا يتدخل لأن المؤيدين الذين يزاولونها لا يملكون في أكثر الأحيان العطش الروحي والرغبة العميقة للبحث عن الحقيقة الإلهية كي يخضعوا لها. إنهم يبحثون عن إجابات ذات طابع دنيوي، عاطفي أو اقتصادي. أو أنهم أيضاً يطرحون أسئلة فضولية تتعلق بحياة الآخرين الخاصة. لهذا السبب لا يعيرهه الله أهمية ويسمح للأرواح الشريرة أن تتدخل في هذه الجلسات. إنها أرواح، كما يقول القديس بطرس، “تجول في العالم كالأسد الزائر باحثة عن فريسة لها” (بطرس الأولى 5، 8).
بالمقابل، يحدث أن الله نفسه يأخذ مبادرة الاتصال بأشخاص من اختياره يراهم متعطشين إلى النور والحقيقة. فيتجلى لهذه القلوب التي ترغب بصدق أن تعرفه، والمستعدة لكل تضحية كي تتبعه. في هذه الحالة، النتيجة هي دائماً خلاصية لأن التدخل يأتي من الله، لا من الإنسان، ولأسباب ذات منافع دائماً روحية، لا مادية. هذا الاتصال السماوي يعمل إما من خلال الله نفسه، أو من خلال مرسلين (ملائكة أو قديسين).
الله أو مرسلوه يظهرون في الأحلام، في الرؤى (يوئيل 3، 1 – 2)، أو حتى في حالة اليقظة التامة: ظهورات المسيح لرسله بعد قيامته (لوقا 24)، وظهورات العذراء مريم في لورد، لا ساليت وفاطمة.

الكتاب المقدس غني بالتدخلات الإلهية، بالأحلام، بالرؤى والظهورات. يمكن للرسالة السماوية أن تُنقل إمّا بأسلوب رمزي أو بأسلوب واضح.

بالأحلام (أثناء النوم): أحلام يوسف (تكوين 37، 5 إلخ…)، الساقي والخباز (تكوين 40، 5 إلخ…)، فرعون (تكوين 41، 1 إلخ…)، نبوخذنصر (دانيال 2، 1 إلخ…)، دانيال (دانيال 7، 1 إلخ…)، يوسف خطيب مريم (متى 1، 20 / 2، 13 – 22)، زوجة بيلاطس (متى 27، 19).

بالرؤى (أثناء النوم أو في حالة النصف وعي) : إبراهيم (تكوين 15، 1)، صموئيل (صموئيل الأول 3)، بطرس والضابط (أعمال 10)، يوحنا في كتاب الرؤيا، رؤى إشعيا (إشعيا 6) إلخ.

الظهورات (في حالة اليقظة): إبراهيم (تكوين 18)، ذكريا (لوقا 1، 11)، مريم العذراء (لوقا 1، 26)، الرسل (لوقا 24 / يوحنا 21 / أعمال 1، 3 – 9)، بولس (أعمال 9) إلخ…
بالإضافة إلى ذلك، فإن ظهورات مريم العذراء في لا ساليت، لورد وفاطمة إلخ… هي علامات كتابية لنهاية الأزمنة التي أعلن عنها يسوع: “تظهر علامات هائلة في السماء” (لوقا 21، 11)، “وظهرت آية عجيبة في السماء: امرأة…” (رؤيا 12، 1 إلخ…).

تأمل من كتاب أيوب: لإصلاح الإنسان، “يتكلم الله مرة ومرتين، ولكن أين من يلاحظ كلامه… في الحلم يتكلم ورؤيا الليل،…ليصرف الإنسان عن شروره ويضع حداً لكبريائه. فيحفظه من فم الهاوية…” (أيوب 33، 14 – 18). تلك هي الأسباب التي من أجلها يتصل الله بالإنسان.
كما أن يسوع أيضاً قد وعد أن يتجلى للذين يحبونه: “…من أحبني أحبه أبي، وأنا أحبه وأظهر له ذاتي… من أحبني سمع كلامي فأحبه أبي، ونجيء إليه ونقيم عنده” (يوحنا 14، 21 – 23).

إن أراد الله إذاً أن يتجلى لنا، فلماذا لا نضع أنفسنا تحت تصرفه؟ لماذا يقوم البعض بدعوة الأرواح في حين أن الروح القدس يطلب منا أن ندعوه هو؟ لماذا نذهب إلى خدم مشكوك بأمرهم عندما ينادينا المعلم؟
إن كان التضرع للأرواح مرفوضاً، فالتضرع للروح القدس هو، بالعكس، مطلوب. يجب الأتصال بالله لأسباب فوطبيعية. هذا الرابط الإلهي-البشري هو ضرورة محفورة في الطبيعة البشرية، عطش خنقه البعض واستبدله باستحضار الأرواح الذي ما هو إلا “بديل” خطير عن الحقيقة، “عملة مزيفة” تكشفها النفوس الفطنة ولا تقبل أن تقايضها بالكنز السماوي الذي هو تجلي الله ومسيحه يسوع، فينا.

يمكننا من خلال التأمل والصلاة أن نتصل بموتانا الأتقياء. يمكننا أن نلجأ إليهم لنحصل على دعمهم في نضالنا الروحي اليومي. أنفس القديسين وأرواح الملائكة تلتهب شوقاً للاتصال بنا لتدعمنا روحياً. القديسة تريز الطفل يسوع كانت تقول: “سأقضي سمائي في عمل الخير على الأرض”. كذلك، علينا أن نكون منفتحين وجاهزين لاستقبال التوسلات السماوية. إنه نقيض استحضار الأرواح. فلنؤمن بقدرة تشفع النفوس السماوية وبشراكتهم.

المثلية الجنسية

الكتاب المقدس يدين المثلية الجنسية بكل وضوح. هذا يثبت أن هذا الإنحراف الجنسي هو قديم العهد كما تبينه قصة سدوم وعمورة (تكوين 18، 20 – 19، 25).
“لا تضاجع الذكر مضاجعة النساء، فذلك معيب” (لاويين 18، 22).
“إن ضاجع أحد ذكراً مضاجعة النساء فكلاهما فعلا أمراً معيباً فليقتلا ودمهما على رأسيهما” (لاويين 20، 13).
في رسالته إلى أهل رومة، يكرر بولس هذه الإدانة، مطبقاً إياها أيضاً على العلاقات بين النساء: “…أسلمهم الله إلى الشهوات الدنيئة، فاستبدلت نساؤهم بالوصال الطبيعي الوصال غير الطبيعي، وكذلك الرجال…” (رومة 1، 24 – 32).
في هذا القرن العشرين الذي نعيش فيه، قامت حركات داعمة للمثلية الجنسية تطالب، باسم الحرية (؟)، بشرعنة هذه المعاشرة التي تشمئز منها وترفضها الطبيعة كنقيض لاندفاعها الحيوي والتطوري نحو التسامي. نذكر مع بولس أن “هذه الشهوات الدنيئة هي وصال غير طبيعي” (رومة 1، 26). لا يمكننا أن نعتبر طبيعياً ما هو ضد الطبيعة، فنردد مع إشعيا قائلين: “ويل للذين يدعون الشر خيراً والخير شراً، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً” (إشعيا 5، 20).
باسم الخالق، باسم الحرية الحقيقية والمسؤولة، وباسم الطبيعة وعظمتها، نلوم الذين يدعمون حقّاً طبيعياً مزعوماً، لا بل أخلاقياً، للمثلية للجنسية. بعض “رجال الدين” المسيحيين المزعومين وصل بهم الأمر إلى “تزويج” مثليي الجنس، متناسين أن الكتاب المقدس يرفض ويدين هذه المعاشرة و “الذين يرضون عن الذين يعملونها” (رومة 1، 32).

الزنى

هذا الانحراف الجنسي، بجميع أشكاله، معروف منذ القدم. “عقدة أوديب” ليست حكراً على العصور الحديثة كما يشهد كتاب اللاويين: “لا تكشف عورة أبيك بكشف عورة أمك. فهي أمك، لا تكشف عورتها” (لاويين 18، 7).

الزنى الأبوي ليس مذكوراً بوضوح. لكن هذه التسوس الأخلاقي، الذي غالباً ما يعمل عمله في العائلات مع الدمار النفسي الذي يحمله، مدان بطريقة ضمنية وغير مباشرة: “لا يقرب أحد إلى قريبه في الرحم لكشف عورته” (لاويين 18، 6). إن كان يُطلب الابتعاد عن “الأقرباء” فيجب بالدرجة الأولى الابتعاد عن الإبنة، لا سيما وأن الآية تقول بوضوح عن “عدم كشف عورة بنت الإبن أو بنت الإبنة” (لاويين 18، 10).

الزنى الأخوي، الذي ينخر بالخفية ملايين الضحايا، هو مدان أيضاً: “عورة اختك ابنة أبيك أو ابنة أمك” (اللاويين 18، 9). مثل هذه الانحرافات هي جميعها مدانة من كتاب اللاويين بسبب ممارستها في قلب المجتمع الإسرائيلي، كما تشهد قصة أمنون وأخته غير الشقيقة تامار (صموئيل الثاني 13)، وأيضاً قصة رأوبين مع محظية أبيه يعقوب (تكوين 35، 22).
الزنى الأخوي يشمل أيضاً زوجة الأخ: “لا تكشف عورة زوجة أخيك، فهي زوجة أخيك” (الاويين 18، 16). بسبب هذا المبدأ الأخلاقي أدان يوحنا المعمدان الملك هيرودس (متى 14، 3 – 4).

الأضاحي البشرية

هذا الطقس الوثني كان واسع الانتشار في قلب المجتمع الإسرائيلي مع أنه مؤمن بالله الواحد: “بنو يهوذا فعلوا الشر أمام عيني… وبنوا مشارف توفة التي في وادي ابن هنوم ليحرقوا بنيهم وبناتهم بالنار (لبعل). وأنا ما أمرت بذلك ولا خطر ببالي”، أعلن الرب بلسان النبي إرميا (إرميا 7، 30 – 31 / 19، 5 / 32، 34).
الأضاحي البشرية مذكورة بوضوح في كتاب الملوك الأول 16، 34: “في أيامه بنى حيئيل الذي من بيت إيل مدينة أريحا، على أبيرام ابنه البكر أسسها (أي بالتضحية به) وعلى سجوب أصغر بنيه أقام أبوابها”. الملك آحاز نفسه “أحرق ابنه في النار قرباناً للبعل” لتوسل القدر (الملوك الثاني 16، 3).

في جو وثني مماثل حدد الكهنة اللاويون في كتاب اللاويين: “لا تُعطِ من نسلك محرقة تطيب رائحتها للوثن مولك …” (لاويين 18، 21)، “أي إسرائيلي وغريب نزيل في إسرائيل (الفلسطينيون كانوا يُعتبرون غرباء) أعطى من نسله للوثن مولك، فليقتله الشعب” (لاويين 20، 1 – 5).

نكتشف بأسف أن الإسرائيليين تركوا أنفسهم يتلوثون بالعادات الوثنية بدلاً من هداية الآخرين بالإيمان بالله الواحد.

الموانع عن الكهنوت اليهودي

العاهات الجسدية كانت وما زالت تشكل مانعاً عن الكهنوت اليهودي: “من كان فيه عيب من نسلك على ممر الأجيال، فلا يقترب ليقدم طعام إلهه: الأعمى والأعرج والأفطس والأشرع، والأحدب…إلخ… لا يتقدم إلى المذبح إذ به عيب فلا يدنس معبدي الذي كرسته لي” (لاويين 21، 16 – 24).
الشريعة الموسوية تخلط بين العاهة الجسدية والدنس الأخلاقي. المعاقون لا يدنسون المعبد. الإنسان الدنس هو الخاطىء. لكن الخاطىء إذا تاب، فإنه يتطهر بالنعمة الإلهية. النعمة هي أقوى بكثير من الدنس و، كما يقول بولس: “حيث كثرت الخطيئة فاضت نعمة الله”(رومة 5، 20).

