- 1 الدرس العاشر - الكتب النبوية الأربعة الكبرى
- 1.1 المقدمة
- 2.1 إشعيا
- 3.1 إرميا - مراثي إرميا - باروك
- 4.1 حزقيال
- 1.4.1
- 2.4.1 رؤيا الكائنات الحية الأربع (حزقيال 1، 4 - 28)
- 3.4.1 رؤيا الكتاب (حزقيال 3، 1 - 15)
- 4.4.1 العهد الجديد (حزقيال 11، 19 - 20 و 36، 25 - 27)
- 5.4.1 ترمّل ومناحة حزقيال (حزقيال 24، 15 - 27)
- 6.4.1 القيامة (حزقيال 37، 1 - 28)
- 7.4.1 جوج وماجوج (حزقيال 38، 39)
- 8.4.1 رؤيا الهيكل الجديد (حزقيال 40 - 48)
- 5.1 دانيال
الدرس العاشر – الكتب النبوية الأربعة الكبرى
المقدمة
الآن أصبحت تملك بعض المعرفة عن التركيبة التاريخية للشعب الذي خلقه الله لاستقبال المسيح يسوع. فصرت قادراً على فهم الأنبياء. دون هذه المعرفة، لا أحد يمكنه أن يفهم تلميحات هؤلاء الرجال الذين أرسلهم الله ليقوّموا انحرافات الإسرائيليين المتواصلة، والتي نحن جميعاً معرضون لها. هذا يجعل كلام الأنبياء صالح لبشر كل الأزمنة، إن كنا بالمقابل قادرين أن نترجمها وأن نطابقها مع السياق التاريخي للفترات الزمنية المختلفة.
دراسة الكتب النبوية تعطي صورة مكملة للكتب التاريخية وتكشف المعنى الروحي للأحداث ولأهداف الله الحقيقية التي غالبا ما تكون مبطنة. علينا أن نعرف كيف نقرأ بين السطور لنفهم الأنبياء وندرك خفايا تلميحاتهم. لقد عاشوا في بيئة صهيونية تطغى عليها السياسة، وغالبا ما عانوا صعوبات لا تقهر ليبينوا أفكار الله الروحية والمناهضة للصهيونية. لقد تعرضوا في أكثر الأحيان للتعذيب والاضطهاد، واعتبروا خونة لـ “الوطن” والمملكة، الوطن والمملكة اللذان ما أرادهما الله أبدا. لم يُعترف بهم كأنبياء إلا بعد موتهم، بعد أن اضطهدوا خلال حياتهم (إقرأ ما يقول يسوع بهذا الشأن في متى 23، 29 – 39).
النبي هو ناطق بلسان الله. الله يتجلى للنبي ليطلب منه أن يعلن رأيه، نصائحه أو أحكامه على الأحداث ومواقف الناس، خصوصاً الرؤساء المسؤولين (ملوك، كهنة). هؤلاء هم مدعوون، تحت طائلة العقاب الإلهي، للخضوع لمطالب وأفكار السماء. في أكثر الأحيان، كان المقصود هو التخلي عن الذهنية الصهيونية (التعلق المَرَضي بالامتلاك الحصري للأرض الفلسطينية وبالامبراطورية الإسرائيلية). إرميا، على سبيل المثال، اضطُهد، كما سترى، لأنه طلب من اليهود أن يستسلموا لنبوخذنصر ولأنه تنبأ بدمار الهيكل.
جوهر الرسالة النبوية يدور حول نقطتين:
- السبي كعقاب على الخيانة،
- إرسال مخلص (المسيح) في المستقبل تصوّره اليهود، على نحو غير صحيح، قائداً سياسياً عسكرياً.
الكتب النبوية هي كتابات عن كلام وأعمال الأنبياء الذين عاشوا قبيل، أثناء، وبعيد السبي. لقد تنبأوا إذاً بالسبي، عاشوه وأعلنوا عن عودة المسبيين (بعد 70 سنة من السبي) وعن إعادة بناء الهيكل (الثاني).
فتك هذا الحدث (السبي) بالروح الإسرائيلي بالعمق. كان اليهود وكأنهم يترقبون الحل للمأساة التي كانوا يعيشونها، ساعين إلى “خلاص إسرائيل” (وفق المصطلح النبوي). خلال عدة قرون، كان أمل الخلاص يحوم حول شخص المسيح المنتظر بتلهف وعطش شديدين. لكن كان على هذا المسيح أن يحرر النفس من الخطيئة، لا اليهود من وضعهم السياسي.
قبل قراءة كتاب أي نبي، يجب وضعه في سياقه التاريخي: هل كان موجودا قبل، أثناء، أو بعد الغزو الأشوري للشمال (إسرائيل: 721 ق.م)، سقوط نينوى (612 ق.م)، معارك مجدو، قرقميش، الغزو البابلي للجنوب (يهوذا)، العودة من السبي، إعادة بناء الهيكل (515 ق.م)؟ هذه المراحل التاريخية تواكب الكتب النبوية. إحفظها.
يجب أن نميز الأنبياء الذين هم موضوع هذه الكتب من الأنبياء الآخرين، مثل إيليا وأليشع، أو أيضا مجموعة الأنبياء المذكورين في صموئيل الأول 10، 5 – 6. لا نملك عن هذين الأخيرين أي مؤلف، ولا نعرف عنهما إلا ما ترويه الكتب التاريخية.
الأنبياء الذين سنراهم (الذين يعتبرون أنبياء “كتبة”) عاشوا خلال مدة حوالي 300 سنة (من 750 ق.م حتى 450 ق.م). ينقسمون إجمالا إلى مجموعتين:
- الأنبياء الأربع “الكبار”: إشعيا، إرميا، حزقيال، دانيال.
- الأنبياء الاثني عشر “الصغار”.
الأنبياء الأولون يقال عنهم “كبار” لأن كتبهم أكبر من كتب الاثني عشر الآخرين “الصغيرة” وليس وفقاً لرتبة روحية (قارن الفصول الـ 66 من كتاب إشعيا مع الفصول الـ 4 ليوئيل والفصل الوحيد لعوبديا).
مع الأنبياء الأربع الكبار، سأضمن دراسة كتاب إرميا، كتاب “مراثي إرميا” والكتاب الصغير للنبي “باروك” الذي يلي كتاب إرميا، لأنه كان تلميذ وأمين سر هذا الأخير. كتاب باروك غير موجود في الكتاب المقدس العبري.
بعض الكتب المقدسة (ككتاب أورشليم) تضيف مقدمات مفيدة على الكتب التاريخية. فتساعد بذلك على التعرف على العهد الذي عاش فيه النبي وعلى فهمه بشكل أفضل. أنصحك، فيما بعد، أن تتعمق بمعرفة نبي أو اثنين. أقترح عليك إرميا القريب منّا نفسياً، ومن يسوع روحياً.
نستهل الأنبياء الأربع الكبار بإشعيا. كما هو الحال بالنسبة لجميع الكتب النبوية، لا تقرأها إلا بعد قراءة توضيحاتي.
إشعيا
كان إشعيا موظفاً ملكياً رفيع المستوى. كان له تأثير كبير على أحداث عصره. ولد نحو سنة 765 ق.م. في سنة 740، في سن الـ 25، شاهد إشعيا رؤيا يوكل الله إليه من خلالها مهمة شاقة وشجاعة ألا وهي الإعلان عن انهيار إسرائيل، يتبعه فيما بعد انهيار يهوذا، كعقاب على خيانات اليهود المتعددة.
في الفصل السادس، يروي إشعيا رؤياه التي يطلب الله منه فيها قائلاً: “من أرسل؟ من يكون رسولا لنا؟”. فيجيب إشعيا دون تردد، وبكل شجاعة: “ها أنا لك، فارسلني”. كان عليه، بالطبع، أن يكون قوي الشخصية ليقبل المهمة الشاقة والخطرة؛ أن يفضح ملوك ونافذين في البلاط الملكي. إرميا، كما فعل موسى، بدأ برفض العرض الإلهي (إرميا 1، 6). توبيخ النافذين ليس مهمة سهلة ومستحبة، حتى ولو كان بأمر من الله، فذلك لا يتم أبداً من دون التعرض لاضطهاد لا يحتمل. كانت شجاعة إشعيا باهرة.
إقرأ الآن هذا الفصل السادس، ففيه ينبئ الله اليهود بالسبي: “تصير المدن خربة بغير ساكن، والبيوت بغير بشر… لأن الرب يبعد عنها الشعب، ويكون فيها فراغ عظيم” ولن يبقى فيها إلا “العشر منهم… فيكون زرعاً مقدساً”، هذا العشر هو “القلة” الباقية التي تكلمت عنها، والتي يوفرها الله لمواصلة مخططه المسيحي.
أكثر من مرة تنبأ إشعيا بالسبي: “لذلك سبي شعبي لجهالتهم” (إشعيا 5، 13)، لكن قلة باقية تبقى لتتابع المهمة: “ومن بقي في صهيون وترك في أورشليم يقال له قديس” (إشعيا 4، 3). هذا الموضوع “القلة الباقية” أعلنه من قبل النبي عاموس الذي كان له تأثير روحي كبير على إشعيا (عاموس 3، 11 – 12 ؛ 5، 15). عاموس سبق إشعيا بقليل. كان كبيرا في السن وتنبأ قبل أن يبدأ إشعيا رسالته بحوالي 40 سنة.
ما عدا السبي، نبوءات إشعيا المهمة تختص المسيح. سأشير إلى أهمها:
“عمانوئيل” (إشعيا 7، 14)
يعلن إشعيا للملك آحاز الذي كان يريد ابناً: “الرب نفسه يعطيكم هذه الآية: ها هي العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل”. هذا الإسم يعني “الله معنا”. إنه “آية” من الله (إشعيا 7، 14).
لتفهم هذه النبوءة، عليك أن تعرف الإطار التاريخي الذي أعلنت خلاله. إرجع إلى الفصل 16 من كتاب الملوك الثاني. إنها مسألة الملك آحاز الذي إليه يتوجه إشعيا بالكلام. في هذا الوقت، كان فقح (المسمى”بن رمليا” في إشعيا 7، 9) ملك إسرائيل وكان رصين ملك سورية (آرام: إشعيا 7، 1). ملك أشور (تغلث فلاسر، المسمى “فول”: الملوك الثاني 15، 19) كان يهدد كل المنطقة. رصين وفقح كانا يريدان جر آحاز إلى الحرب معهما ضد فول، لكنه رفض. وقدّم ابنه الوحيد، وريث العرش ذبيحة للبعل (الملوك الثاني 16، 3) لتغيير قدره. فلم يعد لديه وريث وأصبحت السلالة الحاكمة مهددة.
