- 1 الدرس الثاني – الفصول الـ 11 الأولى من كتاب التكوين
الدرس الثاني – الفصول الـ 11 الأولى من كتاب التكوين
ستبدأ الآن بقراءة أول الكتب التاريخية: كتاب التكوين. إنه أيضاً أول كتاب من الـ “توراة” أو من “أسفار موسى الخمسة”. ويتألف من 50 فصلاً، أول 11 منها تخبرنا عن فترة ما قبل التاريخ، عن ما قبل إبراهيم، بدءاً من خلق العالم، خلق آدم وحواء، تمردهما على الله، حتى الطوفان مع نوح. هذه الفصول الـ 11 الأولى تشكل كتلة مميزة عن باقي كتاب التكوين وعن التاريخ الكتابي بشكل عام. سُكب عليها كثير من الحبر وكُرست لها كثير من الأعمال من قبل عدد كبير من المفكرين الدينيين.
في الفصول الإحدى عشر الأولى، حاول الكتبة المقدسون الإجابة على الاسئلة المتعلقة بالفوطبيعية والحياة على الأرض: من أين يأتي الكون؟ لماذا الحياة شاقة على الأرض؟ لماذا الحزن، الألم والموت؟ الجواب: يوجد إله واحد خالق. هو الذي خلق الإنسان سعيداً، لكن هذا الأخير تمرد وابتعد عن خالقه؛ بتصرفه هذا عرف الإنسان البؤس. فأقام الله عندئذٍ مخططاً لإنقاذ الإنسان من جنونه.
بدءاً من الفصل 12، يكلمنا كتاب التكوين عن التاريخ الديني نفسه مع ظهور إبراهيم الذي دعاه الله، أول البشر، ليؤسس معه مخططاً يهدف إلى إنقاذ كل من يؤمن بكلامه من الجهل الروحي.
إبدأ بقراءة الفصلين 1 و 2 فقط من كتاب التكوين ثم استأنف قراءة هذا الدرس. لاحظ أن كتاب التكوين ينقل روايتين مختلفتين عن الخلق، يعود ذلك إلى التقاليد الشفهية المختلفة.
الخلق (تكوين 1، 1 إلى 2، 3)
لقد وجدتَ في هذه الرواية نقاطاً “غير علمية”. أنت على حق، لأن الكتاب المقدس ليس إطروحة علمية، بل روحية. ما نطلبه منه هو دقة روحية، فيعطينا إياها قائلاً إن الله هو الخالق الوحيد للكون. أكان الخلق في 6 أيام أو غير ذلك، ليس هذا هو المهم. فمقصود الكتاب المقدس هو كشف وجود الخالق الأوحد.
إن التجرؤ على كشف وجود إله واحد وخالق، 2000 سنة ق.م، في عالم وثني متعدد الآلهة، كان يتطلب شجاعة خارقة. فقد حُكم على سقراط بالموت 1500 سنة بعد هذا الكشف لأنه اعتقد، في اليونان بلد الفلسفة والحضارة في ذلك العصر، بوجود إله واحد (دعاه “المحرك الأول” لأنه يعطي الحركة الحيوية لكل شيء). اليوم أيضاً، توجد مجتمعات ملحدة تحرّم الكلام عن الله في بلدان تتصدر التقدم العلمي. كما لا زال يوجد، في القرن الواحد والعشرين، في أدغال أفريقيا وأمريكا، ملايين الوثنيين المتعددي الآلهة. عندما تفكر بكل ذلك، يمكنك أن تدرك الصعوبات والمخاطر التي تعرض لها أجدادنا بالإيمان الذين بدأوا بكتابة الكتاب المقدس قبل 3000 سنة، ليكشفوا عن وجود الله الواحد.
كي تفهم رواية الخلق الأولى بشكل أفضل، عليك أن تعرف أن الكتبة الذين صاغوها كانت يملكون معرفة بدائية جداً ومفهوم خاطئ عن الكون. لم يكونوا يعرفوا عن الله سوى وجوده وكانوا يجهلون أن الأرض كانت مستديرة وتدور حول الشمس.
كانوا يعتقدون أن الله كان بحاجة للنور كي يرى جيداً قبل أن يخلق. فقد خلق إذاً النور في بداءة الأمر من اليوم الأول و “فصل بين النور والظلام. سمى الله النور نهاراً والظلام ليلاً… يوم أول” (تكوين 1، 4 – 5).
![]() مفهوم الكون |
ليس إلا حتى القرن السابع عشر حتى اكتشف “جاليلي” أن الأرض كروية الشكل وأنها تدور حول الشمس. لكن قبل ذلك، كان الناس يعتقدون أنها مسطحة وتطفو على امتدادٍ مائي شاسع، مثبتة على 7 أعمدة مغروزة في هذه المياه (صموئيل الأول 2، 8 / الأمثال 9، 1).
لتفسير الشتاء، كانوا يظنون أن الماء كانت مخزنة عالياً في السماء، فوق الجلد، فلا تسقط على الأرض بسبب الجلد الذي يحملها، والتي كانوا يعتقدون أنها قبة متينة تفصل بين “المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد” (تكوين 1، 7).
![]() مشهد للعالم في العصور القديمة |
هذه القبة كانت تحتوي على نوافذ أو فتحات كان الله يفتحها لإسقاط المطر في وقته. الفرق الوحيد بين ما كان يقوله المؤمنون والوثنيون عن هذا الموضوع هو أن هؤلاء الأخيرين كانوا يعتقدون أن الآلهة التي خلقت الكون كانت تفتح فتحات السماء لإنزال المطر.