الموانع الجسدية عن الكهنوت اللاوي تم اعتمادها من قبل الكنائس المسيحية. فهذه الأخيرة ترفض أن ترسم كهنة معاقين جسدياً إنما أصحاء بالروح. كما أنها، علاوة على ذلك، تمنع عن الكهنة حق الزواج. فهي بالتالي تعتبر أن الاتحاد الزوجي دنس. والحال أن الزواج هو سر مقدس يطهر النفس.
مانع زواج الكهنة يقع تحت إدانة إلهية كشفها بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس 4، 1 – 3. الجنس المؤنث هو أيضاً، بحد ذاته، عائق للكهنوت اللاوي. إن رجالات الكنائس متعلقون بهذه المبادىء البشرية، لكنهم لا يترددون، وحسرتاه، في ترسيم كهنة مشوهين نفسياً، أصحاب عاهات أخلاقية ومبتوري القلب، دون محبة ولا رحمة للناس. كلام يسوع الذي توجه به إلى الفريسيين من قبل ينطبق اليوم على رجال الدين المسيحيين الذين يمارسون طقوساً أكثر تفاهة من طقوس أسلافهم اللاويين (مراجعة متى 15، 1 – 20).
لقد تخلّص الكهنوت الرؤيوي، والحمد لله، من هذه الاعتبارات اليهو-مسيحية. المسيح الحي بيننا (عمانوئيل)، اختارنا بنفسه كبواكير لشعبه الجديد من الكهنة. كل الذين “يفتحون له الباب ليتعشوا معه” (رؤيا 3، 20) هم في عداد هذا الشعب الكهنوتي. ذوي العاهات الجسدية يستطيعون أن يكونوا جزءاً منه، لو أرادوا ذلك، مشكلين بذلك الهيكل الرؤيوي الحي، الخفي على البشر. هذا الهيكل السماوي هو مجرد من العاهات ومن العيوب الروحية لأنه “لا يدخله شيء نجس، ولا الذين يعملون القبائح ويفترون الكذب، بل الذين أسماؤهم مكتوبة في كتاب الحياة، كتاب الحمل” (رؤيا 21، 27). مكتوبة فيه أسماء الذين سيتعرفون على الوحش الرؤيوي ويحاربونه (رؤيا 13، 18 / 13، 8 / 20، 12).
في مثل وليمة العرس، يقول يسوع إلى خدمه: “الوليمة مهيأة ولكن المدعوين غير مستحقين، فاخرجوا إلى مفارق الطرق وادعوا إلى الوليمة كل من تجدوه” (متى 22، 7 – 10). في نهاية هذه الأزمنة، خدم يسوع (الذين هم نحن) أدركوا، بحزن ومرارة، عدم جدارة الذين يزعمون أنهم كهنة كنيسة يسوع. لقد قُطفنا من على مفارق الطرق رواداً للعهد الرؤيوي. كنا على ملتقى الطرق التي تؤدي إلى الحياة الفوطبيعية، إلى البحث عن مخرج. فأمسكتنا يد الله، من أجل ولادة جديدة. رواد لمسلك جديد، شرعنا في بناء “السماء الجديدة والأرض الجديدة” اللتان رآهما بطرس (بطرس الثانية 3، 13) ويوحنا (رؤيا 21، 1). معنا يقود يسوع “الفقراء والمشوهين والعرج والعميان” وفقاً للعالم (لوقا 14، 21) ليُسقط الذين يرفضون هؤلاء “المعاقين” من كهنوتهم البشري، الغير قادر على خلاص الروح. وكعلامة لانطلاقتنا الجديدة نحو بناء المجتمع السماوي الجديد على الأرض، يشكّل “المعاقون” والنساء، جزءاً من كهنوت يسوع، مدركين أنه “في ملكوت الله لا فرق بين رجل وامرأة” (غلاطية 3، 28).
بناءً على شريعة موسى، لا يمكن اعتبار يسوع كاهناً، لأنه ليس من عشيرة لاوي (عبرانيين 8، 4). لكنه بالمقابل، وفقاً للروح الإلهي، هو “الكاهن الأعلى” للعهد الجديد (عبرانيين 4، 14 إلى 5، 10 ؛ 9، 11 إلخ…). كذلك أنتم، رسل وكهنة العهد الرؤيوي، رجالاً ونساء، لا يمكنكم أن تكونوا كهنة وفقاً للكنيس اليهودي والكنيسة المسيحية. لكن وفقاً للروح الإلهي أنتم بكل تأكيد “ملكوت كهنة” أسسه يسوع “لله أبيه”، الذي هو أيضاً أبانا (رؤيا 1، 5 – 6).
الكهنوت الرؤيوي لا يعرف سوى مانعاً واحداً: دنس الروح من خلال الإيمان الضعيف (رؤيا 21، 27). لكن العجز الجسدي ليس مانعاً.
“مبارك ومقدس من كان له نصيب في القيامة الأولى، فلا سلطان للموت الثاني عليهم، بل يكونون كهنة الله والمسيح” (رؤيا 20، 6). الخلاصة المنطقية لإيماننا هي أننا من هؤلاء الكهنة. إيماننا بالرسالة الرؤيوية هو الشاهد والضمانة على مشاركتنا بالقيامة الأولى ومن ثم، بكهنوت الله ومسيحه يسوع. شهادة وضمانة موجودتان أيضاً في رسالة بولس: “فأنتم عندما تعمدتم في المسيح دُفنتم معه وقمتم معه أيضاً، لأنكم آمنتم… كنتم أمواتاً بخطاياكم… فأحياكم (القيامة الأولى) الله مع المسيح…” (كولوسي 2، 12 – 13). كنّا أمواتاً سمعوا صوت ابن الله وعادت إليهم الحياة (يوحنا 5، 25). لقد سمعنا هذا الصوت الإلهي مرة أولى في الإنجيل ليكشف لنا وجه المسيح، ومرة ثانية في كتاب الرؤيا ليكشف وجه المسيح الدجال. ونحن آمنا بالصوت الأول والثاني! وهذا الإيمان حوّلنا في الحال من أموات إلى كهنة أحياء، مثل لعازر الذي خرج من قبره عند سماع صوت ابن الله (يوحنا 11). الصاعقة الإلهية المحيية سقطت علينا لتعيد إلينا الحياة و، بلمح البصر، استعدنا الحياة: “مجيء ابن الإنسان يكون مثل البرق” (متى 24، 27)، هذا البرق “الذي يلمع من المشرق ويضيء في المغرب” أطلقه الملاك الطالع من المشرق (رؤيا 7، 2).
كهنة نحن لنمهّد لعودة يسوع بالإعلان عنها… لأنفسنا في بداية الأمر، باستقبال هذا “العائد” الكبير فينا ليطلقنا من مفارق الطرق والشوارع حيث نحن، إلى حيث يُقدّر لنا لنحاول جاهدين أن نخلّص من يمكنه أن يخلص بعد من هذه البشرية البائسة.

“كونوا على استعداد، أوساطكم مشدودة ومصابيحكم موقدة، كرجال ينتظرون رجوع سيدهم من العرس، حتى إذا جاء ودق الباب يفتحون له في الحال. هنيئاً لهؤلاء الخدم… الحق أقول لكم: إنه يشمر عن ساعده ويجلسهم للطعام ويقوم بخدمتهم” (لوقا 12، 36 – 37). أؤكد على هذا الكلام للمسيح قائلاً: “هنيئاً للذين يهرعون ليفتحوا له الباب بمحبة وبساطة، دون أن يرتبكوا بالطقوس في هذه الأزمنة الرؤيوية للقرن الواحد والعشرين. لقد أجلسنا جميعاً إلى مائدته، لنتعشى نحن معه وهو معنا” (رؤيا 3، 20). بذلك يؤكد كتاب الرؤيا على ما قد أعلنه الإنجيل. كل شيء يدور حول الكهنوت الرؤيوي الذي لا يمكن مقارنة مستواه الروحي مع الكهنوت اللاوي والكنسي… وكلاهما بعيدان كل البعد عن قلوب المؤمنين الحقيقيين الذين يتعشون بحميمية، دون طقوس مسرحية، مع العريس.

كهنة نحن، لكن كهنوتنا مخفي عن العالم لأن “حياتنا مستترة مع المسيح في الله” (كولوسي 3، 3)، ومع المسيح فينا. لأن “كوكب الصبح المنير” قد طلع في قلوبنا التي تدفأت ببريقه الإلهي الذي، مثل “البرق”، أعاد الحياة لنفوسنا الممزقة (بطرس الثانية 1، 19 / رؤيا 2، 28 و22، 16).

العدالة

لم يهمل كتاب اللاويين مبادىء العدالة الاجتماعية. لكنها، مع ذلك، عدالة نسبية وتهدف إلى منح اليهود امتيازاً على حساب الغير، واضعة إياهم فوق الأمم الأخرى. العدالة الإلهية، بالمقابل، تضع كل البشر، كل الأمم، وكل الأعراق على نفس المستوى.

صحيح أنه قيل: “لا تظلموا قريبكم ولا تسلبوه. لا تحتفظوا بأجرة الأجير عندكم إلى الغد” (اللاويين 19، 13). من هو هذا القريب؟ هنا السؤال.
وفقاً لكتاب اللاويين، على اليهودي أن يكن اعتباراً خاصاً لقريبه اليهودي مثله، أمّا سكان البلد الآخرون (الفلسطينيون) فكانوا يُعتبرون “غرباء” أو مواطنين من الدرجة الثانية، كما هو الحال اليوم في إسرائيل: “لا تسع بالنميمة بين شعبك، ولا تطالب بدم قريبك (اليهودي). لا تبغض أخاك (اليهودي) في قلبك، بل عاتب قريبك عتاباً فلا تحمل خطيئة بسببه. لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل أحب قريبك مثلما تحب نفسك” (لاويين 19، 16 – 18). هذا الـ “القريب” هو اليهودي؛ الغير يهود (الفلسطينيون والـ “غوييم”) كانوا يُعتبرون غرباء.
مع ذلك توجد آية واحدة لصالح الغريب: “إذا نزل بكم غريب في أرضكم، فلا ترهقوه. وليكن عندكم الغريب النزيل فيما بينكم كالأصيل منكم. أحبوه مثلما تحبون أنفسكم…” (لاويين 19، 33 – 34). تجدر الإشارة إلى أن الغريب الذي نتكلم عنه ليس سوى المواطن الأصلي للبلد، البلد المصادر من قبل المستوطنين اليهود.

ثار الأنبياء على شوفينية (تطرف) أخوتهم في الدين. وشجبوا تنكيدهم الغير مبرر للغريب، معلنين أن العدالة الحقيقية هي “عدم اضطهاد الغريب واليتيم والأرملة…” (إرميا 22، 3). يقول حزقيال أيضاً: “حتى وجهاء الشعب يغتصبون المسكين ويسرقونه ويستغلون البائس ويعاملون الغريب بغير حق” (حزقيال 22، 29). ينطبق ذلك أيضاً على دولة إسرائيل اليوم التي تحرم الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية.

يسوع ثار هو أيضاً على الظلم اليهودي: “سمعتم أنه قيل: أحب قريبك (اليهودي) وأبغض عدوك (كل من هو غير يهودي؛ وهذا تعليم مذكور في العرف التلمودي، لا في الكتاب المقدس). أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم (الذين يُدعون اليوم “إرهابيين”: أحبوهم لأنهم هم الذين على حق، لا أنتم!…)،… فإن كنتم تحبون الذين يحبونكم (اليهود)، فأي أجر لكم؟… وإن كنتم لا تسلّمون إلا على أخوتكم (اليهود)، فماذا عملتم أكثر من غيركم؟ أما يعمل الوثنيون هذا؟” (متى 5، 43 – 47). كان المسيح يوجه كلامه لجموع المتعصبين، وليس لتلاميذه: “ولكني أقول لكم أيها السامعون: أحبوا أعداءكم… (لوقا 6، 27). والحال هو أن الذين كانوا يسمعونه كانوا من الوطنيين الراغبين بأن يعلنوه ملكاً سياسياً على إسرائيل (مراجعة يوحنا 6، 15). فهم لم يفهموا “سلميته” تجاه الغرباء، الغير يهود الساكنين في فلسطين.