رصين وفقح قررا اجتياح اليهودية لخلع آحاز وتنصيب ملك (“ابن طبئيل”، إشعيا 7، 6) يتحالف معهما ضد فول (إشعيا 7، 2). خاف آحاز: ” اضطرب قلبه وقلب شعبه …” (إشعيا 7، 2). لكن الله أرسل إشعيا إلى آحاز ليقول له: “تنبهه واطمئن ولا تخف ولا يضعف قلبك، فما غضب رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك شعب إسرائيل إلا كلهب ذنبين مشتعلين مدخنين” (إشعيا 7، 4) ولن ينجحا بمحاولتهما ضد يهوذا لأن “عاصمة آرام هي دمشق، وملك دمشق هو رصين، عاصمة إسرائيل (مملكة الشمال) هي السامرة وملك السامرة هو ابن رمليا (فقح)” (إشعيا 7، 8 – 9)، أي ما معناه أن عاصمة اليهودية هي أورشليم وملك أورشليم هو آحاز. انتهز الله أيضا الفرصة ليعلن انسحاق السامرة القريب: “وبعد ست أو (حتى) خمس سنوات ينكسر شعب إسرائيل فلا يبقى شعباً” (إشعيا 7، 8). إنه إعلان الغزو الأشوري للشمال (السامرة).
آحاز مرهق من جراء الأحداث ومن فقدان ابنه الوحيد الذي ضحى به بنفسه. لكن النبوءات أعلنت أن “ابن داود”، المسيح المنتظر، سيجلس على عرش داود إلى الأبد. إشعيا، هو أيضاً، يؤكد على ذلك: “يخرج فرع (المسيح) من جذع يسى (والد داود)… روح الرب ينزل عليه…” (إشعيا 11، 1 – 2). ليس هناك إذاً من داع للخوف على العرش لأن “السيد الرب نفسه يعطي هذه الآية: ها هي العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل” (إشعيا 7، 14). حبل الملكة الشابة كان إشارة إلهية لآحاز لسببين اثنين:
– آحاز لم يكن يعلم أن امرأته حامل.
– لم يكن يعلم أن الطفل هو صبي. فهذا الطفل لم يعطى إرضاءً لآحاز، بل إتماماً لأهداف الله المسيحية.
الملك حزقيا خلف أبيه آحاز. كان مصلحاً “وعمل القويم في نظر الرب وأزال معابد الأوثان وحطم الأنصاب وسحق حية النحاس التي صنعها موسى” (الملوك الثاني 18، 1 – 4). لكنه لم يكن هو الـ “عمانوئيل” الذي يجب أن يوحّد يهوذا وإسرائيل، “ويعيد المنفيين من بني إسرائيل والمشتتين من بني يهوذا في أربعة أطراف الأرض… لينهبوا بني المشرق جميعاً…” وباختصار، يقيم الامبراطورية الصهيونية الوهمية بالنهب والسلب… (إشعيا 11، 10 – 16).
لم تتحقق نبوءة عمانوئيل إلا بعد مضي ثمانية قرون. عندئذ أصبحت مفهومة من الذين عندهم عيون تبصر وذكاء قادر على فهم أهداف الله. فقد أعلن متّى أن هذه النبوءة قد تحققت بمجيء يسوع:
“حدث هذا كله ليتم ما قال الرب بلسان النبي: ستحبل العذراء، فتلد ابناً يدعى عمانوئيل” (متى 1، 22 – 23).
أراد الله أن يولَد مسيحه من العذراء مريم، التي تكلم عنها إشعيا. كذلك، لا تفهم النبوءة، إجمالا، إلا بعد تحققها. يجب إذاً أن نكون يقظين ومتنبهين، لينين ومستعدين لفهم نوايا الله، لا أن نصر على مفاهيمنا الخاصة ـ كما فعل اليهود الذين رفضوا يسوع- بل على مفاهيم الله.
يجب الأخذ بعين الاعتبار أن اسم “عمانوئيل” هو رمزي بما أنه يعني “الله معنا” كما يشرحه متى. ليس على المسيح بالضرورة أن يدعى هكذا، كما فهم كثير من اليهود، بل إن “الله معنا”، حي بيننا جسدياً، على الأرض. هذا الواقع يتأكد باسماء أخرى رمزية يطلقها إشعيا على المسيح: “يسمى باسم عجيب، ويكون مشيراً وإلهاً قديراً وأباً أبدياً ورئيس السلام” (إشعيا 9، 5). هذه الأسماء تظهر الهوية الإلهية للمسيح. فيقول الله من خلال النبي حزقيال: “سأسأل عن غنمي وأتفقدها أنا… (حزقيال 34، 11).
شعر إشعيا من غير وعي ضرورة التجسد الإلهي؛ فتوجه إلى الله قائلاً: “ليتك تشق السماوات وتنزل…” (إشعيا 63، 19 أو 64، 1).
المسيح هو من الجليل
يرى إشعيا “نوراً ساطعاً من أرض زبولون وأرض نفتالي”، وهي قبائل من شمال فلسطين في الجليل، حيث عاش يسوع (إشعيا 8، 23 / 9، 6). كونها مجاورة للبنان، الذي كان في ذلك الوقت يعبد الأوثان، كان سكان هذه المنطقة محتقرون من اليهود الذين كانوا يعتبرونهم مدنسين من جيرانهم الوثنيين: “أمن الناصرة (في الجليل) يخرج شيء صالح؟” قال نثنائيل لفيلبس (يوحنا 1، 45 – 46). والفريسيون، عندما سمعوا نيقوديموس يدافع عن يسوع قالوا له: “فتش تجد أن لا نبي يظهر من الجليل” (يوحنا 7، 52).
لو كان الفريسيون أنفسهم قد بحثوا جيداً في النبوءات، لكانوا فهموا، خلافاً لما كانوا يعتقدون، أن المسيح، أعظم الأنبياء، سينبثق تماماً من الجليل. فيقول إشعيا:
“في الزمان الأول أهينت (من الله) أرض زبولون وأرض نفتالي (الجليل). وأما في الزمان الأخير، فتكرم تلك الأنحاء ما بين طريق البحر وعبر الأردن جليل الأمم (الوثنية). الشعب السالك في الظلام رأى نوراً ساطعاً، والجالسون في أرض الموت (الجليل) وظلاله أشرق عليهم النور (المسيح)… لأنه يولد لنا ولد ويعطى لنا ابن (عمانوئيل، ابن العذراء)، وتكون الرئاسة على كتفه، يسمى باسم عجيب، ويكون مشيراً وإلهاً قديراً وأباً أبدياً ورئيس السلام…” (إشعيا 8، 23 / 9، 5).
يرجع متى في إنجيله إلى هذه النبوءة لإشعيا (متى 4، 12 – 16).
بعد تعرضه للإهانة من المغتصب الأشوري، يتمجد الجليل فيما بعد بيسوع الذي عاش وعمل في الناصرة (زبولون) وبشر في كفرناحوم (نفتالي).
المسيح يعذب ويموت قتلاً على أيدي اليهود.
تنبأ إشعيا أن المسيح سيرفض من شعبه، وسيخضع لعذاب شنيع، ويموت قتلاً. لكنه تنبأ أيضاً بقيامته لأنه بعد عناء نفسه “يرى ثمرة تعبه ويكون راضياً، وبوداعته يبرر عبدي الصديق (المسيح هو “عبد” الله) كثيرين من الناس ويحمل خطاياهم” (إشعيا 53، 11). النور الذي سيراه هذا العبد المخلص هو نور القيامة بعد الموت.
أنقل أهم الآيات في إشعيا الفصل 13 الذي يتكلم عن هذا العبد الصالح وأشرحها بين هلالين:
“من صدق ما سمعنا به؟ (إشعيا 53، 1: من كان سيصدق أن المسيح المنتظر سيكون ضد الصهيونية، فقيراً ومرفوضاً)… لا شكل له فننظر إليه ، ولا بهاء ولا جمال فنشتهيه (إشعيا 53، 2: يأتي من مجتمع فقير ومتواضع، لا ثياب فخمة ولا مجد بشري)… محتقر منبوذ من الناس، وموجع متمرس بالحزن… نبذناه وما اعتبرناه (من قبل اليهود أنفسهم، شعبه! ). حمل عاهاتنا وتحمل أوجاعنا، حسبناه (اليهود) مصاباً مضروباً من الله ومنكوباً وهو مجروح لأجل معاصينا (الصلب)… إنقطع من أرض الأحياء وضرب لأجل معصية شعبه… لكن الرب رضي أن يسحقه بالأوجاع ويصعده ذبيحة إثم، فيرى نسلاً وتطول أيامه… يرى ثمرة تعبه ويكون راضياً (القيامة)”.
إقرأ الآن هذا الفصل. لم يُكتب أجمل وأصح منه حتى بعد مجيء يسوع الذي تمم كل هذه النبوءات. عندما كان يمشي مع تلميذي عمواس (لوقا 24، 25 – 27) قال يسوع لهما: ” أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام، فيدخل في مجده؟ وشرح لهما ما جاء عنه في جميع الكتب المقدسة”. الفصل 53 من إشعيا (كذلك المزمور 22) يشكل جزء من تفسيراته. نتساءل كيف أن بعض اليهود ما زالوا لا يفهمون! الجواب هو أنهم مضللون من الذهنية الصهيونية: جشع السلطة والتملك.
“عزاء” إسرائيل
خصص إشعيا الفصول الـ 26 الأخيرة من كتابه لتعزية اليهود بإعلان الخلاص. هذا الخلاص فهم خطأ وفسّر على أنه العودة إلى فلسطين والتجديد “القومي اليهودي”. لكن الله كان يتكلم عن خلاص روحي يحمله يسوع لجميع البشر ويرفضه كثير من اليهود. تُعرف هذه الفصول بـ “كتاب العزاء” لأنه يبدأ هكذا: “عزوا، عزوا شعبي… بشروها بنهاية أيام تأديبها وبالعفو عما ارتكبت من جرائم (من خلال مجيء المسيح في المستقبل)… صوت صارخ في البرية: هيئوا طريق الرب مهدوا في البادية درباً قويماً لإلهنا…” (إشعيا 40، 1 – 4). هذه الآيات طبقت بالإنجيل على يوحنأ المعمدان الذي جاء ليمهد الطريق أمام المسيح في صحراء النفوس النائمة (متى 3، 3).
يظن البعض أن فصول التعزية هذه لم يكتبها إشعيا بنفسه بل تلاميذه بعد العودة من السبي.
مصير إشعيا مجهول. هناك رواية يهودية تقول إنه أعدم مقطوعاً إلى نصفين على عهد الملك منسى الذي “سفك الكثير من الدم البريء، حتى ملأ أورشليم كلها، فأضاف ذلك إلى خطيئته التي جعل بها شعب يهوذا يخطأون ويفعلون الشر في نظر الرب” (الملوك الثاني 21، 16).
![]() تسلسل أحداث إشعيا |
إرميا – مراثي إرميا – باروك
إرميا
يأتي إرميا من عائلة كهنوتية كانت تقيم بالقرب من أورشليم، في مدينة عناتوت (إرميا 1، 1). تنبأ في أورشليم من السنة الـ 13 للملك يوشيا (626 ق.م) “إلى الشهر الخامس من السنة الـ 11 من ملك صدقيا” (إرميا 1، 3)، سنة السبي (الملوك الثاني 25، 2). لقد عاش إرميا إذاً مأساة السبي من بدايتها وتنبأ بها.