كان الناس يؤمنون أيضاً أن الشمس، القمر والنجوم هي آلهة. لقد شرح الوحي الإلهي أن الله هو الذي خلقها. المؤمنون كانوا يظنون أنها كانت معلقة بالقبة لتنير الأرض، تماماً كما نعلّق المصباح بسقف البيت.
ليس علينا أن نطلب من الكتاب المقدس أن يكشف أن الأرض كروية، أنها ليست مسطحة، وأنها هي التي تدور حول الشمس، وليس العكس. للكتاب المقدس هدف محدد: كشف الله للبشر. وهذا ما بذل الكتبة المقدسون جهدهم لفعله انطلاقاً من مفهومهم للكون.
على ذلك، بوسعك الآن أن تفهم بشكل أفضل لماذا التكوين 1، 6 يقول أن الله خلق الجلد “ليفصل المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد”. لا يوجد أي شيء “علمي” في ذلك. إن هدف الكاتب هو الكشف عن وجود الله الواحد الذي خلق الكون وأن آلهة الميثولوجيا لم تخلق شيئاً، حتى أنها نفسها كانت غير موجودة. لا يوجد إذاً إله خلق الشمس، آخر البحر، وآخر القمر إلخ… هكذا تكون معرفة الله الواحد الخالق الكون قد جرفت تعدد الآلهة.
بما أن بعض الناس كانوا يعبدون الشمس والقمر، فقد نقل كتبة التكوين خلقهما إلى اليوم الرابع ليحطّوا من قدرهما في عيون عابديهما. فكتاب التثنية يكشف أنه حتى من بين اليهود هناك من يعبد الشمس، القمر والنجوم (التثنية 17، 2 – 3 / الملوك الثاني 23، 5). لاحظ أن اسمي الشمس والقمر ليسا حتى مذكورين، لكنهما بالمقابل لقّبا بـ “النيرين العظيمين”… الكبير للنهار والصغير لليل…”. هنا أيضاً، من الخطأ علمياً أن يقال إن الشمس خُلقت في اليوم الرابع، طالما أن العلم قد برهن أن الشمس وُجدت قبل الأرض بملايين السنين. وكيف يمكن للشمس أن تكون قد خُلقت في اليوم الرابع في حين أن كتاب التكوين نفسه يقول أنه قد مر 3 ليال و 3 أصباح؟ أصباح من دون شمس؟ ويضيف كتاب التكوين أن هذين النيرين قد خُلقا “للفصل بين النور والظلام” (تكوين 1، 18). والحال أن الله في اليوم الأول قد “فصل بين النور والظلام” (تكوين 1، 4). علينا إذاً أن نفهم المقصود الروحي للكاتب: الكشف أن الله هو الخالق الوحيد، وإبطال العبادة الوثنية للشمس، والقمر والنجوم.
هكذا نصل إلى النقطة المهمة التالية: هل علينا أن نفهم الكتاب المقدس حرفياً (وفقاً للـ “معنى الحرفي” للنص) أو روحياً (وفقاً للـ “معنى المجازي” أو “الروحي” للنص)؟ هل علينا أن نثبت باعتقادنا أن الله خلق بـ 6 أيام من 24 ساعة، وأن الشمس خُلقت في اليوم الـ 4، لا قبل، ولا بعد، أو أن نأخذ بعين الاعتبار المستوى العلمي لذلك العصر؟ ما يهم بالنسبة لنا، هو المعنى الروحي: أن نكتشف ماذا يريد الله أن يقول لنا من خلال المعرفة الجزئية، الشكل الأدبي وأسلوب الكاتب المقدس في ذلك الوقت.
فلو كان كاتب الكتاب المقدس في عصرنا لكان صاغ روايات التكوين بشكل مختلف، قائلاً على سبيل المثال: “في البدء، خلق الله نيوترونات وبروتونات تطورت على حرارة 100000000 درجة مئوية، من ملايين وملايين السنين. تكثفت هذه الجزيئات وبردت لتشكل “المادة الخام” التي منها صنع الله الكون. فخلق منها أولاً الشمس التي انفصلت عنها قطعة صغيرة لتبرد وتشكل كوكب الأرض إلخ…”. هذه الطريقة لتقديم الخلق لا تبدل شيئاً من الجوهر: فالله وحده هو دائماً الذي خلق كل شيء. هذا هو المهم للمعرفة الروحية.
بما أن بعض الناس يعبدون “أفاعي البحر الكبرى” (القروش، الحيتان، التماسيح إلخ…)، خاصة البحارة، يأتي التكوين 1، 21 ليضعهم، هم أيضاً، عن قصد، في خانة الحيوانات التي خلقها الله. اليوم، لو أراد أحد كتبة الكتاب المقدس استهداف بعض الأسيويين الذين يعبدون البقرة البيضاء، لكان أضاف أيضاً أن هذا الحيوان هو مخلوق من الله؛ ولكانوا استخلصوا من تلقاء أنفسهم أنها لا تتمتع بأي شيء من الألوهية وتوقفوا عن عبادتها.
لاحظ أن الإنسان وحده، من بين كل المخلوقات، هو على صورة الله (تكوين 1، 26). هذا “المماثلة” للإنسان مع خالقه ليست جسدية، بل روحية: الإنسان هو أيضاً روح، إنه ليس مخلوقاً فقط من لحم ودم وعظام. فقد أنعم الله على الإنسان بالعقل، عكس الحيوان الذي يعيش فقط على مستوى الغريزة. أن يعيش الإنسان على المستوى الجسدي يعني سقوطه.