العدالة التي علّمها يسوع موجودة في الموعظة على الجبل (متى 5 – 7). إنها تدعو لتجاوز المفهوم التمييزي للكتبة: “إن كانت تقواكم لا تفوق تقوى معلمي الشريعة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات” (متى 5، 20). يربط يسوع دائماً العدالة مع محبة القريب (لوقا 10،27)؛ فيعطي مثلاً عن القريب، لا لاوي، ولا كاهن، ولا يهودي، بل سامري، الذي يعتبره اليهود عدواً لهم (لوقا 10، 29 – 37). كان يعلم جيداً أن “اليهود يكرهون السامريين ولا يخالطونهم” (يوحنا 4، 9). بهذا المثل، يسقط يسوع مفهوم الشوفينية ويسعى إلى تصحيح ما شوهه معلمو الشريعة والفريسيون باسم الشريعة الموسوية: “لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء: ما جئت لأبطل بل لأكمل” (متى 5، 17). يتحقق هذا الإكمال بالانفتاح على كل إنسان صالح حتى ولو كان غريباً عن شعبـ “ي”، وبرفض كل إنسان خبيث حتى ولو كان من شعبي.

لأكون إلهكم

بعد أربعة قرون في مصر، نسي بنو إسرائيل الذي تجلى لإبراهيم. محاطون بالأوثان وبالعبادة الفرعونية، استسلموا لعبادة الأوثان. هكذا أصبح مخطط الله المسيحي في خطر. فأخرج الله العبرانيين من مصر ليعيدهم إليه: “أنا الرب الذي كرسكم وأخرجكم من أرض مصر ليكون لكم إلهاً” (لاويين 22، 33 / 25، 38).

فسّر العبرانيون عبارة “لكم إلهاً” بأنانية، فقد رأوا فيها حيازة حصرية لله. اعتقدوا أنهم مميزون، مدللون، ووحدهم مختارون من الله. متمسكون بهذه الحيازة، أرادوا أن يكون الله لهم وحدهم. لا يجب أن يكون أيضاً إله شعوب أخرى. والحال أن المقصود الإلهي كان يهدف إلى انتزاع اليهود من الأصنام لمتابعة مخططه المسيحي.
لقد حصل اليهود على معرفة الله الواحد. كانت مهمتهم نقل هذه المعرفة للشعوب الأخرى، والكشف عن المخطط الإلهي لإرسال المسيح. والحال هو أنهم، بعد خروجهم من مصر، اعتقدوا أن هذه الدعوة تخصهم وحدهم دون سواهم. أتى المسيح ليقوّم هذا الانحراف بتعليمه أن كثيرين سيأتون إلى الله من جهات الأرض الأربع، في حين أن اليهود، بسبب تعصبهم، سيُرفضون من قبل الذي أخرجهم من مصر: “كثيرون من الناس سيجيئون من المشرق ومن المغرب ويجلسون إلى المائدة مع إبراهيم… في ملكوت السماوات، وأما من كان لهم الملكوت (إسرائيل)، فيطرحون خارجاً في الظلمة” (متى 8، 11). كشف المسيح هذه الحقيقة المروعة لتلاميذه، طالباً منهم أن يعلنوها بدورهم. لهذا السبب، بعد قيامة المسيح، أعلن بطرس أمام اليهود قائلاً: “…الله الذي يعرف ما في القلوب… وهب لغير اليهود الروح القدس كما وهبه لنا. فما فرّق بيننا وبينهم في شيء” (أعمال 15، 7 – 9). “أفيكون الله إله اليهود وحدهم؟ أما هو إله سائر الأمم أيضاً؟ بلى، هو إله سائر الأمم…”، كما يقول بولس أيضاً (رومة 3، 29).
أخرج الله اليهود من مصر لا لمجد إسرائيل، بل ليتمكن من إرسال المسيح الذي سيجعل العالم بأجمعه يعرفه. ينقل لنا النبي حزقيال قول الرب له: “قل لشعب إسرائيل ما أقوله أنا السيد الرب: ما سأفعله لا أفعله لأجلكم يا شعب إسرائيل، بل لأجل إسمي القدوس الذي دنستموه بين الأمم وحيث حللتم” (حزقيال 36، 22). كذلك أعلن الله بلسان إشعيا: “إسمعوا هذا يا بيت يعقوب، أيها المدعوون باسم إسرائيل… الحالفون باسم الرب الذاكرون إله إسرائيل بغير حق ولا صدق… عرفت أنك غادر ومن الرحم سمّيت عاصياً. لكرامة اسمي أبطىء غضبي وأرد عنك لئلا أقطعك… من أجلي أفعل هذا. لئلا يتدنس اسمي أو يأخذه أحد غيري” (إشعيا 48، 1 – 11).
لو بقي اليهود في مصر، لكانوا استمروا بممارسة الطقوس المصرية ونسوا الله بشكل نهائي. مخطط الله العالمي، الذي بدأ مع إبراهيم، لم يكن ليتحقق ليصل إلينا اليوم. لم يكن بإمكان المسيح أن يأتي إلا من خلال مجتمع يعرف الله ومخططه المسيحي. من دون هذا المجتمع، ما كانت النبوءات المتعلقة بالمسيح لتُكشف أبداً بما أنه لن يكون هناك أنبياء ليعهد بها إليهم. كان بحاجة لقاعدة، ولو ناقصة، لاستقبال المسيح. حرص الله على مخططه بإخراج المجتمع اليهودي من مصر. مخططه الذي يتحقق بالمسيح، لا بشعب أو بدولة إسرائيلية.

لقد جاء المسيح منذ 2000 سنة. لقد توجه في الماضي ويتوجه اليوم أيضاً إلى العالم أجمع. فقد “قال بأعلى صوته: إن عطش أحد (يهودي أو غير يهودي)، فليجيء إلي ليشرب… وعنى بكلامه الروح الذي سيناله المؤمنون به” (يوحنا 7، 37 – 39). كل الذين يبحثون عنه، الذين يتواجدون على “مفارق الطرق” الروحية، يجدونه وينالون هذا الروح الإلهي. بحصولهم عليه، تعود إليهم الحياة ويصيروا أبناء الله (يوحنا 1، 12). إنها القيامة الأولى (يوحنا 5، 25 / رؤيا 20، 6)، عودة النفس إلى الحياة. إنها تجربة مدهشة لا يعرفها إلا الذين يذوقونها. ندين بإيماننا بالله وبالمسيح لخروج اليهود من مصر في القرن الثامن ق.م جعلهم الله يخرجون من هناك ليكون إله جميع المؤمنين، ليكون إلهنا وأبينا.
علينا أن نكون مدركين جيداً للرابط الحميم الموجود بين “الخروج” من مصر ونحن. الخروج مع موسى ليس مجرد عبور بسيط من بلد نحو بلد آخر، بل رمز الانتقال من حالة روحية إلى أخرى، خروج من الجهل إلى معرفة الله. هذه المعرفة أعادت الحياة إلى نفوسنا من خلال إعادة اكتشاف الحياة الأبدية: “الحياة الأبدية هي أن يعرفوك، أنت، الإله الحق وحدك …” (يوحنا 17، 3).
لتأسيس سر القربان المقدس، اختار يسوع عيد الفصح اليهودي، الذي يحتفل بذكرى “الخروج” من مصر (متى 26، 17). خبز الحياة الأبدية هذا ينتزع نفوسنا من الموت: “من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبدية (فيه)… يثبت هو في، وأثبت أنا فيه… ويحيا إلى الأبد”، قال يسوع (يوحنا 6، 51 – 58).
من دون الخروج من مصر، لكان مخطط الله قد أخفق: لما كنا حصلنا لا على المسيح، لا على الكتاب المقدس، لا على الإنجيل، ولا على كتاب الرؤيا. كنا سنتجاهل القيامة الأولى التي هي الجنة على الأرض. هذه هي أرض الميعاد الحقيقية وليست فلسطين الجغرافية كما يظن الذين قلوبهم متعلقة بالمادة وبالأرض.
مع إبراهيم، كانت الخطوة الأولى نحو القيامة الأولى. الخطوة التالية كانت الخروج من مصر. ثم النداء الذي أطلقه يسوع، داعياً مؤمني العالم أجمع إلى المشاركة فيها. مع كتاب الرؤيا يصبح هذا الوعد واقعاً حياً، كهنوتاً ملكياً. ندين بكهنوتنا الرؤيوي للمبادرة الإلهية لاستئصال اليهود من مصر، ناشلة إيانا بالتالي من الجهل والموت الروحي. كيف نشكره على هذا؟ بيسوع!
من دون هذا الخروج من مصر، ماذا كنا سنصبح؟ عابدون أو كهنة للآلهة رع، بعل، جوبيتر، زيوس، ديانا أو عشتروت…!

تأمل
هل تظن أننا خلصنا بالإيمان بيسوع أو من خلال ممارسة شريعة موسى (الختان، السبت، الطاهر والنجس، إلخ…)؟
هل تعتقد أن التضحية بالحيوانات وتقدمتهم محرقة تقدر أن تصالح الخاطىء مع الله؟

وفقاً للأجوبة على هذه الأسئلة، نكون تلاميذ أو أعداء يسوع.

كتاب العدد

يبدأ هذا الكتاب بإحصاء للإسرائيليين في سبيل تحديد “العدد”، من حيث يأتي اسمه. لا يجب بصورة رئيسية التوقف على هذه الأرقام. في مرحلة أولى، وحدهم اللاويون لم يتم إحصاؤهم رسمياً (العدد 1، 48) ليسجّلوا في خدمة “مسكن الشهادة”. هذا المسكن هو خيمة الإجتماع حيث كانت تقدم القرابين شهادة لله الواحد. هارون وأبناؤه، ولا أحد غيرهم، “خُصصوا لخدمة الكهنوت، ومن اقترب لخدمته سواهم يُقتل” (العدد 3، 10). نسبوا هذا القول للرب لصون حق الكهنة…
إقرأ هذا الكتاب من غير إبطاء ثم عد إلى الدرس الكتابي حيث تناولت وفسرت النقاط الأكثر أهمية التي عليك أن تحفظها.
قصة مسيرة اليهود في الصحراء التي يتناولها الكتاب هنا، كُتبت بعد حوالى ثلاثة قرون. كما قلنا سابقاً، الكتبة-الكهنة أضافوا عليها ما يبرز الدور الأساسي لعبادة وكهنوت هارون وسلالته. أمضت الطائفة أربعين سنة في البرية، فكان عندهم الوقت الكافي لإنشاء عبادة حول مسكن الشهادة الذي كان يقوم مقام الهيكل. في الداخل كان يوجد تابوت العهد الذي كان يحوي لوحي الوصايا العشر. كان تابوت العهد يرمز إلى حضور الله، من حيث تأتي أهميته (العدد 10، 33 – 35). كان أيضاً يتقدم مسيرة الشعب كما في بعض الزياحات الدينية المعاصرة التي تسبقها رموز دينية.
كان لللاويين دور الخدمة في العبادة، أما الكهنوت فكان محفوظاً لهارون وأبنائه. غالباً ما يتكرر ذلك في التوراة وفي كتاب العدد بإصرار. العدد 3، 1 – 4 يحدد أن هارون وأبناءه وحدهم مُسحوا وكُرسوا كهنة في كل عشيرة لاوي، لا بل في الطائفة كلها. باقي عشيرة لاوي لا يتمتعون سوى بدور ثانوي في العبادة، وهو خدمة هارون وأبنائه: “قدم سبط لاوي ليقفوا بين يدي هارون الكاهن ويخدموه…” (العدد 3، 6 …). “أما بنو لاوي، فجعلت لهم كل عشر في إسرائيل ميراثاً…” (العدد 18، 21). إنه مبلغ مهم جداً. بالإضافة إلى ذلك، فإن على عشر هذا العشر أن يعود إلى الرب (العدد 18، 26)، أي إلى جيوب هارون بما أن كل ما يقدم إلى الرب يعود للكاهن: “هكذا تقدمون أنتم أيضاً تقدمة خاصة للرب من جميع الأعشار التي تأخذونها من بني إسرائيل، وتكون هذه تقدمة لهارون الكاهن، وليكن ما تقدمون للرب أفضل جميع عطاياكم وأقدسها” (العدد 18، 28 – 29). بواكير المحاصيل ترمز إلى الحصة الأفضل.
كتب الكتبة هذه النصوص قروناً بعد هارون، فقد كانوا هم أنفسهم كهنة، من نسل هارون. أرادو أن يحافظوا على امتيازاتهم، فسارعوا إلى إضافة آيات تصب في مصلحتهم، ناسبين إياها إلى الله: “كلم الرب موسى فقال: قل لبني إسرائيل: إذا دخلتم الأرض التي سأدخلكم إياها، فقدموا مما تطعمكم الأرض تقدمة للرب (يعني للكهنة): من أول عجينكم تقدمون رغيفاً خاصة… وتكون تقدمة للرب مدى أجيالكم” (العدد 15، 17 – 21). بذلك، خلد الكتبة-الكهنة “حقوقهم الإلهية” على نسل الطائفة اليهودية.
لا نظنن أن الرب يطلب تأسيس كهنوت استغلال لثروة الغير، حيث ما زلنا نرى “قلم الكتبة الكاذب” (إرميا 8، 8). هناك رجال كهنوت مسيحيين مزعومين سقطوا في نفس الهاوية الاقتصادية. في كتاب الرؤيا، يدعو الله خاصته ليأخذوا “مجاناً” من فيض النعم الذي يدفقه على الذين يؤمنون (رؤيا 21، 6 / 22، 17). “مجاناً أخذتم، فمجاناً أعطوا”، يوصي يسوع أيضاً (متى 10، 8 / لوقا 9، 2).