سقوط نينوى (612 ق.م) وإصلاحات يوشيا أعطت بعض الأمل بالخلاص، لكن اليأس كان من نصيب بني إسرائيل بعد الهزيمة المأساوية في مجدو (609 ق.م) وتفاقم الخطر البابلي.
كان إرميا إبن الكاهن الكبير حلقيا (إرميا 1، 1). دعاه الله وهو شاب فتي: “قال الرب لي: قبل أن أصورك في البطن اخترتك، وقبل أن تخرج من الرحم كرستك وجعلتك نبياً للأمم. فقلت: آه، أيها السيد الرب! أنا لا أعرف أن أتكلم لأني صغير” (إرميا 1، 5 – 6). لكن، بالرغم من فتوته، أصرّ الرب قائلاً: “لا تقل: إني صغير. أينما أرسلك تذهب… فأنا معك لأنقذك… ها أنا جعلت كلامي في فمك وأعطيك اليوم سلطة على الأمم وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك، ولتنقض وتبني وتغرس” (إرميا 1، 6 – 10). قبل أن يبني، سوف يهدم الرب ما بناه بني البشر من دون رضاه.
لاحظ أنه تم اختيار إرميا كنبي “للأمم”، وليس لبني إسرائيل فقط؛ إنه إذاً لكل البشر: “على الأمم والممالك”. عليه أن “يهدم ويهلك” ثم “يبني ويغرس”. رسالته تشبه رسالة نبي كتاب الرؤيا الذي يجب “أن يتنبأ ثانية على كثير من الشعوب والأمم والألسنة والملوك” (رؤيا 10، 11).
أوكل الله لإرميا مهمة الإعلان عن الإجتياح البابلي من الشمال، خراب هيكل سليمان والسبي، تتبعه العودة بعد 70 سنة من السبي: “من الشمال يهب الشر على جميع سكان هذه الأرض… (إرميا 1، 14) …أجلب عليكم أمّة من بعيد يا بيت إسرائيل، أمة قوية عريقة… يقتلون بنيكم وبناتكم… ويدمرون بالسيف مدنكم الحصينة” (إرميا 5، 13 – 17).
بالمقابل، كان الأنبياء الكذابون يناقضون إرميا ويعارضونه: “الشر لا ينزل بنا ولن نرى حرباً ولا جوعاً…” (إرميا 5، 12). أعطى ذلك رجاءً خاطئاً للشعب وفضل الناس الاستماع إلى الكهنة والأنبياء المزعومين الذين كانوا يتنبأون بالسلام والطمأنينة بدلاً من إرميا الذي كان يتنبأ بالحقيقة المرّة. كان الرب يتدخل بلا انقطاع ليطلب من إرميا أن يعلن: “في أرضنا عجب عجاب: الأنبياء يتنباون زوراً، والكهنة يجمعون ما تصل إليه أيديهم، وشعبي راض بهذه الأمور. فماذا تفعلون لتضعوا حدا لها؟ ” (إرميا 5، 30 – 31).
وبخ الله رؤساء الكهنة والعلمانيين باستمرار، وكان إرميا ينقل دائما الرسالة بشجاعة: “فلا الكهنة قالوا: أين الرب، ولا معلموا الشريعة عرفوني (لقد أساءوا تفسير كلام الرب، فهموه بحسب الروح السياسي، الذي يدينه الله)، والحكام (الملوك) أنفسهم عصوني (يعملون “الشر في نظر الرب”)، والأنبياء (الذين يدعون النبوة) تنبأوا باسم البعل” (إرميا 2، 8).
يفضح إرميا أيضاً المفسرين اليهود الأشرار وعلماء الشريعة والكهنة، لأنهم ينسبون إلى الله في التوراة ما لا يريد قوله. لهذا يصف قلم الكتبة بـ “قلم الكتبة الكاذب” الذي حول التوراة إلى كذب خدمة لمصالحهم الخاصة (إرميا 8، 8)، وفرضوا الذبائح وعبادة لم يطلبها الله أبداً (إرميا 7، 22): “فأنا لم أكلم أباءكم ولا أمرتهم بأية محرقة أو ذبيحة يوم أخرجتهم من أرض مصر وإنما أمرتهم بأن يسمعوا لي حين أكلمهم… (إرميا 7، 22 – 23)…كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا؟ أما ترون قلم الكتبة الكاذب حوّلها إلى الكذب…” (إرميا 8، 8).
تجدر ملاحظة أن إرميا يأتي من عائلة كهنوتية وابن الكاهن العظيم حلقيا، وكان في مركز يخوله معرفة تلاعب الكتبة بنص التوراة لما فيه مصلحتهم “بقلمهم الكاذب” (إرميا 8، 8). فوالده حلقيا هو الذي وجد كتاب الشريعة (التوراة) في الهيكل (الملوك الثاني 22، 8). من الأرجح أن يكون قد أخبر ابنه إرميا عن ذلك، الذي عرف بدوره أن الكتبة والكهنة تلاعبوا بالنصوص لتناسبهم. يسوع هو أيضاً لم يفوت فرصة إدانتهم بوصفهم قائلاً: “معلمي الشريعة والفريسيون المراؤون” (متى 23).
كما تنبأ يسوع بخراب الهيكل الثاني، كذلك تنبأ إرميا بخراب الهيكل الأول: “هذا البيت الذي دعي باسمي هل صار مغارة للصوص… سأفعل به كما فعلت هناك بشيلوه” (إرميا 7، 11 – 14)، (شيلوه هي المدينة التي شيّد فيها أول معبد والذي دمر على يد الفلسطينيين: صموئيل الأول 4، 17 – 18).
لم يريد بنو إسرائيل أن يصدقوا إرميا حتى بعد غزو نبوخذنصر والسبي. فقد تنبأ إرميا أن السبي سيكون طويلاً: 70 سنة (إرميا 25، 11). ناقضه النبي حننيا قائلاً: “هذا ما قال الرب القدير إله إسرائيل: كسرت نير ملك بابل، وبعد سنتين أرد إلى هذا الموضع كل آنية هيكل الرب… وجميع سبي يهوذا الذين ذهبوا إلى بابل…” (إرميا 28، 1 – 4). عندئذ أرسل إرميا إلى المسبيين في بابل يدعوهم أن يتنظموا فيقول لهم: “إبنوا بيوتا واسكنوا… تزوجوا وانجبوا… إعملوا لخير المدينة التي سبيتكم إليها، وصلّوا من أجلها. وقال الرب: عندما تتم لكم سبعون سنة في بابل أتفقدكم وأبر بوعدي لكم فأعيدكم إلى هذا الموضع” (إرميا 29، 4 – 10). “الصلاة من أجل” البابليين، أعداءهم، كانت بمثابة شذوذ وانحراف بالنسبة لكثيرين من اليهود الذين رأوا في إرميا خائناً واضطهدوه. للمقارنة مع يسوع الذي طلب من اليهود “أن يحبّوا أعداءهم ويصلّوا لأجل المسيئين إليهم” (لوقا 6، 27).
نميز النبي الحقيقي من النبي الكذاب عند تحقق النبوءات. إرميا، كجميع الأنبياء الحقيقيين، كان يعرف أن الله هو الذي كان يكلمه وهو الذي أرسله. الأنبياء الكذابون مذنبون لأنهم يستعملون اسم الله زوراً. لهذا السبب حذّر إرميا من هؤلاء الكذابين الذين يزعمون التكلم بوحي من الله: “لا يضلكم أنبياؤكم والعرافون الذين بينكم، ولا تسمعوا للأحلام التي يحلمون. فهم يتنبأون لكم باسمي زوراً، وأنا لم أرسلهم، يقول الرب” (إرميا 29، 8 – 9).
موقف إرميا الثابت أدى إلى تعرضه للاضطهاد: “وسمع فشحور بن إمير الكاهن، وهو رئيس القيمين على هيكل الرب، أن إرميا يتنبأ بهذه الكلمات، فضربه وحبس رجليه في القيود…” (إرميا 20، 1 – 2).
العداء المتزايد تجاه إرميا أخفق في النيل من معنوياته: “أسمع الكثيرين يهمسون، والرعب حولي من كل جانب… وأصحابي يراقبون سقوطي… ملعون اليوم الذي ولدت فيه!… (إرميا 20، 10 – 15). كشف له الرب أن عائلته أيضاً قد اصطفت ضده: “إن كان أخوتك وأهل بيت أبيك يغدرون بك ويصرخون وراءك بملء أفواههم، فكيف تأتمنهم إذا كلموك بالخير؟” (إرميا 12، 6).
رسالة إرميا كانت تثقل كاهله: “ويل لي يا أمي لأنك ولدتني. في خصام ونزاع أنا مع الأرض كلها” (إرميا 15، 10). بسبب إحباطه، أوشك على نزع حمله الثقيل: “صار كلام الرب عاراً ومهانة ليل نهار. فإن قلت: لن أذكر الرب ولا أتكلم باسمه من بعد” (إرميا 20، 8 – 9). ولزم إرميا الصمت. لكن الله لا يترك أنبيائه، بل أنه يلهبهم في أعماق أنفسهم بنار محبته بإصرار وينال منهم الشهادة التي يريدها. يعترف إرميا أن سكوته كان مثل نار تحرق أحشاءه: “…أحسست بنار محرقة محبوسة داخل عظامي، أحاول كبتها ولا أقدر” (إرميا 20، 9). أفضى الأمر بالنبي إلى الاستسلام لمحبة الله، القادرة والساحرة و، استعاد رسالته بمحبة الله، قائلاً: “خدعتني يا رب فانخدعت، وغالبتني بقوتك فغلبت” (إرميا 20، 7). هذا الموقف الجميل من المحبة العميقة يتناقض مع موقف يعقوب، “إسرائيل”، الذي إدّعى التغلب على الله!… (تكوين 32، 25 – 33). عظمة الإنسان، انتصاره الأكبر، هو استسلامه لله.
العذاب الداخلي والشديد يطهر نفس إرميا. “مخدوعا” من الله، يتابع مهمته حتى النهاية. لحسن حظنا، لأنه تنبأ بالـ”عهد الجديد” الذي يجب أن يأسسه يسوع: “وستأتي أيام أعاهد فيها بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهدا جديدا لا كالعهد الذي عاهدته آباءهه… لأنهم نقضوه… أما العهد الجديد الذي أعاهد به بيت إسرائيل فهو هذا: أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها في قلوبهم…” (إرميا 31، 31 – 34). إقرأ هذا الفصل وتأمل به، وقارنه مع كلام يسوع: “ملكوت السماوات هو فيكم” (لوقا 17، 21). على حساب تضحيته بنفسه أسس يسوع هذا العهد الجديد: “هذه الكأس”، قال يسوع لتلاميذه، “هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم” (لوقا 22، 20).