برفعه الإنسان إلى المستوى الروحي جعله الله “يتسلط” على كل حيوانات الأرض. كما أن الله عندما انتهى من خلق الإنسان، وعند ذلك فقط، رأى “أن كل ما صنعه حسن جداً”، ليس فقط “حسن” كما لباقي الخلائق. إن الإنسان هو إذاً هدف خلق الكون (تكوين 1، 31).
هل لاحظت أن الإنسان، في الرواية الأولى، خُلق ذكراً وأنثى، الرجل والمرأة خُلقا في نفس الوقت (تكوين 1، 27)؟ بينما في الرواية الثانية، خلق الله المرأة بعد الرجل التي أخذت من ضلعه. هناك فرق آخر بين الروايتين: في الأولى، خلق الإنسان في اليوم السادس، بعد كل الخلائق الأخرى؛ وفي الرواية الثانية، خلق الإنسان أولاً، ومن ثم الحيوانات، وأخيراً، المرأة. هذا أيضاً مثل آخر على تعدد التقاليد الشفهية.
القاسم المشترك بين الروايتين هو مقصود الكاتب:
- إن الله هو الذي خلق أول زوج بشري. بغض النظر عن طريقة الخلق.
- على الإنسان أن يحترم المرأة وأن يعاملها بالمثل:
– لأنها خلقت في نفس الوقت الذي خلق فيه (وفقاً للرواية الأولى)، أو منه، من ضلعه هو، بالقرب من قلبه (وفقاً للرواية الثانية)؛
– الرجل جُبل من تراب، أما المرأة فمن مادة أكثر تطوراً: من جسد الرجل.
هذان النصان يهدفان إذاً إلى رفع قدر المرأة في أزمنة كانت فيها منتقصة. لا يجب إذاً فهم الخلق البشري حرفياً، نظراً لاختلاف النصين. عليك اكتشاف المغذى الروحي لهاتين الصيغتين: خلق الله الرجل والمرأة متساويين ليحبّا ويحترما بعضهما البعض لأنهما خلقا أحدهما للآخر، الواحد مكمّل للآخر. وخاصة لأنهما خُلقا على صورة الله الذي هو محبة، احترام، وكرامة.
يطلب الله من الزوج البشري الأول أن “ينموا ويكثروا ويملأوا الأرض” (تكوين 1، 28). لذلك، الإنسان الذي يدين بالكثير لأبويه، لا يجب أن يتركهما إلا ليعيش مع امرأته، التي يتحد بها فيصيران “جسداً واحداً” (تكوين 2، 24). إن هذا الجو من المحبة هو الذي عليه أن يملك بين الأزواج الذين يريدون أن يبقوا على صورة الله. إقرأ ما قال يسوع بهذا الخصوص في متى 19، 1 – 12، بالإضافة إلى نصائح بولس إلى المتزوجين في رسالته إلى أهل أفسس (أفسس 5، 21 – 33). سترى فيما بعد أن الزوج البشري الأول سيفقد صورة الله بعصيانه له. جهدنا يرمي إلى استعادة تشابهنا بالآب السماوي. هذا هو هدف الوحي الإلهي.
نقطة أخيرة يجب أخذها بعين الاعتبار في هذه الرواية الأولى، هي “استراحة” الله في اليوم السابع (تكوين 2، 2 – 3). الله لا يرتاح مثل البشر، لأنه لا يتعب مثلهم. إن الإشارة إلى الراحة في اليوم السابع موجهة للبشر، ليرتاحوا يوماً في الأسبوع، بدلاً من قضاء كل وقتهم منشغلين بأمور الحياة الدنيوية وتجميع المال. الله يدعو الإنسان إلى تكريس يوم في الأسبوع للابتعاد وللتفكير بالحياة الروحية (خروج 35، 1 – 3).
هدف هذين النصين الأخيرين من كتابي التكوين والخروج هو إنقاذ الإنسان من المادية، كون أغلبية البشر لا يفكرون سوى بالمال. بعضهم فهمهما حرفياً، فذهب به الأمر إلى الاعتقاد أن الله ارتاح، ولا يزال، كل أيام السبت، وأن على الإنسان أن لا يفعل شيئاً في هذا اليوم. هذا هو حال اليهود الذين يوقفون جميع الأنشطة يوم السبت، حتى المفيدة منها (التربية البدنية إلخ…)، وصولاً إلى شلل شبه تام (منع سير الباصات، منع الطائرات من الإقلاع إلخ…). فقد ثاروا على يسوع لأنه كان يشفي في يوم السبت؛ فأجابهم يسوع أن الله، خلافاً لاعتقادهم، يعمل في كل حين (يوحنا 5، 16 – 18). في إسرائيل، الإسرائيليون المتدينون “يحترمون” السبت إلى درجة عدم المشي لأكثر من كيلومتر واحد، عدم الركوب في سيارة أجرة، أو باص، أو طائرة. توصّل الأصوليون اليهود إلى أن يتم إغلاق المطار في أيام السبت، وكانوا يرجمون الباصات التي كانت تسير في هذا اليوم. لكن عندما كان الأمر يتعلق بأخذ مبادرة الحرب يوم السبت، فلم يكونوا يترددون…! فعندما تنبّأ يسوع بالكوارث التي ستحل على إسرائيل، نصح اليهود متهكماً: “صلّوا لئلا يكون هربكم في السبت…” (متى 24، 20). أي أنه سيكون عليهم الهرب بعيداً، لمسافة لا يرضى بها لأنفسهم الذين يفهمون التوراة بحسب الحرف… هذا هو خطر التفسير الحرفي: “لأن الحرف يميت، والروح يحيي”، كما يقول بولس (كورنثوس الثانية 3، 6).