مقتل ابني هارون

يروي كتاب العدد باقتضاب موت ناداب وأبيهو، في سيناء، وهما ابنا هارون، البكر وثاني البكر. نسبت وفاة هذين الأخوين إلى الرب. لكنها في الحقيقة قتل متعمد: “مات ناداب وأبيهو لأنهما قربا ناراً غير مقدسة أمام الرب في برية سيناء” (العدد 3، 4). كتاب اللاويين هو أكثر وضوحاً إذ يقول: “وأخذ كل من ناداب وأبيهو، ابني هارون، مجمرته… وقرب أمام الرب ناراً غير مقدسة… فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما، فماتا أمام الرب” (لاويين 10، 1 – 2).
هذان الرجلان، اللاويان والكاهنان، لقيا حتفهما في نفس يوم تكريسهما (العدد 8، 13). النار التي أكلتهما لم تكن سوى الذراع العسكري لموسى وفرقته. ماذا كانت جريمتهما؟ لقد أرادا أن يقدّما للرب في مبخرتهما ناراً مخالفة لشريعة موسى. هل أرادا أن يبّخرا بدلاً من هارون؟ هل أيضاً لأنهما أثارا الغضب القاتل لعمّهما موسى، الذي أمر بقتلهما “بأمر من الرب”، كعادته. فقد غضب أيضاً فيما بعد على أخويهما الآخرين من أجل مسألة طعام: “لماذا لم تأكلا ذبيحة الخطيئة في الموضع المقدس؟… كان يجب أن يؤتى بدمها إلى داخل القدس، وأن تأكلاها هناك كما أمرت”. لم يهدأ موسى إلا بعد تدخل هارون التوضيحي والخائف (لاويين 10، 16 – 20).

موت ابنيه الاثنين أرعب هارون في خضم مواجهته مع موسى. لأنه أمام تفسيرات أخيه “بقي هارون صامتاً” مشلولاً من الخوف أمام هذا العنف المباغت. الصدمة التي أثارها تنفيذ الإعدام المفاجئ لابنيه الكاهنين، في نفس يوم الاحتفال السعيد، شلّت هارون وابنيه الباقيين الآخرين. عندما رأى موسى القلق يستولي على أخيه وابني أخيه، بادر إلى طمأنتهم: “لا تشقّوا ثيابكم حداداً لئلا تموتوا (مثل الاثنين الآخرين)… ومن عند باب خيمة الاجتماع لا تخرجوا لئلا تموتوا” (لاويين 10، 1 – 7). إذ أنه في خارج الخيمة، كان هناك انتفاضة شعبية يقودها موسى ضد كل الذين لا يخضعون لمتطلبات العبادة القاسية كما كان يطلب. هارون وابنيه الباقيين كانوا معرضين لخطر الإعدام من دون محاكمة.
لو كانت النار هي التي أكلت ناداب وأبيهو، لكانت جعلت من قميصيهما رماداً. والحال هو أنهما “حُملا في قميصيهما إلى خارج المحلة” (لاويين 10، 5). في الحقيقة، النار القاتلة ليست سوى غضب موسى المُشتعل والمسلح. لاعتقاده أنه مكلف من الرب لتنظيم عبادة، لا يتردد بفرض “النظام” بقوة السيف. لا ننسى أن موسى كان رجلاً عنيفاً وقادراً على القتل. أما قتل رجلاً مصرياً قبل هربه من مصر (خروج 2، 11 – 15)؟ أما أمر بنفسه رؤساء بني إسرائيل قائلاً: “ليقتل كل واحد منكم أياً من قومه تعلق ببعل فغور… وكان الذين ماتوا بالضربة أربعة وعشرين ألفاً… ليرد غضب الرب عن بني إسرائيل” (العدد 25، 1 – 9). في عصرنا، هناك سياسيون تتم إدانتهم باسم حقوق الإنسان، لسبب أقل من ذلك! من جهة أخرى، عبارة “خرجت نار من عند الرب فأكلتهما…” تتوضح في العدد 21، 28: “لأن ناراً خرجت من حبشون ولهيباً من سيحون، فأكلت مدينة عار في موآب”. هذه “النار” ليست سوى المعركة التي هلك فيها سيحون ملك الأموريين (العدد 21، 21 – 30).
مع ذلك، يقدّم الكتبة موسى على أنه “رجل حليم جداً أكثر من جميع الناس على وجه الأرض” (العدد 12، 3). هذا التواضع هو نسبي مع عنف معجبيه. لو أن هذا هو السجل العدلي “لأكثر الناس حلماً على وجه الأرض”، فماذا سيكون سجل أكثر الناس عنفاً؟ وماذا سيكون مستوى لطف وتواضع يسوع الناصري؟ فقد كان محقاً بقوله عن يوحنا المعمدان: “ما ظهر في الناس أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن أصغر الذين في ملكوت السماوات أعظم منه” (متى 11، 11). عنف موسى يضعه في مرتبة بعيدة وراء يوحنا.

تمرد مريم وهارون على موسى

“واتخذ موسى زوجة حبشية، فتكلمت مريم وهارون عليه سوءاً بسبب ذلك وقالا: أموسى وحده كلمه الرب؟ أما كلمنا نحن أيضاً؟!…” (العدد 12، 1 – 3). غضب مريم وهارون على أخيهما لا يمكن أن يتفسر فقط من خلال زواج هذا الأخير من امرأة غير يهودية. يدّعيان أن الله يكلمهما هما أيضاً. وهذا الإدعاء شرعي. علينا أن نفهم أن موسى أعطى لنفسه الحق الحصري بالتكلم مع الله وسماعه. انطلاقاً من وجهة النظر هذه، يجب تنفيذ كل ما يطلبه موسى وكما يطلبه، تحت طائلة الموت بأمر من الله. هكذا تم إنشاء نظام رعب باسم الرب. لهذا السبب، لا يعرف هارون الذي تملكه الخوف كيف يخضع لموسى ويستجدي رحمته حفاظاً على حياته وحياة ابنيه (العدد 12، 4 – 15).

عصيان قورح

تظهر سرعة غضب موسى أيضاً في عصيان عشيرة قورح، مع أنه لاوي. الامتيازات المادية المفرطة التي منحها موسى (لا الله) لأخيه هارون وأبناء أخيه خلق سخطاً كبيراً بين الناس الذين لم يروا في ذلك إرادة إلهية، بل منفعة بشرية. اللاويون أنفسهم كانوا يشعرون بالإحباط لأنه كان عليهم أن يعطوا لهارون وأبنائه “الجزء الأفضل” من العشر الذي الذي كانوا يأخذونه. كذلك الأمر أيضاً بالنسبة إلى العشائر الأخرى التي كانت تعاني من وطأة هذا الاستغلال التعسفي، الذي كان يمارس بحجة أنه من الله. كل ذلك أدّى إلى عصيان عشيرة قورح، اللاوي العالي المقام الذي انضم إليه أميران من عشيرة رأوبين، ألياب وأبيرام بالإضافة إلى كثيرين غيرهما. ثاروا على شهية الكهنة الشرهة، و “أخذوا يقاومون موسى، هم وأناس من بني إسرائيل وعددهم مئتان وخمسون من رؤساء الجماعة الأجلاء الأعضاء في المجمع… (هؤلاء إذاً يمثلون كل الطائفة). واجتمعوا على موسى وهارون وقالوا لهما: كفاكما، فالجماعة كلهم مكرسون للرب، والرب فيما بينهم، فما بالكما تتكبران على جماعة الرب؟” (العدد 16، 1 – 3). لقد كانوا على حق!
أمام هذا العصيان، اختار موسى أن يتحدث على حدة مع قورح أولاً، ثم مع داثان وأبيرام. هذان الأخيران رفضا أن يمثلا أمام موسى، “فغضب موسى جداً” (العدد 16، 12 – 15). نصح موسى قورح بالاكتفاء بامتيازات اللاويين، آخذاً عليه أنه “يطلب الكهانة أيضاً” (العدد 16، 8 – 10).
يزعم الكتبة أن الأرض انشقت بأعجوبة وابتلعت المتمردين وأن “ناراً خرجت من عند الرب، فأكلت المئتين والخمسين رجلاً الذين قربوا البخور” الذين كانوا معهم (العدد 16، 28 – 35). هذه “النار” هي نفسها التي اغتالت ابني هارون: لقد قُتلوا على يد موسى ورجاله.
لماذا يروي الكتبة مثل هذه القصص؟ يعود ذلك لكونهم كانوا يكتبون بعد ثلاثة قرون، وبما أنهم أنفسهم كهنة، من نسل هارون، كانوا متمسكين بامتيازاتهم. ينقلون هذه الأحداث “ليتذكر بنو إسرائيل أن لا يتقدم أحد من غير نسل هارون ليوقد بخوراً أمام الرب لئلا يصيبه ما أصاب قورح وجماعته”، ويضيفوا أن “هذا كله تم كما تكلم الرب على لسان موسى” (العدد 17، 5).
أنا لا أؤمن بالحقيقة التاريخية لهذه القصة. لا أؤمن أن الأرض انشقت وابتلعت قورح و “جماعته” الذين أنتمي إليهم بالروح. لأنني أؤمن، مثل قورح، أن ألكهنة قد جاوزوا الحد، وأن “الجماعة كلهم مكرسون للرب”، أن أبانا السماوي هو بيننا، وأننا نعيش العمانوئيل ونمارس الكهنوت الرؤيوي الذي أراده الله ومسيحه يسوع.
الحقيقة هي أن موسى وعصابته المسلحة قتلوا قورح وجماعته. “الأرض التي انشقت” وابتلعتهم و “النار” التي التهمت ابني هارون ليستا سوى سيوف مافيا موسى الدموية. يظهر ذلك من ردة فعل الجماعة ضد موسى وهارون بعد هذه المذبحة: “وفي الغد ألقى جماعة بني إسرائيل اللوم على موسى وهارون وقالوا لهما: قتلتما من شعب الرب …” (العدد 17، 6).
على المرء أن يكون ساذجاًً ليصدّق بدون تمييز كل ما يرويه الكتبة-الكهنة في كتب العهد القديم التاريخية. يدين الأنبياء هذه الغباوة بقولهم بلسان الله: “أما بنو إسرائيل فلا يعرفون، شعبي لا يفهم شيئاً” (إشعيا 1، 3). وإرميا: “شعبي جاهل لا يعرفني. بنون حمقى لا فهم لهم وحكماء في عمل الشر لا يعرفون ما الخير” (إرميا 4، 22).
أخطاء الكهنة اليهود الجسيمة شوهت صورة الله، وجعلت بني البشر غير قادرين على معرفته. إن معرفة الصفات الإلهية الحقيقية كانت ستكون مستحيلة من دون يسوع. لو كان اليهود، كما أعلن الأنبياء، غير قادرين على معرفة الله، كان يسوع بالمقابل يدرك جيداً أنه يعرفه حق المعرفة: “ما عرفك العالم، أيها الآب الصالح، لكن أنا عرفتك”، قال يسوع، ثم أضاف: “أظهرت لهم اسمك، وسأظهره لهم” (يوحنا 17، 25 – 26). يسوع هو الذي كشف الوجه الحقيقي لله، “إسمه” الحقيقي.
إن فهمنا جيداً هذه النقطة الجوهرية للحياة الروحية، سيكون همنا الأساسي أن نصلي، كما طلب منا يسوع، حتى “يتقدس اسم الله” فينا، أي أن نعرف الله وأن نعرّف به كما هو في الحقيقة، لا كما يقدمه البعض. لأن الحياة الأبدية هي معرفة الله: “الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ويعرفوا يسوع المسيح الذي أرسلته” (يوحنا 17، 3). لهذا السبب الصلاة الأولى التي علّمنات إياها يسوع هي التالية: “أبانا… ليتقدس اسمك”. مهمتنا هي تقديس هذا الإسم المقدس، هذا الإسم العجيب لأبينا الخالق.