لاحظ أن إرميا، بكلامه عن هذا العهد الجديد، لا يأتي على ذكر “أرض الميعاد”، بل يذكر الضمائر، وأن الله يكتب كلماته في قلوب المؤمنين “فلا يعلم بعد واحدهم الآخر أن يعرف الرب. فجميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم سيعرفونه…” (إرميا 31، 34). هذا يعني أنه ليس على المؤمنين بعد ذلك أن يلحّوا على الذين لا يؤمنون كي يعمموا معرفة الله، هذه المعرفة التي كانت منتشرة في كل مكان، كما هو الحال اليوم. من يعطش إليها يجدها، من لا يرغب بها يتجاهلها: “من كان نجساً فليبق في نجاسته، ومن كان قديساً فليبق في قداسته” يقول كتاب الرؤيا (رؤيا 22، 11). كل انسان هو حر في اختيار طريقه بين ملذات الدنيا العابرة وفرح الأبدية الدائم.
طلب الله من إرميا أن يكتب نبوءاته ويرسلها إلى الملك يوياقيم. “فدعا إرميا باروخ بن نيريا وأملى عليه جميع كلام الرب الذي كلمه به” (إرميا 36، 1 – 4). ظل الملك على كفره “وشق الكتاب وألقاه في نار الكانون حتى احترق كله” (إرميا 36، 23). أملى إرميا كلام الرب مرة ثانية على باروخ، “وزاد عليه كلاماً كثير مثله” (إرميا 36، 32). سنتكلم عن باروخ لاحقاً.
نصح إرميا اليهود بعدم مقاومة نبوخذنصر، بالإستسلام أو بمغادرة أورشليم: “الذي يقيم في هذه المدينة يموت بالسيف والجوع والوباء، والذي يخرج ويلجأ إلى البابليين الذين يحاصرونكم يحيا وتكون له حياته مغنماً” (إرميا 21، 8 – 9). هذا الكلام جعل بعض المسؤولين الكبار يحقدون على إرميا ويطالبون بقتله (إرميا 38، 1 – 3). “فقال أولئك الرؤساء للملك: أقتل هذا الرجل لأنه يضعف عزيمة المحاربين الباقين في المدينة وعزيمة جميع الشعب بكلامه هذا… فقال الملك صدقيا: هو في أيديكم… فأخذوا إرميا ليلقوه في جب ملكيا ابن الملك في سجن القصر… فغاص إرميا في الوحل” (إرميا 38، 4 – 6). إقرأ هذا الفصل 38 والفصل الذي يليه لتعرف كيف قام الملك بانقاذ إرميا من موت فظيح ومؤكد، وكيف أخرجه نبوخذنصر فيما بعد من السجن، وعامله أفضل مما عامله اليهود الذين يدّعون التقوى.
الحالة المأساوية التي كان يعيشها بنو إسرائيل تولد الأمل بالخلاص المسيحي. يعلن إرميا عن الخلاص بمجيء المسيح في المستقبل. لكن هذا المسيح اعتبر أيضاً ملكاً سياسياً “سيعيد أمجاد” الوطن (إرميا 30، 18). في حين أن التجديد وفقاً لله هو تجديد روحي ابتدأ مع يسوع ليتحقق في آخر الأزمنة مع سقوط دولة إسرائيل الحالية (رؤيا 3، 21). ستجد في إرميا 23، 5 – 6 و 30، 8 – 9 نبوءتين عن المسيح.
اقتيد إرميا بالقوة إلى مصر من قبل جماعة من بني إسرائيل هربوا من المدينة على الرغم من إملاءات الله الملحة الذي طلب إليهم، من خلال إرميا، البقاء في أورشليم.
لا نعرف شيئا عن إرميا بعد ذلك. من المحتمل أنه قضى أيامه في مصر. إقرأ الفصلين 42 و43 اللذان يتكلمان عن هذا الحدث، وعن الغزو البابلي لمصر، من ثم انتقل إلى قراءة كتاب إرميا بشكل متواصل.
تجدر الملاحظة أن إرميا كان من عائلة كهنوتية. والده “حلقيا”، الكاهن العظيم الذي وجد “كتاب الشريعة” (التوراة) في المعبد. على قاعدة هذا الكتاب قام الملك يوشيا بالإصلاحات الدينية. أضاف الكتبة والكهنة على نص هذا الكتاب بنودا تناسبهم. وبما أن إرميا هو ابن الكاهن الكبير، علم بفعلتهم وفضح خبثهم (إرميا 7، 22 / 8، 8). علينا نحن أن نستخلص العبرة من ذلك!!
مراثي إرميا
ألفت هذه المراثي بعد خراب أورشليم واحتراق الهيكل. ربما يكون إرميا قد كتب بعض الآيات، لكن على الأرجح أن هناك أكثر من مؤلف واحد. جميعهم يبكون ويكتبون بيوت شعر جنائزية ليعبروا عن حدادهم بعد هزيمة أورشليم. إقرأه بهذا الروح: “كيف جلست وحدها المدينة الملأى بالناس. صارت كأرملة بغتة وهي العظيمة في الأمم السيدة في البلدان صارت تحت الجزية” (مراثي إرميا 1، 1). راجع أخبار الأيام الثاني 35، 25 عن المرثاة التي ألفها إرميا بعد موت الملك يوشيا في مجدو.
![]() النبي إرميا |
ملحق لدراسة إرميا
الملوك الخمسة في زمن إرميا (إرميا 1، 2)
(الملوك الثاني 22 – 26 ؛ أخبار الأيام الثاني 34 – 36)
1. يوشيا 640 – 609 (إصلاحات دينية كبيرة + العثور على كتاب الشريعة)
في سنة 609، صعد نكو ملك مصر لمؤازرة الأشوريين ضد البابليين، فحاول يوشيا قطع الطريق بين المصريين والأشوريين، رغبة بتدمير أشور التي كانت تحتل قسماً من شمال إسرائيل بشكل نهائي. أتت هزيمته إذاً بالفائدة على مملكة يهوذا. لكن نكو قضى على يوشيا في مجدو سنة 609 ق.م، ثم تابع زحفه إلى قرقميش حيث هُزم بدوره على يد نبوخذنصر في 605 ق.م (الملوك الثاني 23، 29 ؛ أخبار الأيام الثاني 35، 20 – 25). تلك كانت نهاية الإمبراطورية الأشورية.
2. يوآحاز 609
بقي يوآحاز على العرش ثلاثة أشهر بعد موت يوشيا. على أثر هزيمة أشور في قرقميش، وهو في طريق عودته إلى مصر، احتل نكو سوريا وفلسطين. خلع يوآحاز عن عرشه وأخذه معه أسير إلى مصر. أقام أخاه يوياقيم بدلاً منه، وفرض ضريبة على يهوذا (الملوك الثاني 23، 31 – 35 ؛ أخبار الأيام الثاني 36، 1 – 4). يتناول إرميا بمرارة ذهاب يوآحاز إلى مصر: “لا تبكوا على الميت (يوشيا) ولا تندبوه، بل إبكوا بكاء مراً على الذاهب (يوآحاز) الذي لا يرجع (من مصر) من بعد ولا يرى أرض ميلاده… بل في الموضع الذي سبي إليه يموت…” (إرميا 22، 10 – 12).
3. يوياقيم 609 – 598
في سنة ملكه الرابعة (605 ق.م)، بعد أربع سنوات على معركة قرقميش، استسلم يوياقيم إلى نبوخذنصر بعد أن أدرك قوّته (إرميا 36، 1). شعر يوياقيم بالطمأنينة بعيداً عن مدفعية الفرعون. ومع سعادته بهذا الشعور بالأمان، أراد أن يقتل إرميا بعد أن سمعه يتنبأ بالويل على بلده. فشق الكتاب الذي أملاه إرميا على باروخ وأحرقه، وأمر بالقبض عليهما. لكن أحيقام بن شافان كان يحمي إرميا (إرميا 26 و36). كان شافان قريباً من البلاط الملكي، على عهد يوشيا، وساعد الملك في الإصلاحات (الملوك الثاني 22، 3 – 12). ولما كان إرميا من عائلة كهنوتية، كان شافان يعرفه جيداً وقام بمساعدته (إرميا 26، 24). شافان هو أيضاً جد جدليا بن أحيقام (الملوك الثاني 25، 22) الذي ساعد بدوره إرميا (إرميا 40، 5 – 6). (شافان هو والد أحيقام والد جدليا، جميعهم أصدقاء وحماة إرميا).
4. يوياكين 598
السبي الأول: الملك وكل البلاط الملكي وجميع المحاربين والعمال المهرة (الملوك الثاني 24، 15). نبوخذنصر أقام صدقيا، عمّه، ملكاً بدلاً منه (الملوك الثاني 24، 17 وأخبار الأيام 36، 9 – 10).
5. صدقيا 598 – 586
تمرّد صدقيا على نبوخذنصر (الملوك الثاني 24، 20)، فزحف هذا الأخير على أورشليم وحاصرها (الملوك الثاني 25، 2). عندما حاول الهرب، اعتقله نبوخذنصر، حكم عليه وسباه إلى بابل. دخل البابليون أورشليم، دمروا الهيكل وسبوا باقي أهل يهوذا، تاركين الفلاحين والكرامين ليحرثوا الأرض (الملوك الثاني 25 وأخبار الأيام 36، 11 – 21).
باروك
يغيب كتاب باروك عن الكتاب المقدس العبري. كتبه باروك في بابل بعد السبي: “هذا سفر باروك كتبه في بابل” (باروك 1، 1). كان هذا الكتاب يقرأ في محافل المسبيين “على مسامع يكنيا بن يوياقيم ملك يهوذا (المسبي) والأعيان وشيوخ الشعب… بمن فيهم الساكنون في بابل” (باروك 1، 3 – 4). نلاحظ في هذا الكتاب الانطباع الكبير الذي تركته رسالة إرميا، والذي دام طويلاً في الضمير اليهودي (المكابيين الثاني 2، 1 – 7 و15، 14 ومتى 16، 14). ليس لباروك نفسه حصة إلا لأنه يردد ويذكّر بالكلام اللاذع لأستاذه، كلام رفضه اليهود: “لأنك أنزلت علينا ذلك الغضب الشديد الذي حذرتنا منه على ألسنة عبيدك الأنبياء الذين قالوا: أحنوا أكتافكم واخدموا ملك بابل… ولكننا لم نسمع لصوتك أيها الرب بأن نخدم ملك بابل” (باروك 2، 20 – 24).
يذكّر باروك بالعهد الجديد الذي بشّر به إرميا لتشجيع المسبيين: “لكنهم سيرجعون إلى قلوبهم ويعلمون أني أنا الرب إلههم… وأعيدهم إلى الأرض التي حلفت أن أعطيها لآبائهم إبراهيم وإسحق ويعقوب… وأقيم لهم عهدا أبدياً… ولا أعود أبعثر شعبي إسرائيل من الأرض التي أعطيتها لهم” (باروك 2، 30 – 35). هذه “الأرض” هي الحياة الأبدية، السماوية، لا الجغرافية.