الرواية الثانية للخلق (تكوين 2، 4 – 25)
لقد سبق أن أشرت أن المرأة في هذه الرواية خُلقت من ضلع الرجل؛ هناك 3 نقاط أخرى علينا أن نأخذها بعين الاعتبار:
- شجرة معرفة الخير والشر،
- الأسماء التي أعطاها الإنسان إلى الحيوانات،
- حالة الزوج البشري الأول.
“شجرة معرفة الخير والشر” (تكوين 2، 17)
هذه الشجرة كانت في وسط الجنة ولم تكن حقيقة نباتية، بل استعارة، إنه تصرف أو موقف سيء في نظر الله على الإنسان تجنبه تحت طائلة تحمل العواقب. على الإنسان أن يتمتع بسلوك معين تجاه الله: علاقة بنوية ودودة، بسيطة ووثيقة. لاحظ أن الأمر يتعلق بشجرة “المعرفة”، وليس أبداً بتفاحة كما يظن البعض. إنها حقيقة ذات واقع أخلاقي، لا نباتي.
كيف يجب فهم طبيعة “شجرة معرفة الخير والشر” هذه؟ هو أن يقيّم الإنسان بنفسه ما هو خير وما هو شر، دون الرجوع إلى الله. أن يظن نفسه حرّاً باعتبار ما يحذّره منه الله صالحاً. غالباً ما نسمع اليوم بعض الناس يقولون: “لماذا هذا الشيء ممنوع؟” ويذهب بهم الأمر إلى استنتاج شخصي، باسم الحرية، أنه أمر جيد… حتى ولو كان سيئاً في نظر الله (مخدرات، لواط، غلمانية، عنف، دعارة إلخ…).
لذلك قال النبي إشعيا: “ويل للذين يدعون الشر خيراً والخير شراً” (إشعيا 5، 20).
يقع بعض الناس في فخ الرغبة أو الفضول لمعرفة الشر، خوض التجربة. يفيدنا أن نعرف الخير من خلال ممارسته، لكن من المضر دائماً الاستسلام للشر. علينا أن نصلّي كي لا “ندخل في تجربة” الشر الذي يعرف كيف يكون مغرياً باتخاذه صورة الخير (راجع متى 6، 13)؛ “ولا عجب، فالشيطان نفسه يظهر بمظهر ملاك النور”، يقول القديس بولس (كورنثوس الثانية 11، 14).
شجرة معرفة الخير والشر تمثّل إذاً التجربة: رغبة الإنسان في التحرر من الله ليحكم مثله، في أن يكون مساوياً له ولا يدين له بشيء، في أن لا يطلب منه أية نصيحة، أن يقرر بنفسه، “كإنسان راشد”، أن يكون مستقلا عن الله. والحال هو أنه لا يمكننا أن نعيش مع الله في هذا الروح من الصراع، بل بروح تعاون إلهي إنساني، روح تبادل بين أب وابنه. كلنا بحاجة إلى نصيحة من فلان وعلان؛ الإنسان يستشير في عمله من هم أكثر خبرة منه، ولنيل شهادات مهنية، عليه أن يكون متواضعاً ليعبر في بداءة الأمر بالكليات. فلا يمكننا أن نكون أساتذة جيدين من دون أن نكون تلاميذ جيدين. لا يمكننا بلوغ سن النضج دون المرور بسن الطفولة. لماذا إذاً، عندما يتعلق الأمر بالله، سيد الحياة، علينا أن نفكر بـ “الاستقلال” عنه لنحكم على أمور حيوية، غالباً ما تكون معقدة وبالغة الدقة؟ هذا النوع من الاستقلال هو “شجرة معرفة” الشر التي لا نمسها من دون عقاب. يجب التغلب على الرغبة بهذا الاستقلال المزيف، وطرد هذه الأفكار المغرورة، إن أردنا الحياة. لأن التأمل كثيراً بالإغراء، كما فعلت حواء في التكوين 3، 6، يؤدي في النهاية إلى السقوط في الفخ. فلنقبل إذاً على مدرسة الله إن كنا نريد أن نتعلم ما هي الحياة الحقيقية. فلا نكون لا عملاء، ولا ضحايا للشر.
هذا هو تعليم التكوين 2، 17. هدفه هو ترسيخ الإنسان في ذهنية الله التي تهب الحياة، التي تهب الروح القدس.
أسماء الحيوانات أعطاها الإنسان، وليس الله
لاحظ أن الخالق لا يعطي للحيوانات أسماءها: “وجاء بها إلى آدم ليرى ماذا يسميها، فيحمل كل منها الاسم الذي يسميها به” (تكوين 2، 19). إنه أسلوب للتعبير عن حرية الإنسان ونوع من الاستقلالية التي تجعله معاوناً لله، ومتفوقاً على الحيوان. هنا يظهر وجه التعاون بين الله والإنسان في إدارة العالم، إدارة استحسنها الله لتمنح السعادة للبشر لو أنهم احترموها منذ البدء.