بعض النقاط الأخرى البارزة

نعمة الروح (العدد 11)

عندما رأى موسى إرباك بني إسرائيل في البرية، وهن عزمه، وشعر بثقل رسالته. فخاطب الله قائلاً: “لماذا تسيء إلى عبدك؟ ولماذا لم أجد حظوة عندك حتى وضعت أثقال جميع هؤلاء الشعب علي؟” (العدد 11، 10 – 11). يطلب منه الرب أن يجمع له سبعين رجلاً من شيوخ وزعماء إسرائيل الذين سيحل عليهم روحه، ليساعدوه في مهمته. بعد أن جمعهم، و “استقر عليهم الروح تنبأوا إلا أنهم لم يستمروا” (العدد 11، 24 – 25). لماذا لم يستمروا؟ على الأرجح لأن موسى قرر بعد ذلك أن يتنبأ وحده، أي أن يحكم وحده باسم الله. أن يتنبأ يعني أن يتكلم باسم الله، أن يكون الناطق بلسانه، أن يكشف الرأي الإلهي بالأحداث. لا يمكن لهذا أن يحدث دون مساعدة مباشرة من الله. هذا هو السبب الذي من أجله يحل الله روحه على البشر الذين يختارهم لرسالة ما.
لاحظ أن رجلين، ألداد وميداد، قد تنبأا بمعزل عن السبعين المجتمعين مع موسى. أراد يشوع، خادم موسى، أن يمنعهما، لكن موسى أمسكه قائلاً: “ليت جميع أمة الرب أنبياء يحل الرب روحه عليهم” (العدد 11، 26 – 29). ذلك لم يمنع غضب موسى على هارون وقورح لأنهما قالا أن الرب كلمهما. موقف هوشع مشابه لموقف يوحنا في الإنجيل: “قال يوحنا ليسوع: يا معلم، رأينا رجلاً يطرد الشياطين باسمك فمنعناه، لأنه لا ينتمي إلينا. فقال يسوع: لا تمنعوه! من لا يكون علينا فهو معنا” (مرقس 9، 38 – 40). هذه الحالات لنعمة الروح خارج الإطار التقليدي توضح كلام يسوع إلى نيقوديموس: “الريح تهب حيث تشاء، فتسمع صوتها ولا تعرف من أين تجيء وإلى أين تذهب: هكذا كل من يولد من الروح” (يوحنا 3، 8).
كثيراً ما كان روح الله يكلم موسى. هذا لا يقبل الجدل! لكن موسى أيضاً كان غالباً ما يأخذ قرارات شخصية معتقداً أنها بوحي من الله. كذلك، كي نميز، في كتب العهد القديم، بين ما هو بوحي من الله وما يأتي من موسى، علينا أن نلجأ إلى النور الذي يعطينا إياه يسوع في الإنجيل.

يشوع

الإشارة الأولى ليشوع توجد في كتاب الخروج 17، 9: “فقال موسى ليشوع: خذ خيرة رجالك واخرج لمحاربة العماليق”. كان يشوع الوحيد الذي صعد مع موسى إلى جبل سيناء (خروج 24، 13). كان يخدمه بإخلاص، كونه كان متعلقا بالعبادة وبالخيمة (خروج 33، 11). يشير كتاب العدد إليه للمرة الأولى عندما أراد أن يمنع الرجلين، ألداد وميداد، من أن يتنبأا (العدد 11، 26 – 29). هذه الواقعة تكشف غيرته الكبيرة على موسى. كان في عداد الاثني عشر رجلاً الذين أرسلهم موسى لاستكشاف أرض كنعان: إنه “هوشع بن نون من سبط أفرايم” (العدد 13، 16)، الذي غير له موسى اسمه ليصبح يشوع (العدد 13، 16)، وعينه خلفاً له (العدد 27، 15 – 23). الكتاب الأول بعد التثنية يحمل اسمه ويروي كيف أدخل بني إسرائيل إلى أرض كنعان.

مهمة استطلاع في كنعان

أرسل موسى اثني عشر كشافاً إلى بلاد كنعان، واحد من كل قبيلة، ليستطلعوا الأرض ويتجسسوا على السكان بقصد اجتياح البلاد. يوشع كان واحداً منهم. انطلقوا من قادش، هذا اسم للحفظ. عند عودتهم من رحلتهم الاستطلاعية بعد أربعين يوماً، روى الكشافون أن بلاد كنعان كانت متحضرة وحصينة: “إنها بالحقيقة تدر لبناً وعسلاً، وهذا ثمرها”. فقد أحضروا معهم عينات من العنب والتين والرمان. عناقيد العنب كانت ثقيلة لدرجة أنهم حملوا العنقود “بعتلة فيما بين اثنين منهم…” (العدد 13، 33). كانت هناك عقبة رئيسية: “إن الشعب الساكنين فيها أقوياء والمدن حصينة عظيمة جداً…” (العدد 13، 28). أرعب ذلك الكشافين العشرة الذين نصحوا بالتخلي عن الإجتياح: “لا نقدر أن نصعد إلى هناك لأن القوم أقوى منا… وجميع الشعب الذين رأيناهم فيها أناس طوال القامات… فصرنا في نظرنا صغاراً كالجراد، وكذلك في نظرهم” (العدد 13، 31 – 33). وحدهما يشوع وكالب كان رأيهما مخالف.
انضم الشعب إلى رأي الأغلبية من الكشافين (العدد 14، 1 – 4) واستعدوا، بالرغم من تشجيع يشوع وكالب، لرجم موسى وجماعته: “فقالت الجماعة كلها: هيا نرجمهم بالحجارة” (العدد 14، 10). فما كان من موسى إلا أن انتهى به الأمر بقتل “الرجال الذين أرسلهم ليتجسسوا الأرض ورجعوا وجعلوا كل الجماعة تلومه لأنهم أشاعوا برداءة الأرض. فماتوا بضربة أمام الرب… ولم يسلم منهم إلا يشوع بن نون وكالب بن يفنا” (العدد 14، 36 – 38).
إذاً فلسطين لم تكن يوماً خاوية كما يزعم البعض. منذ ألاف السنين وهي أرض متحضرة ومزروعة بجميع أنواع الأشجار المثمرة. الزعم بتحويل “الصحراء الفلسطينية إلى حديقة إسرائيلية” هو خداع وتضليل لا ينطلي إلا على الجهلاء.
أمام قوّة الكنعانيين، وحدهما يشوع وكالب كانا عازمان على دخول البلد. فيما بعد، وعلى الرغم من ذلك، قرر بنو إسرائيل الدخول؛ لكن بعد فوات الأوان، لأن الرب لم يعد معهم: “نزل العمالقة والكنعانيون… فضربوهم وهزموهم” (العدد 14، 45). العبرة من هذه القصة هي أنه علينا أن لا نتردد في التصرف عندما تكون ساعة الله، كما يجب بالمقابل أن نمتنع عن القيام بأي عمل، ولو بدا حسناً في الظاهر، إن كان سيتم من غير الله. لهذا السبب نصح موسى بالعدول عن الخطة (العدد 14، 41 – 42). وفقاً للكتبة، لقد هُزموا لأن “موسى وتابوت العهد لم يكونا معهم” (العدد 14، 44).
لم يدخل بنو إسرائيل عبر قادش، الطريق المباشر والأقصر، لأن ملك أدوم الذي كان خائفاً من عبور هذا العدد الكبير، رفض السماح لهم بالمرور، مما اضطرهم إلى الالتفاف حول أرض أدوم (العدد 20، 14 – 21). عدلوا إذاً عن هذا الطريق المختصر ونزلوا إلى الجنوب، ثم التفوا صعوداً إلى الشمال نحو موآب، وهي مسافة هائلة، كثيرة الصعوبة والخطورة يلزم 38 سنة لعبورها. كثيرون لن يدخلوا فلسطين، حتى موسى وهارون لن يرونها (العدد 14، 29 – 38).

الشرائع المختلفة

رواية الإقامة في قادش تقطعها سلسلة شرائع يشار إليها في الفصول 15 – 19. سنتناول أهمها:

السبت
كل عمل هو محرم في يوم السبت. كان رجلاً يجمع الحطب في يوم السبت فاعتُبر ذلك انتهاكاً للشريعة “الإلهية” للسبت. قُتل الرجل رجماً بالحجارة “كما أمر الرب موسى” (العدد 15، 36). موقف بهذه القسوة لا يتوافق مع روح الله. قارن ذلك مع موقف يسوع تجاه الفريسيين الذين انتقدوا الرسل لأنهم قطفوا سنابل القمح في السبت (متى 12، 1 – 8).
الأهداب
يزعم موسى أن الله يطلب من بني إسرائيل “أن يصنعوا لهم أهداباً على أذيال ثيابهم مدى أجيالهم، ويجعلوا على أهداب الذيل سلكاً أزرق اللون…” (العدد 15، 37). هذه الأساليب “الدينية” السخيفة اقتدى بها المسيحيون، خصوصاً الكنيسة الكاثوليكية (كرادلة وأساقفة). أدان يسوع عادات الملبس هذه (متى 23، 5) وشدد على الإيمان والبساطة، لا على الثياب.

البقرة الحمراء
وفقاً لإحدى فرائض الشريعة التي أمر بها الرب، فإن رماد البقرة الحمراء الذي يمزجه الكهنة بالماء قادر على التطهير (العدد 19، 1 – 10). ورماد البقرة الباقي “يكون محفوظاً لجماعة بني إسرائيل لأجل ماء التطهير. وتُحسب هذه الذبيحة ذبيحة خطيئة” (العدد 19، 9). إنه طقس وثني آخر يمر، مع خزعبلاته، في الطقس اليهودي. التطهير المعنوي بالماء هو ممارسة معروفة في الديانات القديمة. المطابق له هو “الماء المقدس” عند المسيحيين، الوضوء عند المسلمين، نهر الغانج عند الهندوس إلخ…
من الواضح أن هذا “التطهير” وهمي، كونه مادي وملوث بالشعوذة والخرافات الوثنية. فكر بالأهمية الدينية المُعطاة للبقرة “البيضاء” في الهند (لون البقرة يختلف لكن ليس روح العبادة). الفرق هو أن الكتبة ينسبون هذه العبادة إلى… الرب! السبب الحقيقي هو أن ذلك كان يناسب الكهنة لأن الناس كانوا يدفعون مالاً كثيراً ليتطهروا بواسطة بقرة “حمراء” ليس من السهل دائماً العثور عليها. منذ فترة من الزمن، أعلن بعض الإسرائيليون بفرح أن الزمن المسيحي قد حل لأنه تم العثور أخيراً في اسبانيا على بقرة حمراء توافق متطلبات التوراة…!
لمعرفة التطهير الروحي من خلال التوبة، كان يستلزم مرحلة جديدة تطورية. يسوع هو الذي، على حساب تضحيته، علّمنا أن نتطهر من خلال التضحية بميولنا السيئة وطلب المغفرة، لا من خلال عبادة خارجية وهمية. الله هو الذي يسامح ويطهر النفس التائبة.