هذا العهد الأبدي هو الذي أعلن عنه إرميا (إرميا 31، 31) وتممه يسوع. لاحظ أن باروك قد أدرك البعد الداخلي والروحي لهذا العهد: “سيرجعون إلى قلوبهم“. لكنهم ما زالوا يؤمنون بأرض الميعاد كحقيقة جغرافية، “الأرض التي وعد الله أن يعطيها لإبراهيم…”، وتنبأ بالعودة إلى هذه الأرض (فلسطين) مبشرا أن الله “لا يعود يبعثر شعبه من الأرض التي أعطاها لهم” (باروك 2، 35). بينما، سبي اليهود من جديد على يد تيطس سنة 70 م وتشتتوا في العالم بكامله. من الواضح إذاً أن مقصود الله كان يهدف إلى استقرار نفسي وروحي، لا جغرافي، يجري في نفوس المؤمنين، “في قلوبهم”.
يعتبر باروك اليهود مثل “أحباء الأرملة” (باروك 4، 16) لأن إسرائيل، المعاقبة من الله، تشبه أرملة حزينة ومتروكة. عبارة “الأرملة” هذه، كثيراً ما تُذكر في المحافل السرية (الماسونية، الوردة المصلبة) وترمز إلى إسرائيل.
إحفظ عبارة “لبس المسح” (باروك 4، 20) التي تعني الحداد على أوضاع مأساوية. ستصادفها في كتاب الرؤيا عندما يتكلم عن الشاهدين اللذين أرسلهما الله واضطهدهما أتباع الوحش (رؤيا 11، 3).
ينهي باروك كتابه بأسلوب متفائل مذكراً بالعودة من السبي: “إخلعي يا أورشليم لباس النوح والمذلة… تطلعي من حولك وانظري أبناءك مجتمعين من مشرق الشمس إلى مغربها…” (باروك 5، 1)، مستعيداً رسالة إرميا إلى المسبيين.
هكذا إذاً، باروك هو مراجعة لإرميا، وشهادة له.
حزقيال
النبي حزقيال هو كاهن منفي منذ السبي الأول لأهل يهوذا إلى بابل (الملوك الثاني 24، 10 – 17): “كان ذلك في السنة الخامسة من سبي الملك يوياكين (593 – 592 ق.م). هناك في أرض البابليين، انفتحت السماوات فنزلت علي رؤيا من الله” (حزقيال 1، 1 – 3). لم يكن هيكل سليمان قد دمر بعد عندما بدأ حزقيال رسالته. إنه إذاً معاصر لإرميا. في المنفى، نزلت عليه رؤى من الله تتعلق بالسبي الثاني وبخراب الهيكل ودمار أورشليم المفاجىء بعد بضع سنوات (في 586 ق.م). طلب الله منه أن يتنبأ ضد بني إسرائيل المتمردين، وأن ينذرهم بهذا العقاب: “يا جبال إسرائيل إسمعي كلمة السيد الرب. سأجلب عليك حرباً… ويسقط القتلى في وسطكم…” (حزقيال 6، 1 – 7)، مع بقاء قلّة باقية لإكمال المخطط المسيحي الإلهي: “ولكنني أبقي منكم بقية بين الأمم، فينجون من الحرب ويتشتتون في البلدان. هؤلاء يذكرونني…” (حزقيال 6، 8 – 10).
نبوءات ورؤى حزقيال الأكثر أهمية هي:
(إقرأها، بالتتابع، بعد توضيحاتي).
لاحظ أن حزقيال قد تنبأ بـ “نهاية” إسرائيل: “هكذا قال السيد الرب: ستفنى أرض إسرائيل. ها هو فناؤها آت على أطراف البلاد الأربعة. الفناء آت عليكم يا بني إسرائيل… أعاقبكم ولا أشفق عليكم” (حزقيال 7، 1 – 9).
مع نبوخذنصر، في سنة 586 ق.م، كانت النهاية الأولى لإسرائيل. يسوع تكلم أيضاً عن “نهاية” إسرائيل (متى 24، 3 – 14)، التي حصلت سنة 70 م عندما أحرق تيطس المعبد الثاني، وتشتت معظم بني إسرائيل. تلك كانت النهاية الثانية لإسرائيل. في الأزمنة الرؤيوية التي نعيشها، ستعرف إسرائيل نهاية ثالثة وأخيرة (متى 24، 14). إنها “وحش” الفصل 13 من كتاب الرؤيا، “ولن توجد من بعد أبداً” (رؤيا 18،21).
عن هذه النهاية الثالثة والأخيرة تكلم يسوع في الأناجيل:
“وتجيئ النهاية بعدما تعلن بشارة ملكوت الله هذه في العالم كله” (متى 24، 14).
لقد أعلنت بشارة الإنجيل إذاً في العالم كله. فنهاية إسرائيل أصبحت قريبة جداً.
رؤيا الكائنات الحية الأربع (حزقيال 1، 4 – 28)
“رأيت عاصفة… وفي وسطها تراءى لي شيء كأنه أربعة كائنات حية (حزقيال 1، 5). ولكل واحد منها أربعة وجوه وأربعة أجنحة… ومن تحت أجنحتها أيدي بشر (حزقيال 1، 8) ولوجوهها الأربعة ما يشبه وجه بشر… وأسد… وثور… ونسر… وفوق القبة التي فوق رؤوسها شبه عرش… عليه شكل كمنظر إنسان… هذا منظر يشبه مجد الرب” (حزقيال 1، 26 – 28).
هذه الرؤيا المهمة، كجميع النبوءات المسيحية، تكون غير مفهومة في وقتها. إنها نبوءة عن الأناجيل التي تعرف عن المسيح يسوع. الله ينذر بالعقاب البابلي الذي سينقض على إسرائيل في الشمال مثل العاصفة. لأن عقاب الرب ينقض، بغتة، كالعاصفة. “فاسهروا وصلوا حتى لا تأخذوا على حين غرة مثل العذارى الجاهلات”، يوصي يسوع (متى 24، 42 و25، 1 – 13). في هذه الرؤيا أيضاً، يكشف الله عن مخططه الخلاصي للبشرية جمعاء: الكائنات الأربع ترمز إلى الإنجيليين الأربعة. أجنحتهم ترمز إلى سموهم الروحي، والأيدي تحت الأجنحة تشير إلى أنهم كتبة، بما أنهم كتبوا بأيديهم الأناجيل. “القبة” هي السماء، “العرش” هو حيث يجلس الله ليدين البشر من خلال الأناجيل. وفي أعلى العرش، المسيح، هو بنفس الوقت إنسان وإله، الذي هو “كمنظر إنسان”، لكنه أيضا “يشبه مجد الرب“.
يمكننا اليوم أن نفهم من هذه الرؤيا أن المسيح قد أعلن من الله كتجسد بشري شخصي له، الله بنفسه الذي عليه أن يكون هذا المسيح الذي سيتجسد ليخلص المؤمنين ويدين الكفار: “والكلمة صار بشراً”، يقول يوحنا في إنجيله، “فرأينا مجده، مجداً يفيض بالنعمة والحق، ناله من الآب” (يوحنا 1، 1 – 14). يمكننا اليوم أن نفهم، بعد تجسد المسيح-الله، أن هذا المجد الإلهي الذي شاهده حزقيال كان بيسوع الناصري في كماله.
الكائنات الأربع “تشبه البشر، ولكل واحد منها أربعة وجوه وأربعة أجنحة”. الشكل البشري يدل على أنهم بشر. وجوهها تنظر في الإتجاهات الأربع، لأن رسالتها مخصصة لزوايا الأرض الأربع. أجنحتها متصلة لأنها موحدة فيما بينها بنفس الرسالة، رسالة المسيح.
“كل واحد يسير في اتجاه وجهه وهكذا كانت كلها تسير إلى حيث يشاء الروح دون أن تدور”، لأنهم مدفوعون من الروح ذاته، روح الله الحق. يوصلون رسالتهم مثل “الزارع الذي خرج ليزرع” (متى 13، 4)، دون أن ينظروا إلى الوراء. “دون أن تدور”، يصر حزقيال، لأن “ما أحد يضع يده على المحراث ويلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله” (لوقا 9، 62).
“وفي وسط هذه الكائنات الحية ما يشبه جمرات نار متقدة أو مشاعل…” (حزقيال 1، 13). هذه الجمرات المتقدة وهذه المشاعل هي قلوب الرسل والمؤمنين الذين، مثل جمرات متقدة، يشتعلون حباً لله ولمسيحه والذين، مثل المشاعل، يضيئون بنورهم هذا العالم الغارق في الظلام.
“وللنار ضياء ومن النار يخرج برق. وكانت هذه الكائنات تندفع ذهاباً وإياباً مثل البرق” (حزقيال 1، 13 – 14). يقول يسوع: “إن مجيء ابن الإنسان يكون مثل البرق الذي يلمع من المشرق ويضيء في المغرب” (متى 24، 27).
الإنجيل بالإضافة إلى رسالة كتاب الرؤيا قد انتشرا في العالم كله عن طريق الإنترنت. إنهما ينتشران بلمح البصر، مثل البرق الذي يلمع من المشرق إلى المغرب. وذلك من خلال رسل نهاية الأزمنة، هؤلاء الجمرات الصغيرة المتقدة، الذين قلوبهم مشتعلة حباً للمسيح وأمّه القديسة.
في كتابه، كتاب الرؤيا، يرى يوحنا هو أيضاً 4 كائنات حية، دائماً “في وسط العرش وحوله” (رؤيا 4، 6)، لأنهم، بوجودهم على العرش، يشاركون بالدينونة من خلال أناجيلهم. “من غلب أعطيه أن يجلس معي على عرشي، كما غلبت أنا فجلست مع أبي على عرشه”، يقول يسوع (رؤيا 3، 21). أما قال أيضاً لتلاميذه: “متى جلس ابن الإنسان على عرش مجده عند تجديد كل شيء، تجلسون أنتم الذي تبعوني على اثني عشر عرشاً لتدينوا عشائر إسرائيل الاثني عشر” (متى 19، 28) ؟
كما يعلن حزقيال من خلال هذه الرؤيا عن المجيء الأول للمسيح، كذلك كتاب رؤيا يوحنا يعلن عن مجيئه الثاني في نهاية الأزمنة، بعد النهاية الأخيرة لدولة إسرائيل المعاصرة.
رؤيا الكتاب (حزقيال 3، 1 – 15)
“كلْ هذه الكتاب… فأكلته فصار في فمي حلواً كالعسل… وقال لي: يا ابن البشر، إذهب إلى بيت إسرائيل وكلمهم بكلامي… فلا تخف منهم ولا من وجوههم المرعبة فهم شعب متمرد… سواء سمعوا أو لم يسمعوا”.
طُلب من حزقيال أن “يأكل” كتاب نبوءته، أي أن يتولى رسالته ضد بني إسرائيل: “فأنا لا أرسلك إلى شعب لغته غامضة وغريبة، بل إلى شعب إسرائيل. فلو أرسلتك إلى شعوب كثيرين… لسمعوا لك”، يقول الله لنبيه (حزقيال 3، 5 – 6). مهمة حزقيال – في زمنه – كانت تقتصر على “بيت إسرائيل”، كانت محددة إذاً ولم تمتد لتشمل “شعوباً كثيرة”.