إعطاء اسم هو عمل دلالي ومهم تنشأ من خلاله صلة عاطفية وحميمة مع الكائن المسمى، مثل الأسماء التي نعطيها للحيوانات الأليفة التي نحتفظ بها في منازلنا، أو الأهم، الأسماء التي نعطيها لأولادنا. في حالة يوحنا المعمدان ويسوع، لأنهما أرسلا من الله، فإن الله نفسه هو الذي سمّاهما قبل أن يولدا (لوقا 1، 13 / لوقا 1، 31). ويعلن بالتالي أنهما رسولاه. بالنسبة لنا، من المهم أيضاً معرفة اسم الشخص أو حتى اسم الحيوان الأليف. فكل شيء يحمل اسماً، وما لا يحمل اسماً، لا قيمة له. لذلك لم يعطي كتبة التكوين أسماءً للشمس والقمر عندما خلقهما الله (تكوين 1، 14 – 19).
حالة الزوج الأول في الفردوس
المقصود هو حالة النفس، الوضع النفساني والروحي للزوج الأول. وفقاً للرواية الثانية، آدم، دون حواء، كان يشعر أنه وحيد: “قال الرب الإله: لا يحسن أن يكون آدم وحده، فأصنع له مثيلاً يعينه” (تكوين 2، 18). لكن من بين الحيوانات لم يجد آدم من يملأ فراغ قلبه: “لكنه لم يجد بينها مثيلاً له يعينه” (تكوين 2، 21). كان الرجل بحاجة إلى شخص قوي، إلى رفيقة يتحادث معها وتكون مثله، مخلوقة على صورة الله، تتمتع بالذكاء وقادرة أن تحب كي تفهمه. إنها العون الوحيد الذي يكون “مثيلاً” له.
قرر الله إذاً أن الإنسان يجب أن يكون زوجاً بشرياً، واحد مكمل للآخر: ذكر وأنثى. قرار بارع! أجرى الله أول “عملية جراحية” بالتبنيج في التاريخ البشري: “فأوقع الرب الإله آدم في نوم عميق، وفيما هو نائم أخذ إحدى أضلاعه وسد مكانها بلحم. وبنى الرب الإله امرأة من الضلع التي أخذها من آدم، فجاء بها إلى آدم”.
هل لاحظت كيف هتف الرجل بحماس وفرح عندما رأى المرأة التي أخذت منه: “هذه الآن (ليس كما في المرات السابقة مع خلق الحيوانات) عظم من عظامي ولحم من لحمي”. الرجل مسرور بشكل واضح لرؤية نفسه مع كائن مثله، شخص من جنس آخر منبثق منه.
ردة فعل الرجل الأولى كانت الرغبة بإعطاء اسم لهذه الإنسانة الفاتنة الواقفة أمامه. لا يسألها عن اسمها، لأنه يعلم أنها لا تعرف؛ “هذه تسمى امرأة فهي من امرئ أخذت”. إسم الرجل قد أعطي حصراً لشريكته البشرية. إنها، بعكس الحيوانات، الانعكاس الأنثوي لوجهه هو. يعرف نفسه من خلالها. لأنها لحم من لحمه، “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويتحد بامراته، فيصيران جسداً واحداً” (تكوين 2، 24 / متى 19، 3 – 6).
بالتالي، باتحاده بامرأته، يجد الرجل نفسه، يكتمل؛ يعيد الضلع الذي اجتث منه إلى مكانه. لذلك يدين الله، في الإنجيل، الذين، في نهاية الأزمنة، ينهون عن الزواج (كما يفعل بعض رجال الدين): “والروح (الله) صريح في قوله إن بعض الناس يرتدون عن الإيمان في الأزمنة الأخيرة، ويتبعون أرواحاً مضللة وتعاليم شيطانية… ينهون عن الزواج” (تيموثاوس الأولى 4، 1 – 3). هذا لا يعني أن على الزواج أن يكون فرضاً معنوياً: بعض الناس يجدون في الله الزوج الذي يتوق إليه قلبهم. هذا الاتحاد الروحي مع الله هو نداء إلهي لجميع البشر؛ إن كان بصورة مباشرة، من خلال عزوبية اختيرت بحرية، أو من خلال الزواج. على أي حال، على الله أن يكون الحب الأول؛ هو الذي يوجه بعدئذٍ إمّا نحو العزوبية وإمّا نحو الاتحاد الزوجي. لا توجد قاعدة مطلقة مع الزواج أو ضده. لكل دعوته، كل الدعوات هي مقدسة بالتساوي بما أنها ممارسة فعلية للمشيئة الإلهية. ليس النعيم سوى ثمرة إتمام هذه المشيئة.
بأية حالة نفسية كان الزوج الأول في الفردوس؟ كان الرجل والمرأة ينعمان بالسعادة لأن الله خلقهما طاهرين، بريئين، دون أية لطخة: كانا مرتاحي الضمير. من أين إذاً جاء الشر؟ فالخالق لم يضع فيهما أية أفكار سيئة. وكيف يمكن لله، وهو الخير المطلق، أن يضع الشر في نفس وتفكير الإنسان الذي خلقه؟ من الخير لا يأتي إلا الخير. لذلك كان آدم وحواء سعيدين، بلا هموم دنيوية ومن دون عقد نفسية تأكلهما. بسلام مع الله ومع بعضهما البعض، “وهما لا يخجلان” (تكوين 2، 25). كانا ينظران لبعضهما البعض وجهاً لوجه دون أن يحمرا خجلاً من فكرة غير لائقة تتعلق بهما، وكان باستطاعتهما أن ينظرا إلى الله وجهاً لوجه.