الماء التي خرجت من الصخرة
بنو إسرائيل الذين كان ينقصهم الماء والغذاء، ثاروا ،مرة أخرى، على موسى. ندموا لأنهم تركوا أرض مصر من أجل صحراء قاحلة (العدد 20، 1 – 5). فيقول الرب لموسى:
“خذ العصا (عصا هارون التي أزهرت على حساب عصا قورح عند ثورة هذا الأخير ضد موسى: العدد 17، 21 – 26) واجمع الجماعة، أنت وهارون أخوك، وكلما الصخرة على مشهد منهم فتُعطي مياهها… وجمع موسى وهارون الجماعة أمام الصخرة… ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين فخرج ماء كثير، فشرب منه الجماعة وبهائمهم” (العدد 20، 6 – 11). مكان هذا التجمع هو موضوع نزاع كما سنرى لاحقاً: هل كان حول صخرة أو حول بئر؟
بعد هذه الأعجوبة، غضب الرب على موسى وهارون: “بما أنكما لم تؤمنا بي إيماناً يُظهر قداستي على مرأى بني إسرائيل، (أن أظهر جبروتي)، لذلك لا تدخلان أنتما هؤلاء الجماعة إلى الأرض التي أعطيتها لهم” (العدد 20، 11 – 12). بالفعل، يشوع هو الذي أدخلهم إلى فلسطين (العدد 27، 12 – 22). ما كانت غلطة موسى وهارون؟ لماذا هذا الغضب الإلهي عليهما؟ من غير الممكن تصور ردة فعل كهذه من قِبل الله بعد مثل هذه الأعجوبة. ضرب موسى الصخرة مرتين. هل كان عليه أن يضربها مرة واحدة، بثقة، لا مرة ثانية بعد أن تردد. هو الذي كان الله يكلمه، أما كان عليه أن يتصرف عن اقتناع وقوة عارفاً أن الله “قادر أن يظهر قداسته” أمام الجميع؟
الإجابة موجودة في المكان حيث كان يجب أن يتم التجمع لشرب الماء: أكان حقاً حول صخرة كما يدعي الكتبة في العدد 20، 1 – 13 ليجعلوا الناس يؤمنون بالأعجوبة؟ يناقض هذا المكان من قبل العدد 21، 16 – 18 الذي يكشف أن التجمع حصل حول بئر: “ثم رحلوا من هناك إلى بئر قال الرب عندها يوماً لموسى: إجمع الشعب حتى أعطيهم ماء. في ذلك الحين أنشد إسرائيل هذا النشيد: أخرجي يا بئر ماءك! غنوا لها. بئر حفرها الرؤساء…” (العدد 21، 16 – 18).
بالتالي، ليشربوا، حصل “التجمع”، لا حول صخرة، لكن بكل بساطة حول بئر. فضلاً عن ذلك، بشربه ماء البئر، لم يحترم موسى عهده بأن “لا يشرب ماء بئر” المناطق التي كانت الجماعة تعبرها (العدد 20، 17 / 21، 22).
غضب الله على موسى وهارون كان بالأحرى بسبب عنفهما المفرط وتأسيسهما عبادة متصلبة، منسوخة عن الوثنية، لم يأمر بها الله أبداً. وهذا، باسمه (الرب)!
موت هارون (العدد 20، 14 – 21)
لقد رأينا أن ملك أدوم منع الإسرائيليين من عبور أرضه. فكان على هؤلاء أن يسلكوا طريقاً طويلاً وشاقاً عبر الجنوب. مات هارون في الطريق إلى جبل هور، فخلفه ابنه ألعازر كرئيس للكهنة.

الحية النحاسية (العدد 21، 4 – 9)
صُنعت بناء على طلب الله، هذه الحية النحاسية عُلقت أفقياً على سارية عمودية، مشكلة بذلك صليباً. الذين لدغتهم الحيات في البرية، لكنهم نظروا إلى هذه الحية النحاسية بإيمان، شُفيوا جسدياً، وغُفر لهم تمردهم على الله.

cb_serpent-airain
الحية النحاسية

هذا الصليب كان يجسّد بصورة مسبقة صليباً آخر أكثر أهمية، ذو قدرة شفائية روحية لا جسدية، أبدية لا زمنية. الصليب الذي شكلته الحية النحاسية على السارية العمودية أعلن عن صلب المسيح وشفاء الذين سيؤمنون به. استعاد يسوع هذه القصة عازياً لصلبه القيم المحيية، إنما على صعيد الروح هذه المرة. الحية النحاسية على هيئة صليب كانت ترمز إلى صلبه: “وكما رفع موسى الحية (النحاسية) في البرية، فكذلك يجب أن يُرفع (على الصليب) ابن الإنسان (المسيح)، لينال كل من يؤمن به الحياة الأبدية”، قال يسوع (يوحنا 3، 14).
كرم اليهود هذه الحية النحاسية لمدة طويلة إلى درجة العبادة. لهذا السبب حطمها الملك حزقيا بعد 600 سنة (الملوك الثاني 18، 4).

طقس “الأوريم والتميم” (العدد27، 21: راجع أيضاً الخروج 28، 30)
الأوريم والتميم كانا نوعين من الحجارة أو زهر النرد يحملهما الكاهن الأكبر ليستشير الله في مسألة معينة؛ كان الكاهن يرمي الأوريم والتميم و، بحسب وضعية سقوطهما أو النقش الذي يحملانه، كان الكاهن الأكبر يفسّر بـ “نعم” أو “لا” كإجابة إلهية على السؤال المطروح. إنه أسلوب سيء لاستشارة الله وغالباً ما كان يُعطي نتائجاً مفجعة.

التقدمات والقرابين إلى الرب من نصيب الكهنة
الفصل 28 يكرر أيضاً بعض الشرائع الموسوية. بالنسبة للأضاحي، يقول “الله” للشعب: “قرباني، أي خبزي مع وقائدي التي ترضيني رائحتها، تحرصون أن تقربوه لي في وقته” (العدد 28، 1 – 2). كل هذه التقدمات “المقربة للرب” تصل في النهاية إلى طاولة الكهنة واللاويين الذين يكتبون هذه النصوص (إقرأ صموئيل الأول 2، 12 – 17). كان ذلك إذاً يناسب الكهنة، الكتبة واللاويين أن يكون هناك أكبر عدد ممكن من الأضاحي المقدمة إلى … الرب… وأن يأكلوها هم أنفسهم …باسم الرب!

بلعام ونبوءاته عن المسيح (العدد 22، 24)

الموضوع الأهم في كتاب العدد هو نبوءات بلعام (عراف غير يهودي) عن المسيح.
لدخول فلسطين، كان على بني إسرائيل أن يعبروا بلاد موآب (في الأردن حالياً). بالاق، ملك موآب، أراد منعهم بالقوة. فاستدعى بلعام، وهو ساحر من المنطقة، وطلب منه أن يلعنهم حتى يستطيع أن يتغلب عليهم دون عناء: “فذهب شيوخ موآب وشيوخ مديان، وفي أيديهم عطايا (ثمن السحر ضد اليهود)، وجاؤوا إلى بلعام” (العدد 22، 7).
منع الله بلعام من لعنهم: “لا نجس في بني يعقوب لا ذل في بني إسرائيل” (العدد 23، 23). لماذا؟ لأن بلعام العراف قال إن “ملكه يرتفع على أجاج وتتسامى مملكته. يفترس أعداءه من الأمم… (العدد 24، 7) …أراه وهو غير حاضر، وأبصره وهو غير قريب. يطلع كوكب من بني يعقوب ويقوم صولجان من بني إسرائيل…” (العدد 24، 17).
بالتالي، إن السبب الوحيد الذي من أجله حمى الله هذا الشعب هو أن المسيح سيخرج منه. إنه هذا “الملك” الذي يأتي من بني يعقوب و “الكوكب” الذي يراه بلعام في المستقبل الـ “غير قريب”. بالفعل، لم يأتِ يسوع إلا بعد 13 قرناً. هو “كوكب الصبح” كما يسميه كتاب الرؤيا (رؤيا 20، 28 / 22، 16). من الواضح هنا أن الدعوة الربانية الوحيدة لبني إسرائيل هي مجيء المسيح. اليوم، بعد مجيء هذا المسيح بشخص يسوع الناصري، كل إسرائيلي ينكره لن يعد بإمكانه أن يطمح إلى أية بركة سماوية، كما كل إنسان يولي ظهره لهذا الكوكب-الملك.
بلعام هو شخصية للحفظ لأنه لعدم قدرته على لعن اليهود، دفعهم إلى الزنى مع باغيات موآب ليجلب عليهم غضب الرب (العدد 25، 1 – 3). لاحظ أن اليهود ألقوا باللوم على الموآبيين والمدينيين على السواء (العدد 25، 6 – 16). لكن المسؤولية الكبرى في هذه القضية ألقيت على بلعام وكانت السبب الذي من أجله قتله الإسرائيليون فيما بعد (العدد 31، 8). كتاب الرؤيا أيضاً يأتي على ذكر بلعام فيشبه به كفار آخر الأزمنة، هو “الذي أشار إلى بالاق أن يوقع بني إسرائيل في شرك الخطيئة” ويستأهلوا الغضب الإلهي (رؤيا 2، 14). هؤلاء الكفار هم أتباع الوحش الذين يفسدون تلاميذ المسيح ليبعدونهم عن الله كما فعل بلعام (ننصح بقراءة كتاب “برتوكولات حكماء صهيون”).

حدود إسرائيل

كتاب العدد ينتهي مع بني إسرائيل وهم على مشارف فلسطين شرقي نهر الأردن في جبل نبو المواجه لمدينة أريحا الفلسطينية. هناك توفي موسى (التثنية 34، 1 – 5).
وفقاً للكتبة، الحدود الممنوحة لليهود، ودائماً من قبل الله، تمتد من سيناء إلى مدينة حماة، في شمال سوريا (34، 8) وتنتهي في الشرق مع نهر الأردن والبحر الميت (34، 12).
هذه الحدود خيالية ولا تستند على الله بل على الطموحات المتقلبة للكتبة الذين، وفقاً لشهيتهم الشرهة، يضعون الحدود تارةً من سيناء إلى نهر الأردن، كما هو الحال هنا، وطوراً من النيل إلى الفرات، كما هو مذكور في يشوع 1، 3 – 4. لو أن الله هو الذي أعطى لبني إسرائيل حدوداً، لما كانت هذه الأخيرة قد اختلفت من كاتب لآخر، بل كانت ستكون ثابتة ومحددة بوضوح، وفوق كل ذلك، أن تكون ثابة تاريخياً.
الإسرائيليون المعاصرون ليسوا مسرورين بالأرض التي أعطاهم إياها “الله”، والتي وصفها موسى بالأرض التي “تدر لبناً وعسلاً” (خروج 3، 8 / العدد 13، 27). في الماضي، عندما كانوا في البرية، تحسر اليهود على “السمك والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم” الذي كانوا يأكلونه في مصر “مجاناً” (العدد 11، 5 – 6). في سنة 1977، رئيسة الوزراء الإسرائيلية المتوفاة غولدا مايير قالت إن “إسرائيل لن تسامح لموسى عدم تبصره: فقد أخرج الإسرائيليين من مصر وضرب الصخرة ليروي ظمأهم، لكنه جعلهم يمشون لمدة 40 سنة في البرية ليضعهم في المنطقة الوحيدة الخالية من البترول”.

كتاب التثنية

معنى كلمة تثنية

التثنية تعني “الشريعة الثانية” أو “الشريعة مرة ثانية”. دُعي هذا الكتاب بهذا الاسم لأنه إعادة مختصرة لكتب الشريعة الأربعة (التوراة) التي تسبقه. إنه مجموعة، ملخص، أو عرض شامل للتوراة.