هذا التشبيه عن “أكل” الكتاب يبرز ثانية في كتاب الرؤيا. في نهاية الأزمنة، عندما تعود إسرائيل إلى الظهور، أنبياء الله هم مدعوون “من جديد” لـ “يأكلوا كتاباً” وليشهدوا، ليس فقط من جديد على إسرائيل، كما كان الحال مع حزقيال، بل أيضاً “على كثير من الشعوب والأمم والألسنة والملوك”، الذين يدعمونها في ظلمها: “إذهب، خذ الكتاب المفتوح… وابتلعه… ابتلعته (الكتاب)، فكان حلواً كالعسل في فمي، وصار مراً في جوفي. فقيل لي: يجب أن تتنبأ ثانية على كثير من الشعوب والأمم والألسنة والملوك” (رؤيا 10، 8 – 11). علينا أن نلاحظ مرارة النبوءة الرؤيوية، الغير موجودة في نبوءة حزقيال، كونها أصعب لأنها شاملة، وتصطدم بكثير من العقبات: نبوءة حزقيال كانت موجهة إلى اليهود وحدهم لتبشرهم بالمجيء الأول للمسيح، بينما نبوءة كتاب الرؤيا هي أكثر صعوبة لأنها تتوجه إلى بشر العالم كله لتنذرهم وتحضّرهم لعودة يسوع، لمجيئه الثاني القريب: “ها هو آت مع السحاب! ستراه كل عين حتى عيون الذين طعنوه (اليهود)، وتنتحب عليه جميع قبائل الأرض” (رؤيا 1، 7).
العهد الجديد (حزقيال 11، 19 – 20 و 36، 25 – 27)
هنا أيضاً تشدد نبوءة العهد الجديد على القلب والروح، لا على تملّك أرض جغرافية: “وأعطيهم قلباً جديداً وروحاً جديداً في أحشائهم”. إنه الروح القدس الذي يتكلم عنه يسوع (لوقا 11، 13)، والذي يحصل عليه أخصاءه الحقيقيون (يوحنا 14، 15 – 26 و 16، 7 – 15).
ترمّل ومناحة حزقيال (حزقيال 24، 15 – 27)
يعلن الرب لحزقيال عن موت زوجته، تلك التي كانت “بهجة عينيه” (حزقيال 24، 16)، طالباً منه أن لا يقيم مناحة: “لا تندب ولا تبك… تنهد ساكتاً ولا تقم مناحة على الميت” (حزقيال 24، 16 – 17).
كان على هذه المناحة أن تكون رمزاً لخراب الهيكل الذي كان بالنسبة لبني إسرائيل “عنوان مجدهم وبهجة عيونهم ومنية نفوسهم” (حزقيال 24، 21). لن تبدأ مهمة حزقيال إلا بعد خراب الهيكل، مع تحقق نبوءته، سيسمع كلامه بشكل أفضل. عندئذ سيسمح له الله أن يتكلم ويحل له لسانه: “فينحل لسانك في ذلك اليوم وتتكلم ولا تكون بعد أبكم” (حزقيال 24، 27)، بعد أخرسه بسبب كفر اليهود: “وأنا ألصق لسانك بحنكك، فتصير أبكم ولا تقدر أن توبخ هذا الشعب المتمرد” (حزقيال 3، 26).
النبوءة الرؤيوية عرفت هي أيضاً فترة طويلة من السكوت: “أكتم ما نطقت به الرعود السبعة فلا تكتبه” (رؤيا 10، 4). هذه الفترة -التي دامت 20 قرناً- تبعها زمن الإعلان الصريح والمفتوح للرسالة: “لا تكتم كلام النبوءة في هذا الكتاب، لأن الوقت (عودة المسيح) قريب” (رؤيا 22، 10). في كتاب الرؤيا، يعود سبب فترة السكوت إلى أن النبوءات الرؤيوية لم تكن قد تحققت بعد ليُمكن فهمها.
القيامة (حزقيال 37، 1 – 28)
شاهد حزقيال في الرؤيا “عظاماً يابسة” تأخذ روحاً وتعود إلى الحياة: “سأفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي، وأجيء بكم إلى أرض إسرائيل” (حزقيال 37، 12). تفسر هذه القيامة من قبل البعض على أنها عودة الدولة الإسرائيلية الحالية إلى الحياة. هذا خطأ. فهذا الكيان سيفنى إلى الأبد.
القيامة، التي نتكلم عنها، هي قيامة الروح، عودتها إلى الحياة الروحية التي تكلم عنها يسوع (يوحنا 5، 24 – 27). إنها محفوظة لتلاميذه المؤمنين. يسميها كتاب الرؤيا “القيامة الأولى” (رؤيا 20، 6). إنها تختلف عن القيامة النهائية في آخر الأزمنة التي تدعى “القيامة الثانية”، عندما سيحيا الجسد، هو أيضاً، ويتجدد (يوحنا 5، 28 – 29).
جوج وماجوج (حزقيال 38، 39)
هذه الأسماء تشير إلى وثنيي ذلك العصر. المختارون، “شعب الله”، سينتصرون عليهم. كتاب الرؤيا يشرح لنا أن جوج وماجوج، في القرن العشرين، ليسوا سوى الإسرائيليين الذين “صعدوا على وجه الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة” (رؤيا 20، 7 – 9). يلقي كتاب الرؤيا بضوء إلهي يساعدنا كي نحسن تفسير مقصود الله في نبوءة حزقيال.
رؤيا الهيكل الجديد (حزقيال 40 – 48)
بعد نحو 15 سنة من خراب الهيكل، “وفي السنة الـ 25 من الذهاب إلى السبي” (حزقيال 40، 1)، شاهد حزقيال في الرؤيا إعادة بناء هذا الهيكل. “فإذا برجل واقف بالباب منظره كمنظر النحاس وبيده خيط كتان وقصبة قياس (لقياس الهيكل)… فقاس السور… إلخ” (حزقيال 40، 3 – 5).
المقصود، طبعاً، هو الهيكل الروحي إذ أن الله يقول لحزقيال: “لا يدخل هيكلي غريب غير مختون القلب” (زاد الكتبة عن طيب خاطر: “ومختون الجسد”) (حزقيال 44، 6 – 9). كتاب الرؤيا يتحدث عن بناء الهيكل الروحي في آخر الأزمنة، الذي سيقاس، هو أيضاً، كي لا يقبل إلا المؤمنين الحقيقيين (رؤيا 11، 1). هذا الهيكل الأبدي ليس إلا الله ويسوع المسيح (رؤيا 21، 22)، “لن يدخله شيء نجس، ولا الذين يعملون القبائح” (رؤيا 21، 27). هذا هو البعد الحقيقي لهيكل الله الذي لم يقدر بنو إسرائيل أن يفهموه.
الهيكل الجديد الذي شاهده حزقيال هو نفسه الذي يصفه كتاب الرؤيا. إنه روحي. قابل “مياه الحياة” التي تخرج من مقدس الهيكل الذي رآه حزقيال (حزقيال 47، 12)، مع “نهر الحياة” في كتاب الرؤيا (رؤيا 22، 1 – 2). الهيكل الذي رآه حزقيال هو هيكل روحي، هذا استنتاج سهل لأن مقاساته وشكله لا تطابق الهيكل الذي بناه عزرا بعد العودة من السبي. فما من نهر حياة كان يخرج من مقدس هذا الهيكل.
دانيال
اقتيد دانيال إلى المنفى في عهد نبوخذنصر، على الأرجح في أيام سبي يهوذا الأول (الملوك الثاني 24). كان ينتمي إلى طبقة النبلاء اليهود: “وأمر الملك أن يحضر من بني إسرائيل، من نسل الملك ومن الأمراء فتياناً لا عيب فيهم… ممن لهم القدرة على القيام بالخدمة في قصر الملك… وكان بينهم، من بني يهوذا، دانيال، …” (دانيال 1، 3 – 6). إذاً لم يكن النبي دانيال سوى فتى صغيراً عندما ترك فلسطين. “وبقي في قصر الملك إلى السنة الأولى من عهد الملك كورش” (دانيال 11، 20).
أصبح دانيال ذو شأن في البلاط الملكي بعد أن كان الوحيد الذي استطاع أن يفسر للملك حلمه (كما فعل يوسف مع فرعون). إقرأ الفصل 2 ثم عاود قراءة هذا الدرس.
التمثال الذي رآه نبوخذنصر يمثّل 4 امبراطوريات تعاقبت في التاريخ: البابلية، المادية-الفارسية، اليونانية والرومانية. فقد أعلن أن المسيح سيأتي في عهد الامبراطورية الرابعة (الرومانية)، إنه هو هذا “الحجر الذي انقطع من الجبل من دون أن تلمسه يد، فضرب التمثال… فانسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب معاً… فحملتها الريح وما وجد لها أثر. أمّا الحجر فصار جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها” (دانيال 2، 34 – 35). فسر دانيال الامبراطوريات الأربع (دانيال 2، 36 – 43). “وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماء مملكة (مملكة المسيح التي ليست من هذا العالم: يوحنا 18، 36) لا تخرب أبدا” (دانيال 2، 44). جاء يسوع – في زمن هؤلاء الملوك- في عهد الامبراطورية الرومانية. مملكته تثبت إلى الأبد في قلوب المؤمنين به.
لقد زالت الامبراطورية الرومانية؛ فماذا ينتظر بعد بعض اليهود ليفهموا؟!
![]() التمثال الذي شاهده نبوخذنصر والامبراطوريات الأربع |
بالإضافة إلى رؤى نبوخذنصر، كان لدانيال هو أيضاً رؤى لتحذره من التطورات التاريخية التي تتعلق بالامبراطوريات الأربع. ستلاحظ أن جميع هذه الرؤى أقلقت وأنهكت النبي (دانيال 7، 28 ؛ 8، 27). الرسائل الإلهية غالباً ما تكون ثقيلة الحمل.
ها هي رؤى دانيال الرئيسية:
الفصل السابع: رؤيا “الحيوانات” الأربع
“الحيوانات” الأربع تمثل الامبراطوريات الوثنية الأربع التي تسبق مجيء المسيح. هذه الرؤيا تشبه رؤيا تمثال نبوخذنصر (دانيال 2). في عهد الامبراطورية الرابعة سيأتي المسيح: إنه “الجد”، السيد على بني إسرائيل منذ القديم، منذ أيام الأزل (ميخا 5، 1)، الجالس على العرش” ليحكم (دانيال 7، 9). “فتح الأسفار” (دانيال 7، 10) هو إشارة إلى الدينونة. هذا التعبير يعود في كتاب الرؤيا (رؤيا 10، 2 / 20، 12). الكتب المفتوحة هي كتب العهد القديم. “فُتحت” لتبرهن، من خلال النبوءات الموجودة فيها، أن يسوع هو حقاً المسيح. هكذا، الذين لا يعترفون بالمسيح يسوع، هم مربكون ومدانون بالنبوءات التي أعلنت عنه (راجع لوقا 24، 25 – 27 ؛ أعمال 17، 2 – 11 و 18، 28). يوبّخ إشعيا الذين لا يفهمون الرؤى النبوية، قائلاً إنها بالنسبة لهم “كأقوال كتاب مختوم” (إشعيا 29، 11).