ليس إلا بعد تمردهما على الله حتى عرف الرجل والمرأة العار. إن هذا الوضع يسود في عالمنا اليوم أيضاً بسبب نوايا البشر السيئة وتصرفاتهم الظالمة على مر القرون. لم يعد الناس حقاً ينظرون لبعضهم البعض وجهاً لوجه وبات ظل الشر يحوم في معظم الضمائر. قليلون هم، على سبيل المثال، الذين ينجحون في مقاومة إغراء المال، المجد، السلطة، أو في رؤية جسد عار دون أن تصبح لديهم رغبات منحرفة، غير متوازنة أو مكبوتة. لكن في البدء لم يكن الأمر على هذا النحو: كان الرجل والمرأة ينظران لبعضهما بحب حقيقي، عميق ونقي. كانا طاهرين، “عريانين” من كل خطيئة ومرتديين ثياب نعمة الله، يعيشان بشكل دائم مع الخالق.
بما أن الله قد خلق الإنسان في البراءة، كيف دخل الشر إلى العالم؟ هذا ما سيكشفه لنا الفصل الثالث من كتاب التكوين. إقرأه قبل متابعة هذا الدرس، لتتمكن بالتالي من فهم التفسير الذي سيتبع. لكن قبل ذلك، عليك أن تدرك الفرح الذي شعرتَ به من خلال فهمك لما تعلّمته. هل شعرت برئتي روحك تتمددان وتتنفسان أكسجين الفرح الروحي باكتشاف الحقيقة حول مسائل كتابية كانت غامضة بالنسبة لك؟
تمرد الإنسان على الله (تكوين 3)
من خلال هذه القصة الرمزية التي أتيت على قراءتها، يعلمنا كتاب التكوين كيف دخل الشر إلى العالم: لقد اقترف الإنسان غلطة تصديق الشيطان، بدلاً من العمل بنصائح الله. هنا، الحيّة ترمز إلى الشيطان الماكر. الإنسان إذاً هو نفسه من أدخل الشر إلى العالم. وهو في الواقع المسؤول الوحيد. فضّل تصديق الشيطان وتجاهل نصيحة الله النزيهة. بسقوطه في شرك وجهات نظر هذا العدو، أصبح الإنسان عبداً للشيطان. فعجّل بنشر الأفكار الضارة والرغبات الشيطانية في قلوب الأجيال اللاحقة. فحصل الشيطان، من بعد أتباعه، على رعاعٍ على الأرض لإبعاد البشرية عن الله. إن قصة الخلاص بكاملها تشتمل على تطهير الإنسان من خلال إعادة بث أفكار الله فيه، وتحريره بالتالي من التأثير الشيطاني. الإنسان المحرر من الشيطان سيتمكن من أن يطلب بحرارة من الله: “فلتكن مشيئتك…” لا مشيئتي أبداً.
لقد تقرّب الشيطان من المرأة، لا من الرجل، لأن هذا الأخير، الذي كان قد تكلم مع الله، كان من الصعب إغراءه. لاحظ الحيلة التي استعملتها الحية الشيطانية مع المرأة. كي تتأكد من عدم تعرضها للرفض من قبل المرأة، استهلت الحية كلامها بأسلوب ماكر بطرحها سؤالاً بسيطاً، إنما بطريقة محرّفة للنصيحة الإلهية: “أحقاً قال الله: لا تأكلا من جميع شجر الجنة؟”. هذه الطريقة بعرض المشكلة كانت تخفي بذور التمرد على الله. كان إبليس يريد دفع المرأة إلى العصيان بجعلها تعتقد أنه لا يجب عليها أن تأكل من “جميع الشجر”. قبل التدخل الشيطاني، كان الزوج البشري راضياً بقدره.
ثم أوضحت المرأة للشيطان: “من ثمر الشجر نأكل، وأمّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا”. كان الشيطان يعرف ذلك! لكن الحديث كان قد فُتح، وهذا ما كان يهمّه. كان ذلك أول انتصار شيطاني على البشرية. فأصبح بإمكانه، بعد أن كسب أذن أم البشر، متابعة الحديث الداخلي القديم العهد مع البشرية بأكملها. واصل بجرأة حديثه مع المسكينة الغافلة: “لن تموتا، ولكن الله يعرف أنكما يوم تأكلان من ثمر تلك الشجرة تنفتح أعينكما وتصيران مثل الله تعرفان الخير والشر”. أغريت المرأة بفكرة أن تكون مستقلة مثل الله، أن تقرر بنفسها ما هو خير وما هو شر.
الأسوء في كل ذلك هو أن الشيطان أعطى فكرة سيئة عن الله، فكرة أنه طاغية يغار على سلطته، طمّاع ويريد أن يعيق تطور الإنسان بمنعه من التغذي من شجرة المعرفة. بينما العكس هو الصحيح: فقد نصح الله الإنسان أن لا يأكل منها لئلا يموت، بل أن يكون خالداً مثل الله: حياً وسعيداً إلى الأبد. لأن موت الإنسان يعود إلى التمييز الخاطئ بين الخير والشر. كي نصير “مثل الله”، علينا أن نفكر “مثله”، أن نمييز مثله. هذا هو الروح القدس الذي قال لنا يسوع أن نطلبه من الله (لوقا 11، 13). هذا الروح يهب الحياة الأبدية و، من خلاله، نصير مثل الله، خالدين.