متى ومن كتبه؟

تمت كتابة سفر التثنية ثمانية قرون ق.م، أي نحو 200 سنة بعد الكتب الأربعة التي سبقته، وبعد 400 سنة على الأقل من دخول بني إسرائيل إلى فلسطين. تمّت كتابته من قبل مجموعة من الكتبة والكهنة بهدف جمع جوهر تعاليم موسى في جزء واحد. زادوا عليه ما كانوا يريدون أن يفرضه لمصلحتهم. وليجعلوا التعاليم الموجودة فيه أكثر وزناًً، جعلوا موسى نفسه يتكلم. خطابات متعاقبة تشكل وصيته الروحية. ما عدا الشرائع والتعليمات، يتضمن كتاب التثنية سرداً للأحداث الرئيسية التي حصلت في البرية.
تمّت كتابة كتاب التثنية بعد تأسيس المملكة الإسرائيلية. هدفه هو تجنب تكرار أخطاء الماضي في المستقبل: “إذا دخلتم الأرض التي يُعطيكم الرب إلهكم وامتلكتموها وسكنتم فيها وقلتم: نقيم علينا ملكاً كسائر الأمم الذين حوالينا… وعلى الملك أن لا يُكثر من النساء (كما قد فعل داود وسليمان)،… ولا يبالغ في الإكثار لنفسه من الذهب والفضة. ومتى جلس على عرش مُلكه، فعليه أن يكتب نسخة من هذه الشريعة (التثنية) في سفر من عند الكهنة اللاويين… يقرأ فيها كل أيام حياته…” (التثنية 17، 14 – 20). تجدر ملاحظة أهمية الكهنة في كتابة الكتاب المقدس. علينا مقارنة هذا النص مع نص صموئيل الأول 8، 5 – 19 حيث طلب اليهود من صموئيل قبل أن تأسست المملكة الإسرائيلية في القرن الحادي عشر ق.م: “أقم علينا ملكاً يقضي بيننا كما هي الحال في جميع الأمم”. في مكان آخر، في الملوك الأول 10، 14 – 18 والملوك الأول 11، 1 – 8، نجد الذهب، الجياد وتعدد نساء الملك سليمان. كتاب التثنية يهدف إلى تجنب تكرار مثل هذه الهفوات في المستقبل. في جزء واحد تكرر قول كل شيء لجعل الجميع يتذكرون، خاصة الملوك، واجباتهم تجاه الله: “فاعلموا الآن ورددوا في قلوبكم أن الرب هو الإله في السماء من فوق وفي الأرض من أسفل، ولا إله سواه. واحفظوا سننه ووصاياه التي أنا آمركم بها…” (التثنية 4، 39 – 40).
تعرّض كتاب التثنية للإهمال لمدة طويلة بعد كتابته. فقد وُجد مدفوناً في المعبد على عهد الملك يوشيا، في سنة 622 ق.م. إنه “كتاب الشريعة” الذي وُجد في الهيكل (الملوك الثاني 22، 8) و “كتاب موسى” الذي يرجع إليه نحميا 13، 1 – 3.
لجعل كلامهم أكثر إقناعاً، بذل الكتبة اللاويون كل جهدهم – كما يبدو واضحاً – ليعطوا الانطباع أن موسى هو الذي ألّفه وعهد به إلى اللاويين: “ولما فرغ موسى من تدوين كلام هذه الشريعة كلها في سفر، أمر اللاويين حاملي تابوت العهد وقال لهم: خذوا سفر الشريعة هذا…إلخ…” (التثنية 31، 24 – 26).

لكن نص التثنية يدل على أن موسى ليس هو من كتب جميع فصول الكاتب. فمن غير المعقول أن يكون هو الذي كتب الفصل الأخير الذي يتحدث عن موته ودفنه (التثنية 34). لما كان قد كتب: “هذا كلام الشريعة التي كلم به موسى جميع بني إسرائيل…” (التثنية 1، 1)، بل: “هذا كلام الشريعة التي كلمت به جميع…”، ولا: “ثم فرز موسى ثلاث مدن…” (التثنية 4، 41)، بل: “فرزتُ ثلاث مدن…”. كل شيء يشير إلى أن الكهنة والكتبة سعوا جاهدين لكتابة كتاب التثنية على عهد النظام الملكي في إسرائيل، قبل الاجتياح البابلي سنة 586 ق.م. في مقدمته لكتاب التثنية، يعترف اندريه شوراقي، كاتب الكتاب المقدس الفرنسي الذي يحمل اسمه، بأن هناك “دلائل تحول دون رؤية عمل المشترع الكبير (موسى) في هذا الكتاب”.
يجب في هذه المرحلة قراءة كتاب التثنية بكامله ثم العودة إلى شرح النقاط المهمة في تتمة الدرس الكتابي.

اغتصاب الأرض

فريضة اغتصاب الأمم كثيراً ما تعود في كتاب التثنية. فقد دفع موسى شعب إسرائيل، باسم الله، على طرد سكان بلاد كنعان والاستيلاء على ثرواتهم:

يطرد (الرب) من أمامكم أمماً أشد وأعظم منكم، ويدخلكم أرضهم ويعطيها ملكاً لكم” (التثنية 4، 38).
“إسمع يا شعب إسرائيل. أنت اليوم تعبر نهر الأردن لتدخل وترث شعوباً أكثر وأعظم منك…” (التثنية 9، 1).
“وإذا أدخلكم الرب إلهكم الأرض التي أقسم لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيها لكم تجدون مدناً عظيمة حسنة لم تبنوها وبيوتاً مملوءة كل خير لم تملأوها، وآباراً محفورة لم تحفروها، وكروماً وزيتوناً لم تغرسوها، فإذا أكلتم وشبعتم لا تنسوا الرب…” (التثنية 6، 10 – 12).
نحن متأثرون بعدد المرات التي تكررت فيها وصية اغتصاب وسلب الأمم الأخرى… باسم الله! ففي آية واحدة، تتكرر هذه الفريضة مرتين: “وإذا إفنى الرب إلهكم من أمامكم الأمم الذين أنتم ذاهبون لترثوها، فورثتموهم وأقمتم في أرضهم…” (التثنية 12، 29).
لكن اغتصاب الملكية لم يكن يكفي: “وإذا اقتربتم من مدينة لتحاربوها فاعرضوا عليها السلم أولاً (!!)، فإذا استسلمت وفتحت لكم ابوابها، فجميع سكانها يكونون لكم تحت الجزية ويخدمونكم (!!). وإن لم تسالمكم، بل حاربتكم فحاصرتموها فأسلمها الرب إلهكم إلى أيديكم، فاضربوا كل ذكر فيها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وجميع ما في المدينة من غنيمة، فاغنموها لأنفسكم… وأما مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها لكم الرب إلهكم ملكاً، فلا تبقوا أحداً منها حياً” (التثنية 20، 10 – 16). اغتصاب الملكية، تخريب وجرائم ترتكب باسم الله. هذا ما دنس إسم الله القدوس.
مع ذلك فإن الوصايا العشر تحوي ثلاثة وصايا واضحة: “لا تقتل، لا تسرق، لا تشته بيت قريبك، ولا امرأته ولا عبده ولا جاريته ولا ثوره ولا حماره ولا شيء مما له” (خروج 20، 13 – 17). للتملص من هذه الوصايا، يفسر الكتبة والكهنة معنى كلمة “قريبك” بمهارة. فبالنسبة لليهودي، القريب هو اليهودي. فهذه الوصايا ليست صالحة إلا لليهودي. الغوييم هم الأعداء الذين أوعز بسلبهم، وحتى بقتلهم. ذلك لم يمنع موسى من الأمر بقتل أبناء أخيه وعدد كبير من اليهود. السامريون أنفسهم كانوا يُعتبرون أعداء. لإهانة يسوع، نعته الفريسيون بالسامري (يوحنا 8، 48). “لأن اليهود لا يخالطون السامريين”، يقول يوحنا (يوحنا 4، 9). صحح يسوع تفسير هذه الوصايا باختياره سامرياً، وهو العدو التقليدي لليهود، كمثل على محبة القريب (لوقا 10، 29 – 37). حتى أنه ذهب إلى أبعد من ذلك بالثناء على الضابط الروماني، الذي هو وثني، وبتوبيخ اليهود: “فتعجب يسوع من كلام الضابط وقال للذين يتبعونه: الحق أقول لكم: ما وجدت مثل هذا الإيمان عند أحد في إسرائيل. أقول لكم: كثيرون من الناس سيجيئون من المشرق والمغرب ويجلسون إلى المائدة مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات. وأما من كان لهم الملكوت (إسرائيل، اليهود الصهاينة) فيطرحون خارجاً في الظلمة، وهناك البكاء وصريف الأسنان” (متى 8، 10 – 13). لهذا السبب يدعو يسوع اليهود أن يحبوا أعداءهم وأن يكفوا عن الاحتفاظ بالسلام والتحية لأخوتهم: “أحبوا أعداءكم… فإن كنتم تحبون الذين يحبونكم، فأي أجر لكم؟” (متى 5، 42 – 48).
هذا الإصرار على اغتصاب الأرض والقتل يلقي الضوء، بدون أي شك، على مصدر مثل هذه الوصايا: “أنتم أولاد إبليس، وتريدون أن تتبعوا رغبات أبيكم، هذا الذي كان من البدء قاتلاً”، صرخ يسوع في وجه منكريه (يوحنا 8، 44). إن هذه الأوامر التي أصدرها موسى هي التي جلبت عليه غضب الله. بعد إخراجه بني إسرائيل من مصر، أراد أن يستولي على البلدان من سيناء إلى لبنان وإلى أبعد من ذلك. فقد اعترف أمام الجماعة أنه ” استعطف الرب قائلاً: أيها الرب الإله… دعني أعبر فأرى الأرض الطيبة التي في عبر الأردن غرباً وذلك الجبل الجميل ولبنان. لكن الرب كان غاضباً علي بسببكم ولم يسمع لي، بل قال لي: كفى، لا تزد في الكلام معي في هذا الأمر !” (التثنية 3، 23). غضب الله العارم لم يكن بسبب الشعب، كم اعتقد موسى، بل لكبح شهية التملّك عند هذا الأخير (التثنية 4، 21).
في تقييمنا لتصرف موسى، هل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار بعض الظروف التخفيفية: ذهنية وعادات العصر، صعوبة المهمة، قساوة الشعب…؟

الإضافات

اعترف موسى أن الله لم يضف شيئاً على كلام الوصايا العشر: “هذه هي الوصايا التي كلم الرب بها جماعتكم كلها في الجبل… لم يزد عليها شيئاً وكتبها على لوحي الحجر وسلّمها إلي” (التثنية 5، 22). أمر موسى أيضاً: “لا تزيدوا كلمة على ما آمركم به ولا تنقصوا منه” (التثنية 4، 2). والحال هو أنه قد تمت إضافة العديد من الفرائض لصالح رغد عيش الكهنة. من أين أتت هذه الإضافات؟ من “قلم الكتبة الكاذب” (إرميا 8، 8). نحن اليوم قادرون على اكتشاف هذه القذارة وتطهير التوراة من خلال تعاليم يسوع.

“القلة القليلة”

في التثنية 4، 25 – 31، يتنبأ موسى بخيانة بني إسرائيل الروحية: “حتى تبقوا جماعة معدودة” (التثنية 4، 27). حتى اليوم، ليس سوى “عدد قليل”، “جماعة معدودة”، سيبقون أوفياء لله ولمسيحه، وينجحون في تجربة الإيمان. بالفعل، قلة قليلة فقط من الطائفة الإسرائيلية اعترفت أن يسوع هو المسيح المُعلن، وقلة قليلة تعرفت على المسيح الدجال: “قال رجل ليسوع: يا سيد، أقليل عدد الذين يخلصون؟ فأجاب يسوع: إجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق. أقول لكم: كثير من الناس سيحاولون أن يدخلوا فلا يقدرون” (لوقا 13، 23 – 24). قال يسوع أيضاً بهذا الخصوص: “وفي ذلك الوقت يسلمونكم إلى العذاب ويقتلونكم… ويرتد عن الإيمان كثير من الناس، ويخون بعضهم بعضاً… تبرد المحبة في أكثر القلوب. ومن يثبت إلى النهاية يخلص” (متى 24، 9 – 13). وقال أيضاً: “أيجد ابن الإنسان إيماناً على الأرض يوم يجيء؟” (لوقا 18، 8). لن يجده إلا في قلوب قلة قليلة ستلهب العالم.