نجد هذه “الحيوانات” الوثنية الأربع أيضاً في كتاب الرؤيا على صورة “الأحصنة الأربع” (رؤيا 6، 1 – 8). تجتمع كلها في واحد، “الوحش” الذي يمثلها كلها (رؤيا 13). وحش الرؤيا هذا الذي سيظهر في نهاية الأزمنة، يختلف عن تلك التي رآها دانيال: إنه يرمز إلى الوثنية العصرية التي تتجلى بقوة بدولة واحدة قوية عسكرياً وعالمياً، مركزها فلسطين، وعاصمتها المطموع فيها: أورشليم -القدس (رؤيا 13 و 20، 7 – 9). المقصود هو إسرائيل.
الفصل الثامن: رؤيا “تيس الغرب”
رؤيا “تيس الغرب” (الإسكندر الكبير: “ملك اليونان”، دانيال 8، 5 و 21) الذي ينتصر على الامبراطورية الفارسية، “الكبش” (دانيال 8، 6 و 20). بعد انتصاراته العديدة، مات الإسكندر في أوج شبابه، عن عمر 33 سنة: “تعاظم تيس الماعز جداً، ولما اعتز انكسر القرن العظيم وطلع من تحته أربعة قرون…”. هذه القرون هم قادة الإسكندر الأربعة الذين تقاسموا امبراطوريته (دانيال 8، 8). أنطيوخس أبيفانيوس، الذي عرفته بقراءتك لسفر المكابيين (المكابيين الأول 1، 10 – 44)، خلف أحد هؤلاء الأربعة وحكم منطقة فلسطين. سياسة الهلنة التي مارسها أدت إلى تمرد المكابيين (سنة 167 ق.م: المكابيين الأول 2). يرمز إليه بالقرن الذي “تعاظم جداً نحو الجنوب والشرق والأرض المجيدة” (فلسطين). دنّس هذا القرن هيكل أورشليم بإقامته “المعصية (تمثال زيوس) على المحرقة الدائمة، فطرح الحق على الأرض” (دانيال 8، 11 – 12).
لاحظ أن دانيال لم يفهم الرؤيا (دانيال 8، 27). علينا أن نتذكر هذا المبدأ النبوي الذي سبق ذكره: النبوءة التي تتعلق بحدث تاريخي لا يمكن فهمها إلا بعد حصول الحدث المتنبأ به. عندئذ “تفتح” الكتب النبوية التي تنبأت به. هذه الكتب تبقى “مغلقة” (أو مختومة) على الذين يرفضون الاعتراف بالتحقق التاريخي للنبوءة. سيبقون عمياناً إلى الأبد، عيونهم مغلقة على الحقائق الإلهية.
الفصل التاسع: نهاية 70 سنة من السبي
كان دانيال “يتفحص الأسفار” (إرميا) ويطلب من الله معرفة “عدد السنين التي قال الرب لأرميا إنها ستنقضي على خراب أورشليم وهي سبعون سنة” (دانيال 9، 2). ينتهز الله الفرصة ليكشف له بدلاً من ذلك مخططه الخلاصي من خلال إرسال “الرئيس-المسيح” (يسوع) الذي سيقتل بعد 69 اسبوعاً من إعادة بناء أورشليم” (دانيال 9، 25 – 26). يدعو الله دانيال أن لا يتقيد بالـ 70 سنة التي ذكرها إرميا، بل أن يتطلع إلى أبعد من ذلك وأن يكون لديه رؤية شاملة: الـ 70 سنة هي 70 “أسبوعاً” من السنوات، إذاً 70×7=490 سنة، فترة تقريبية لمجيء يسوع.
هذه “الـ 70 أسبوعاً من السنوات” تقسم إلى 3 فترات زمانية: 62 – 7 – 1. “بعد 62 أسبوعاً يُقتل المختار الذي مسحته (بالفعل، لقد رفض وصلب) و… (عرش داوود السياسي الصهيوني) لا يكون له”، لأن ملكه روحي. “ويأتي رئيس بجيشه فيخرب المدينة (أورشليم) والمقدس (الهيكل)” (دانيال 9، 26). تيطس هو الذي حقق هذه النبوءة في سنة 70م. هذه النبوءة التي تعلن عن خراب ثانٍ للهيكل، لم تكن بطبيعتها لتعزي دانيال.
الفترة الزمنية من دانيال إلى “الرئيس-المسيح” هي 62 + 7 = 69 أسبوعاً من السنين (رمزية). الأسبوع الأخير من السنوات يرتبط بزمن مجيء المسيح. نصف الأسبوع الأخير، أي ثلاثة أيام ونصف اليوم، ترمز إلى الأزمنة الرؤيوية التي نعيشها. تُعرف بنهاية الأزمنة عندما نرى “رجاسة الخراب” في أورشليم (دانيال 9، 27 / متى 24، 15). هذا الرجاسة ما هي إلا المسيح الدجال الصهيوني في القدس اليوم: عدو المسيح في الأرض المقدسة مع سلسلة من الجرائم والتدمير. الـ “70 أسبوعاً من السنين” تنتهي عندما “ينصب غضب الله على الذي رفعها (إسرائيل)” (دانيال 9، 27). أو أيضاً، بحسب تعبير يسوع: “يدوس الوثنيون (الصهاينة الذين يرفضونه) أورشليم إلى أن يتم زمانهم (دولة إسرائيل)” (لوقا 21، 24).
![]() دانيال 9، 20-27 |
الفصل الثاني عشر: رؤيا نهاية الأزمنة
هذه الرؤيا الأخيرة تتعلق بالفترة الرؤيوية التي تسبق مباشرة نهاية الأزمنة. “ويكون وقت ضيق لا مثيل له منذ كانت الأمم إلى ذلك الزمان” (دانيال 12، 1)… “فستنزل في ذلك الوقت نكبة ما حدث مثلها منذ بدء العالم إلى اليوم، ولن يحدث”، يؤكد يسوع (متى 24، 21). هذه الفترة هي علامة نهاية الأزمنة، علامة أعطيت كي يتهيأ العقلاء للدينونة الأخيرة، عندها “سيتيقظ كثير من الراقدين في تراب الأرض، بعضهم للحياة الأبدية وبعضهم للعار والذعر الأبدي” (دانيال 12، 2).
هذه الرؤيا تشبه رؤى القديس يوحنا. إنها تكشف عدداً رمزياً من الأيام (1290 و 1335 يوماً: دانيال 12، 11 – 12)، عدداً إضافياً كشف ليوحنا (1260: رؤيا 11، 3 و 12، 6). لفهم أفضل علينا أن نقيم مقارنة بين النصين.
بالمقابل، ليس إلا بعد تحقق الأحداث الرؤيوية (سقوط إسرائيل والحرب العالمية الثالثة) حتى “تنفتح” هذه الأعداد لإدراكنا وتتوضح رمزيتها. لهذا السبب كان دانيال “يسمع ذلك ولا يفهمه” (دانيال 12، 8). هذه الأحداث ستدوم “زمن، وزمنين، ونصف الزمن”، إنها “الثلاثة أزمنة ونصف الزمن” و “الثلاثة أيام ونصف اليوم” في رؤيا 11، 8 – 11. وتوافق نصف الأسبوع في دانيال 9، 27. لا أحد يستطيع فهم هذه النبوءة قبل “أن تتم كلها عندما يتم تشتيت قوى الشعب المقدس” (دانيال 12، 7). المقصود هو تدمير المسيح الدجال الإسرائيلي الذي ضلل وضعضع المؤمنين. “إذهب يا دانيال، فالأقوال مغلقة ومختومة إلى أن يحين الوقت” (دانيال 12، 9). مع تفسير كتاب الرؤيا تتوضح كل هذه النبوءات.
الكتاب العبري ينهي سفر دانيال في الفصل الثاني عشر. الفصلين 13 و14 غير موجودين إلا في الكتاب المقدس اليوناني. إنهما يكشفان حكمة دانيال ويمكن فهمهما بسهولة.
الخلاصة
هذا نص مختصر لتفهم نبوءات دانيال بشكل جيد. أقترح قراءة الفصول الـ 12 الأول من كتابه وخصوصا الفصول 1 / 2 / 3، 1 – 23 / 4 / 7 / 8 / 9 / 12. إن مفتاح فهم هذه النبوءات هو معرفة أنها تستهدف زمن مجيء المسيح في المستقبل، المسيح الذي طالما انتظره اليهود.
قال يسوع مرات عديدة (أكثر من 40 مرة في الإنجيل) إنه “ابن الإنسان” (متى 8، 20 / 12، 40 / 24، 30 / مرقس 9، 12 / 13، 29 / لوقا 12، 8 / 18، 8 / 21، 36 / يوحنا 1، 51 / 6، 27 / 9، 35 / أعمال 7، 56). لم يفهم اليهود قصده وطلبوا منه: “من هو ابن الإنسان؟” (يوحنا 12، 34). رجع يسوع إلى نبوءة دانيال 7، 13 – 14 التي تعلن عن مجيء المسيح “آتيا على سحاب السماء بمثل ابن إنسان… يكون سلطانه أبدياً…”. لاحظ أن بمجيئه “يجلس أهل القضاء وتفتح الأسفار” (دانيال 7، 10). المقصود هو الكتب النبوية التي ستفتح وتتوضح، وليبرهن من خلال هذه الكتب المقدسة أن يسوع هو بكل تأكيد المسيح الذي بشر به الأنبياء (أعمال 17، 2 / 17، 11). نجد هذا التعبير أيضاً في كتاب الرؤيا 20، 12 عن المجيء الثاني ليسوع ليثبت، ودائما من خلال الكتب المقدسة المفتوحة وبالأخص كتاب الرؤيا، هذا “الكتاب الآخر المفتوح”، أن المسيح، الذي جاء من 2000 سنة، قد عاد، روحياً.
كي نفهم نبوءات دانيال، يجب أن نأخذ بعين الإعتبار أن كل ما جاء في كتابه يهدف إلى مجيء المسيح. هذه هي النقطة المركزية لهذا الكتاب. كل النبوءات الأخرى هي ذات طابع تاريخي وتعنى بالامبراطوريات التي تسبق مجيء المسيح، التي تتابعت في أيام دانيال وبعده: البابلية، المادية، الفارسية، اليونانية ثم الرومانية. فعلى عهد هذه الامبراطورية الأخيرة، أي الرومانية، يعلن كتاب دانيال مجيء “ابن الإنسان” (دانيال 7، 13 – 14)، “المسيح المقتول” (دانيال 9، 26)، الحجر الذي انقطع من الجبل دون أن تلمسه يد” (دانيال 2، 33)، “حجر العثرة” الذي تكلم عنه يسوع (متى 21، 42)، الذي سحق الامبراطوريات البشرية والذي مملكته الروحية لا تزول أبداً (دانيال 2، 29 – 45).