كيف كان على المراة أن تتصرف أمام مقدّمات الشيطان؟ بلامبالاة! إنها أعظم الاحتقار. كان عليها، على الأقل، أن تكون فطنة وتسأل عن هوية مخاطبها: “من أنت؟”. هي التي على صورة الله، كان عليها أن تقارن هذه الصورة بالصورة التي كانت تخاطبها. ذلك كان موقف مريم العذراء، من الناصرة، أمام الملاك جبرائيل: “فاضطربت مريم لكلام الملاك وقالت في نفسها: ما معنى هذه التحية؟” (لوقا 1، 29). لو تساءلت “حواء” عن معنى كلام مخاطبها الخبيث، لكانت أربكت الحية الملعونة. فالشيطان كان يعرف جيداً أن الله لم يحظر على الإنسان الأكل من جميع أشجار الجنة؛ المرأة أيضاً كانت تعرف ذلك؛ وكان عليها التدرع بالحكمة لإرباك الشيطان. لكن التكبر أعماها: أن تصير مثل الله. بأي حال، إن الله نفسه يريد أن يجعلنا “مثله”. لا نستطيع أن نصير مثله إلا من خلاله. أراد الإنسان أن يصير مثل الله من دون الله. هنا تكمن غلطة الإنسان.
خضعت المرأة وجرّت زوجها في احتدادها على الله. بعد أن “أكلا” من الثمر المحرم، فُتحت أعينهما، تماماً كما قال الشيطان للمرأة، إنما ليكتشفا سخافة الحالة التي وضعا نفسيهما فيها طوعاً. لقد شعرا بالعار من جراء غلطتهما مدركين أنهما لن يشاهدا الوجه المحيي لله بعد ذلك، بل الوجه البشع لمضللهما الشيطاني. على هذا المشهد الموئس فُتحت أعينهما مدركين أنهما قد تعرضا للخداع. جاء يسوع ليعيد فتح أعين المؤمنين به على وجه الله المحيي: “هنيئاً لأنقياء القلوب لأنهم يشاهدون الله” (متى 5، 8).
شكلت هذه التجربة صدمة للثنائي البشري الأول. لم يعد أي شيء كما كان، كل شيء تغير بينهما والله من جهة، وبين بعضهما البعض من جهة أخرى. لم يعودا يجرؤان على النظر إليه وجهاً لوجه، ولا حتى على النظر إلى بعضهما البعض. أدركا أن سعادتهما كانت بنعمة إلهية، وأنهما قد خسراها. شعرا عندئذٍ أنهما عريانان، محرومان من نعمة الشعاع الإلهي. أراد الإنسان تجربة الشر، فذاق مرارة الشر. هذا الطعم المر للعدم يعود إلى انشقاق النفس التي تقاوم الله عنه، تاركاً إياها في العزلة، فريسة لليأس. لأن الله يعرض نفسه، لكنه لا يفرضها أبداً.
نجح الشيطان بإبعاد الإنسان عن الله. هكذا، كانت التعاسة، البؤس والعار هي “الثمار” التي قطفها الإنسان من “الشجرة” التي لم يكن عليه أن يأكل منها. هذه المشاعر المحبطة هي مصدر العقد البشرية وكل أنواع اختلال التوازن: الشعور بالذنب، الدونية، التواضع الزائف، إلخ… غالباً ما يحاول الإنسان النهوض، إنما ليقع في الطرف النقيض: الوقاحة، التكبر والغرور، الفجور، إلخ… لا يستطيع الإنسان أن ينهض من دون الله.
يُعرف سقوط الزوج البشري الأول بـ “الخطيئة الأصلية”. لم تقتصر تبعاته على آدم وحواء، بل لطّخت نسلهما أيضاً. لقد ورثنا جميعاً وصمة هذه الخطيئة الأصلية، تماماً كما يقاسي الولد تبعات خلل عائلي أو اجتماعي.
العار كان يخنق الرجل والمرأة إلى درجة أنهما لم يقدرا على تحمل عورتهما. أوراق التين إذاً التي صنعا منها مئزراً ليسترا عورتهما هي رمزية: إخفاء الخطيئة التي ارتكبوها روحياً من خلال ستر الجسد. والحال هو أن الغلطة قد حصلت على مستوى النفس. الكتاب المقدس غالباً ما يستعمل عبارة “كشف العورة” لكشف النوايا الحقيقية للنفس، لإدانة الجرائم والأخطاء (مراجعة إرميا 13، 26 / مراثي إرميا / ناحوم 3، 5 / كورنثوس الثانية 5، 1 – 5). الرجل والمرأة لم يريدان أن يراهما الله بحالتهما البائسة، فسترا جسديهما. للمرة الأولى، خافا من مواجهته تعالى. عندما اقترب الله منهما، وضميرهما ملطخ، حوّلا عيون نفسيهما، مثل كل المذنبين عندما يشعرون أنهم انكشفوا. آدم وحواء اختبأا عندما سمعا الله يقترب، بدلاً من أن يهرعا إليه بعفوية. هذا الهرب من وجه الله قد وسم البشرية: الإنسان يخاف الله، يتجنب نظره ويبتعد عنه. هذا هو ميراث الخطيئة الأصلية.
لاحظ أنه لا الرجل ولا المرأة قد طلبا الغفران. الرجل يرمي باللوم على المرأة و، بطريقة غير مباشرة، على الله لأنه أعطاه إياها: “المرأة التي أعطيتني لتكون معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت”. وكأنه يلوم الله لأنه أعطاه الرفيقة التي كانت بهجته من قبل. المرأة، بدورها، تضع المسؤولية على الشيطان. كم كان رائعاً لو أن الرجل والمرأة طلبا سوياً الغفران من الذي ما لبثا أن أهاناه: “الاعتراف بالخطأ فضيلة”، كما يقال. لكن الإنسان يفضل، في معظم الأحيان، تبرئة نفسه وإلقاء المسؤولية على الغير.