“أمة” إسرائيل

التثنية 4، 34 يقدم إسرائيل كأمة مختارة من الله: “هل أقدم إله غيري على أن يتخذ له أمّة من بين أمّة أخرى… مثلما فعل لكم الرب إلهكم في مصر أمام عيونكم؟”. يوجد خطأان في هذا الكلام: من الخطأ الزعم أن الله اختار أمّة، فالاختيار الإلهي قد استقر على إنسان، إبراهيم. ومن الخطأ أيضاً أن يُقال لليهود: …مثلما فعل الرب لكم”. لقد رأينا أن الله قد عمل على تحقيق مخططه المسيحي لصالح جميع البشر ، لا لمجد الطائفة اليهودية.

ختان القلب

نجد في كتاب التثنية تطوراً في فهم الختان بحسب الروح لا الحرف. للمرة الأولى يتعلق الأمر بختان القلب، في التثنية 10، 16: “فاختنوا قلف قلوبكم ولا تقسوا رقابكم بعد اليوم”. يعود النبي إرميا بعد بضعة قرون إلى هذا الختان الروحي فيقول: “اختتنوا للرب وأزيلوا قلف قلوبكم” (إرميا 4، 4).

على الرغم من ذلك، ما زال البعض يصرون على الختان الجسدي للقلف. شكلت هذه الممارسة موضوع خلاف كبير بين رسل يسوع الأولين: “نزل جماعة من اليهودية وأخذوا يعلّمون الإخوة فيقولون: لا خلاص لكم إلا إذا اختتنتم على شريعة موسى” (أعمال 15، 1). الختان الحقيقي هو ختان القلب كما يقول بولس: “وإنما اليهودي هو اليهودي في الباطن، والختان هو ختان القلب بالروح لا بحروف الشريعة” (رومة 2، 29).

الاختيار بين النعمة واللعنة

وُهب بنو إسرائيل نعماً إن كانوا مخلصين، ولعنات إن كانوا غير مخلصين: “ها أنا أتلوا عليكم اليوم بركة ولعنة…” (التثنية 11، 26 – 30). على جبل جرزيم، في السامرة، وُضعت البركة وعلى جبل عيبال، قبالته، وُضعت اللعنة (التثنية 11، 29). جبل جرزيم، كونه مكان البركة، تم اختياره كمقدس ومكان عبادة من قِبل السامريين. ولا يزال موجوداً حتى اليوم. أما بالنسبة لليهود، فكانوا يمارسون عبادتهم في هيكل القدس (إقرأ المحادثة بين يسوع والمرأة السامرية في يوحنا 4، 20 – 24).

موسى يبشر بالمسيح

الموضوع الأهم في هذا الكتاب هو بشارة موسى عن المسيح-النبي: “يُقيم لكم الرب إلهكم نبياً من بينكم، من أخوتكم بني قومكم مثلي، فاسمعوا له”. وأضاف موسى: “قال لي الرب: سأقيم لهم نبياً من بين أخوتهم مثلك وأُلقي كلامي في فمه، فينقل إليهم جميع ما أكلمه به. وكل من لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أحاسبه عليه” (التثنية 18، 15 – 19).

يجب حفظ هذه النبوءة المسيحية المهمة التي يرجع إليها يسوع: “لأن موسى كتب فأخبر عني” (يوحنا 5، 46). إلى هذه الآية أشار الرسل أيضاً: “وجدنا الذي ذكره موسى في الشريعة، والأنبياء في الكتب، وهو يسوع…” (يوحنا 1، 45). عندما سأل الفريسيون يوحنا المعمدان إن كان هو “النبي”، فذلك لأنهم رجعوا إلى نبوءة موسى (يوحنا 1، 21).

علينا أن نحفظ أن النبي المُعلن هو “مثل” موسى، وأعظم منه. عندما جاء يسوع، تبين أنه أكبر من موسى كما يكشفه بولس: “لكن يسوع كان أهلاً لمجد يفوق مجد موسى بمقدار ما لباني البيت من كرامة تفوق كرامة البيت” (العبرانيين 3، 3).

المسيح الذي بشر به موسى يأتي لخلاص كل الذين يؤمنون به، يهود أو غير يهود، وليدين كل الذين يرفضونه (التثنية 18، 19). أعلن يسوع أن “من يؤمن بالإبن لا يُدان. ومن لا يؤمن به أُدين، لأنه ما آمن بابن الله الأوحد” (يوحنا 3، 18).

“ها أنا اليوم جعلت بين أيديكم الحياة والخير، والموت والشر”، يقول الرب في التثنية 30، 15. الحياة هي من جهة المسيح يسوع. الموت هو من جهة الدولة الصهيونية المناقضة لروح الله ومسيحه. “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين” (متى 6، 24).

إبراهيم السوري

الكتبة يقدمون إبراهيم على أنه عبراني: “جاء أحد الناجين وأخبر أبرام العبراني…” (تكوين 14، 13). نيتهم هي أن يتركوا الناس يعتقدون أن “العرق” العبري كان موجوداً عندما تم اختيار إبراهيم الذي كان منهم. هكذا، من خلال اختيار إبراهيم، تم اختيار جميع العبرانيين به. هذا هو منطقهم، لا منطق الله، ولا منطقنا.

لهذا السبب يطلب موسى من جماعته: “…يجيء ويقول أمام الرب إلهكم: كان أبي أرامياً تائهاً فنزل إلى مصر…” (التثنية 26، 5). هكذا يذكّر موسى اليهود أن أبيهم، إبراهيم، هو من أصل سوري لا عبراني. في زمن إبراهيم لم يكن هناك عبرانيون. هذا التوضيح الذي قام به موسى يربك ويدين العنصرية الصهيونية.

الوعد الإلهي المشروط

وفاء بني إسرائيل لله هو الشرط الأساسي والضروري للحصول على أرض الميعاد: “…فتسلكوا في طرقه، وتحافظوا على فرائضه ووصاياه وأحكامه، وتسمعوا كلامه” (التثنية 26، 17 – 18). والحال هو أنه لم يتم احترام هذا الشرط: “هذا الشعب سيقوم ويزني وراء آلهة الأرض الغريبة… ويتركني وينقض عهدي الذي قطعته معه”، كما أعلن الرب لموسى (التثنية 31، 16).
يحذّر موسى اليهود من الخيانة والعصيان: “لأنكم لم تسمعوا كلام الرب إلهكم… كذلك يسر إذا أبادكم ودمركم وأزالكم عن الأرض التي أنتم داخلون إليها لتمتلكوها” (التثنية 28، 62 – 68). فضح إرميا بدوره خيانة بني إسرائيل وفسخ العهد مع الله: “العهد الذي عاهدته آباءهم نقضوه”، يقول الرب (إرميا 31، 32).

“قلة قليلة” فقط ستبق وفية (التثنية 28، 62) لمتابعة مخطط الله باستقبال المسيح، بادىء العهد الجديد الذي بشر به الأنبياء: “وستأتي أيام أُعاهد فيها بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهداً جديداً لا كالعهد الذي عاهدته آباءهم… لأنهم نقضوه” (إرميا 31، 31 – 32). باستشهاده، أسس يسوع هذا العهد الجديد الأبدي (متى 26، 28).

فسخ العهد الأول يجرّد إسرائيليي القرن العشرين من كل ذريعة للاستحواذ على فلسطين، باسم الله. عدم إخلاصهم للخالق، من خلال رفضهم ليسوع، سيقتلعهم مرة أخرى من هذه الأرض. إن كانوا موجودين فيها اليوم فهذا لا يعود إلى تدخل إلهي. فكتاب الرؤيا يكشف لنا أن المضلل (الشيطان) يجذبهم “من زوايا الأرض الأربع” (رؤيا 20، 7 – 9). هذا الأخير يجذبهم إلى هذه الأرض ملألئاً صورة عودة الشعب المختار من زوايا الأرض الأربع إلى أرض الميعاد. هكذا أصبحت إسرائيل، كم يكشفه بولس، “رجل المعصية الذي يقضي عليه الرب يسوع بنفس من فمه ويبيده بضياء مجيئه. ويكون مجيء رجل المعصية بقدرة الشيطان على جميع المعجزات والآيات والعجائب الكاذبة، وعلى جميع ما يغري بالشر أولائك الذين مصيرهم إلى الهلاك” (تسالونيكي الثانية 2، 8 – 12).

موت موسى

موت موسى وهارون خارج فلسطين هو العقاب الذي أعلنه الله (العدد 20، 12). موت المشترع الكبير خارج “أرض الميعاد” يعني أن شريعة موسى غير قادرة لأن تكون مدخلاً إلى ملكوت الله، بما أن مؤسسها نفسه لم يقدر أن يدخل أرض الميعاد، رمز السماء.

تأمل
الكتاب المقدس هو منجم ذهب. وهو، مثل كل مناجم الذهب، يحوي إلى جانب الكنز الذي يتضمنه، الشوائب والقذارة. علينا أن نكون قادرين على اكتشافها وفصلها عن الجوهر.
القذارة هي الوصايا والطقوس الكريهة المنسوبة لله. هؤلاء الذين أمروا بها دنسوا “اسم الله القدوس”. هذه الأفعال المقززة مذكورة بوفرة، وفقط في العهد القديم. وقد أدانها الأنبياء، يسوع والرسل.
في العهد القديم، الذهب هو الكشف عن الله الواحد، سقوط الإنسان وسبب هذا السقوط، الإصرار الإلهي على تخليص البشرية، دعوة إبراهيم، تكوين الطائفة التوحيدية الأولى، إعلان الأنبياء عن مجيء المسيح إلخ.
في العهد الجديد، كل شيء هو ذهب. حان الوقت لتصفية ذهب الكتاب المقدس ببوتقة الرسالة الرؤيوية حيث يقول المسيح: “أشير إليك أن تشتري مني ذهباً مصفى بالنار لتغتني…” (رؤيا 3، 18). لتصفية الذهب، يجب أن نتعرف عليه وأن نفصله عن الشوائب. لذلك نحن بحاجة إلى النعمة الإلهية والخبرة الكتابية.

أسئلة

  1. إرسم خريطة للمنطقة بما فيها مصر، سيناء، البحر الميت، نهر الإردن، بحيرة طبريا، ثم حدد مسار بني إسرائيل في برية سيناء. حدد موقع مديان، قادش، أدوم، جبل هور، شطيم، نبو، أريحا، جبل جرزيم.
  2. في التثنية 33، 8 – 11 موسى يبارك عشيرة لاوي. كيف تفهم هذه البركة بمقارنتها مع لعنة يعقوب على لاوي (تكوين 49، 5 – 7)؟
  3. لماذا قتل بنو إسرائيل بلعام (العدد 31، 1 – 12) وإلى ماذا يرمز ذلك؟
  4. ماذا جرى في قادش (العدد 13)؟
  5. ماذا حصل في شطيم (العدد 25، 1)؟
  6. موسى وهارون لم يستحقا الدخول إلى فلسطين؟ ما كانت غلطتهما؟
  7. ما هما الأوريم والتميم؟
  8. هل تعتقد أن الله هو الذي أوحى حرفياً بجميع نقاط الشريعة الموسوية؟ كيف تفهم الآيات التالية: إرميا 7، 22 و 8، 8؟
  9. هل إبراهيم هو عبراني؟
  10. هل أراد الله تكوين أمّة مع إبراهيم أو نقل رسالة شاملة؟
  11. ختان القلف أو ختان القلب؟ معمودية الجسد بالماء أو النفس بالمعرفة والإيمان؟ هل للختان والمعمودية القدرة على التطهير أو ليسا سوى رمزين يجب تخطيهما؟
  12. ما هي أرض الميعاد؟ من وُعد بها؟
  13. العهد بين الله والطائفة الإسرائيلية هل يبقى صالحاً؟ لماذا؟
الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14
Copyright © 2024 Pierre2.net, Pierre2.org, All rights reserved.