قلق دانيال كان بسبب السبي البابلي وخراب الهيكل. لقد تنبأ إرميا أن هذا السبي سيدوم 70 سنة (إرميا 25، 11 – 12 و29، 10). لكن هذه المدة طالت، ولم يكن دانيال يرى نهاية لمصائب إسرائيل. فقد كان هناك هجرتان: الأولى في سنة 597 ق.م، تبعتها أخرى سنة 587 ق.م. عودة خجولة من المنفى حصلت بعد نداء كورش في سنة 538 ق.م. في حوالي سنة 515 ق.م، جرت محاولة لبناء الهيكل، لكن تبعها توقف دام “إلى السنة الثانية لداريوس ملك الفرس” بسبب معارضة السامريين (عزرا 4، 24). هكذا نفهم قلق دانيال المتشوق لرؤية إعادة بناء الهيكل فيعترف قائلاً: “في السنة الأولى من عهد داريوس، تبينت، أنا دانيال، من قراءة الأسفار عدد السنين التي قال الرب لإرميا النبي إنها ستنقضي على خراب أورشليم، وهي 70 سنة” (دانيال 9، 1 – 2). هكذا إذاً، في السنة الأولى لداريوس، مرت الـ 70 سنة لكن دون أن يعاد بناء الهيكل بحسب ما توقع دانيال وجميع اليهود.
هكذا، النقطة الهامة التي علينا أن ندركها هي أن دانيال كان متلهفاً لرؤية بناء الهيكل، ومجيء المسيح كإمبراطور قدير لتأسيس – أخيراً- الامبراطورية الإسرائيلية في العالم. كما هو حال الإسرائيليين الصهاينة في أيامنا.
قرر هذا النبي إذاً أن يميت جسده بالصوم وباعترافه، من خلال دفاع منظم، بأخطاء شعبه المتعددة، متوسلاً الخالق أن يسامح وأن يعيد بناء الهيكل وهذا، ليس من أجل فضائل الشعب الإسرائيلي الخاطىء، بل من أجل شرفه السماوي الخاص (دانيال 9، 3 – 19). يحاول أن يقنعه أن الأمر يتعلق هنا بالسمعة الإلهية الخاصة: “أنظر بعين الرضى إلى مقدسك الخرب، وذلك لأجلك أيها السيد… ونحن لا نلقي تضرعاتنا أمامك لأننا صالحون، بل لأنك كثير الرحمة. أيها السيد إسمع… لأن اسمك دعي على مدينتك (أورشليم) وشعبك” (دانيال 9، 17 – 19).
أمام هذا الإلحاح البشري الصادق، إلحاح ناتج عن جهل وعدم فهم هذا “الرجل المحبوب” للمخطط الإلهي (دانيال 10، 11)، تتدخل السماء لدى دانيال – بطريقة مفاجئة واندفاع- لتقاطع هذه اللائحة الطويلة من كلمات الدعاء المملة: “وبينما كنت أتكلم… إذا بالرجل جبرائيل طار سريعا ولمسني…” (دانيال 9، 20). هذه المقاطعة المفاجئة لجبرائيل تستعيد تعليم يسوع: “لا ترددوا الكلام ترداداً في صلواتكم… لأن الله أباكم يعرف ما تحتاجون إليه…” (متى 6، 7). كانت هذه المقاطعة الملائكية ضرورية بالنسبة لدانيال لوضع حد لهذا الوابل من الكلمات التافهة. لأن دانيال اعترف قائلاً: “بينما كنت أتكلم…” (دانيال 9، 20).
قال له جبرائيل: “تأمل وافهم الجواب على الرؤيا: حدد الله سبعين مرة سبع سنوات على شعبك ومدينتك المقدسة للقضاء على المعصية وإنهاء الخطيئة، وتكفير الإثم وإحلال الحق الأبدي، وتمام الرؤيا والنبوءة وإعادة تكريس قدس الأقداس. فاعلم وافهم… في الهيكل ترتفع رجاسة الخراب، وتبقى هناك إلى أن ينصب غضب الله على الذي رفعها” (دانيال 9، 24 – 27).
لم يفهم دانيال شيئاً من هذه الرؤيا مع أن جبرائيل قد قال له: “تأمل وافهم الجواب على الرؤيا”. كان النبي متلهفاً لرؤية الأحداث التي أعلن عنها إرميا بعد السنوات الـ 70 من النفي تتحقق على أرض الواقع. بينما، تأتي السماء لتعلن له أن الـ 70 أسبوعاً هي 70 أسبوعاً من السنين، أي 70 × 7 = 470 سنة قبل التحقق التاريخي للنبوءات، وهذا، ليس لإعادة بناء هيكل أورشليم حسب تفسير دانيال، بل “لإعادة تكريس قدس الأقداس”، أي المسيح الذي هو الهيكل الحقيقي بالمفهوم السماوي. هكذا، يفقد هيكل أورشليم أهميته. يسوع هو من وضّح هذه النبوءة بإعلانه، عند مجيئه، بعد حوالي 490 سنة (70 أسبوعاً من السنين بعد دانيال): “إهدموا هذا الهيكل، وأنا أبنيه في ثلاثة أيام… وكان يسوع يعني بالهيكل جسده” (يوحنا 2، 18 – 22). فيما بعد أيضاً، بعد قيامة يسوع، فهم الرسل أن هيكل الله يسكن في كل نفس تتبع يسوع (كورنثوس الأولى 3، 16 – 17). كتاب رؤيا يوحنا يكشف أيضاً ما هو أفضل من ذلك: كل بناء ديني مادي – هيكل، كنيسة، جامع، باغود، إلخ- يصبح باطلاً، إذ أنه في أورشليم السماوية لا يوجد هيكل أو بناء من هذا القبيل (رؤيا 21، 22). لقد كان دانيال بعيداً كل البعد عن هذا المفهوم الإلهي، مضطرباً وعاجزاً عن هذه العبادة بالروح. فنفهم بالتالي حالته النفسية المنهكة (دانيال 8، 27 / 10، 9 – 10).
من خلال روح يسوع أعطينا أن نفهم النبوءات وفقاً لمقصود الله، التي لم يكن دانيال قادراً على إدراك معانيها. يوحنا المعمدان بنفسه، الذي أتى بعد 5 قرون نذيراً للمسيح، لم يكن قد فهمها هو أيضاً. وفقاً لشهادة يسوع، كان يوحنا “أعظم من نبي، ولكن أصغر الذين في ملكوت السماوات أعظم منه” (متى 11، 11). لأن يوحنا المعمدان، هو أيضاً، مثل دانيال، كان يتوقع مملكة إسرائيلية ثيوقراطية (دينية). بينما “أصغر الذين في ملكوت السماوات” قد فهم جيداً البعد الروحي والداخلي لملكوت الله ولامبراطوريته الأبدية. الاضطراب النفسي الذي أصاب دانيال، حتى وإن كان لاشعورياً، “أضعفه وجعله يمرض لأيام” (دانيال 8، 27).
رؤى دانيال لا تنحصر بمجيء يسوع الأول، بل تمتد في الزمن إلى حين عودته في الزمن الرؤيوي: “وقت ضيق لا مثيل له منذ كانت الأمم إلى ذلك الزمان” (دانيال 12، 1). يستعيد يسوع هذه النبوءة في متى 24، 21 ويشير إلى “رجاسة الخراب” التي تكلم عنها النبي دانيال (متى 24، 15). يسوع، بمجيئه الأول والثاني، “يفتح الكتب”، أي الكتب النبوية التي تبشر بمجيئه وبعودته للدينونة (دانيال 7، 10 / رؤيا 20، 12). هكذا تكون جميع نبوءات دانيال قد تحققت من خلال هذين المجيئين. ننتظر “الإفناء المقضي على المخرب” (دانيال 9، 27): أي سقوط الوحش. عندئذٍ سنفهم القليل الباقي لنا لفهم النبوءات.
ملاحظة: يهدف كتاب دانيال بشكل رئيسي إلى مجيئي يسوع الذي، من خلال عودته، سيفسر أقوال دانيال التي عيّنها الله لتبقى “مختومة إلى آخر الأيام” (دانيال 12، 4). هذه الأيام التي نحن نعيشها اليوم.
ملحق
تأمل بدانيال الأمس وبنا نحن اليوم، الرومان مع بني إسرائيل في الأمس والولايات المتحدة الأمريكية معهم اليوم:
الفصل الثاني من دانيال يعرض حلم نبوخذنصر عن “التمثال الذي رأسه من الذهب… وقدماه بعضهما من حديد وبعضهما من خزف”. هذا يعني “أنهما يختلطان بزرع بشري، ولكن لا يلتحم هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف ” (دانيال 2، 43). هذا الزرع البشري الهش، في مقصود الله، والذي يأتي بعد دانيال بـ 3 قرون، يشير إلى التحالف الهش بين الرومان وإسرائيليي ذلك العصر كما يكشف كتاب المكابيين الأول 8، 17 الخ… هذا التحالف “بذرع بشري”، أي بين الرومان والإسرائيليين، لا يمكنه إلا أن يكون هشاً. خليط بشري كهذا هو في مثل هشاشة المزيج الغير ممكن بين الحديد والخزف. الرومان، في هذا الوقت، كانوا مشهورين بكونهم لا يقهروا، كشهرة الولايات المتحدة الأمريكية اليوم (المكابيين الأول 8، 1 – 14 وبخاصة الآيات 11 – 13). الدعم الروماني المطلق لليهود يظهر في الرسالة المعلنة في كتاب المكابيين الأول 15، 15 – 24. في عهد الامبراطورية الرومانية، كانت إسرائيل موجودة كدولة. فليس من الخطأ إذاً أن نقول إن “هذا الوحش كان موجوداً في الماضي” (رؤيا 17، 8)، مدعوماً من الرومان. كل ذلك كان يمهد لمجيء الذي “مملكته لا تخرب أبداً وتثبت إلى الأبد…” (دانيال 2، 44) كونها في النفوس. بالفعل، في عهد الامبراطورية الرومانية أتى مخلصنا المبارك. على الرغم من الدعم الروماني للإسرائيليين في الأمس، فالرومان هم الذين دمّروا المملكة الإسرائيلية على يد تيطس في سنة 70 م. هكذا ظهرت هشاشة التحالف.
اليوم، “من جديد”، إسرائيل، وحش الرؤيا الأول، حصلت على حماية الدولة الأمريكية القديرة، وحش الرؤيا الثاني. ذلك أيضاً كان يهيء، ولا يزال، مجيء الذي “لا نهاية لملكه…”. لكن المقصود اليوم هو مجيئه الثاني، عودته، دائماً في القلوب. الذين لا ينامون بل يبقون مخلصين إلى النهاية، ساهرين متمنطقين بسلاح البصيرة، “يفتحون له ما أن يدق باب القلب” (لوقا 12، 35 – 36 و 24، 33 / رؤيا 3، 20).
![]() الإطار التاريخي لنبوءات دانيال |