آدم وحواء… هما نحن أيضاً! كيف يمكن إصلاح الخطأ؟ من يهتم؟ عندما نخطئ، علينا أن نعتذر. كم من الناس يطلبون المغفرة من الله من كل قلبهم، لا من رؤوس شفاههم؟
ماذا كانت بالتحديد طبيعة الخطيئة البشرية الأولى؟ كثير من المعلقين والمفسرين قد حاولوا فهمها. أعتقد، مثل بعض المفسرين، أنها كانت محاولة بشرية لاغتصاب السيادة الإلهية: خلع الله والاستيلاء على عرشه، الاكتفاء الذاتي واتخاذ القرار بأمور الحياة من دون الله، أن يختار الإنسان بنفسه ما هو خير وما هو شر، مقرراً وحده ما يجعله سعيداً أو تعيساً. سقوط الإنسان فتح له عينيه: فأدرك أنه من دون الله لا يمكنه أن يحظى بكمال السعادة. شعر بالعار. يسوع أتى ليعيد لنا الله، ليضعنا من جديد في حضرته المحيية. لهذا السبب دعاه الأنبياء الذين بشروا بمجيئه “عمانوئيل” الذي عني بالعبرية “الله معنا” (أشعيا 7، 14 / متى 1، 22). يسوع يعيد الإنسان إلى الله. ليس هناك من طريق آخر (يوحنا 14، 6)؛ الغفران الإلهي يُكتسب بالإيمان بيسوع (يوحنا الأولى 2، 12 / كولوسي 2، 13).
يظن البعض أن الخطيئة الأصلية كانت ذات طابع جنسي. لا يبدو الأمر كذلك بما أن الله قد طلب من آدم وحواء أن يكثرا ويملأا الأرض (تكوين 1، 28). مع ذلك، لو أن هذه الخطيئة قد أخذت شكل تصرف جنسي، فلأن هذا التصرف قد تم من دون الله أو بروح تحد لله، روح شهوانية صرفة، على مستوى الغريزة واللذة الجسدية فقط (كما يفعل كثيرون في عالم الإباحية)، مع استثناء مشاعر الحب العميق والاتحاد الروحي للزوجان بالله.
كان هذا سيفسر لماذا، بعد الخطيئة، يقول الله للمرأة: “إلى زوجك يكون اشتياقك (رغبة جنسية)…” (تكوين 3، 16). بعد الخطيئة، لن يكون القلب هو الذي سينظم العلاقات بين الرجل والمرأة، بل الرغبة الجنسية: ومنذئذٍ “يسود” الرجل على المرأة، كما نلاحظ في عدة مجتمعات منذ الأزمنة الغابرة. فُقد الانسجام بين الزوجين تاركاً المكان لعدم توازن متزايد يُصعب تذليله. نلاحظ هذا الاختلال الذي يؤدي إلى الطلاق، إلى تعدد الزوجات، إلى الزنى، وإلى حالات تكون مأساوية في أغلب الأحيان في عائلات العالم أجمع. هذه هي ثمرة روح الشيطان الذي أدخله الأنسان في قلب البشرية بالخطيئة الأصلية.
علينا أن لا نظن أن والدينا الأولين هما وحدهما مسؤولان عن هذا الخطأ المأساوي: مليارات البشر بعدهما، حتى يومنا، يستمرون بمفاقمة الوضع، معلنين بذلك تضامنهم مع خطيئة الزوجين الأولين، دون التفكير بأخذ العبرة من الماضي. أيضاً، ملايين البشر يقاومون روح الله مفضلين روحهم أو روح الحية القديمة التي ضللت الإنسان الأول.
الإنسان العصري، المنبهر بالعلم المزيف والمنفوخ بالكبرياء، يصر على الاعتقاد أنه قادر على الاستغناء عن الله؛ يريد أن يحكم وفقاً لرأسه الصغير بما هو خير وبما هو شر له. هكذا وصلت البشرية إلى التلوث المادي والخطر النووي اللذان يشكلان تهديداً حتى على وجود الإنسان. التلوث الروحي هو أيضاً أشد خطراً وينجم عن إهمال الإنسان لإرشادات السماء ولا يصغي سوى إلى إيحاءات الجحيم. وعندما يكون الإنسان بحالة سيئة، بدلاً من أن يعيد النظر في وضعه، يحقد على الله… الذي كان مع ذلك قد طلب منه أن لا يقوم بما يجعله مريضاً وتعيساً. فكّر بالمدنين على المخدرات ومثليي الجنس الذين أعلنوا حنقهم على الله بعدما أصيبوا بمرض “السيدا”… ذلك يشبه المريض الذي يرفض أخذ الدواء الذي وصفه الطبيب؛ فيتفاقم مرضه ويفجّر غضبه في وجه الطبيب… بدلاً من أن يتحمل مسؤولية قراراته ومصائبه.
لاحظ أن الله لا يلعن سوى الشيطان، لأن هذا الأخير كان يعلم جيداً ماذا كان يفعل. لكن الرجل والمرأة لم يكونا مدركين تماماً لخطورة وتبعات عملهما. أيضاً، هل يلمح الله أمل افتداء في المستقبل من خلال إعلانه أن نسل المرأة سيأخذون بالثأر وينتصرون يوماً ما على نسل الشيطان. فقد قال الله للحيّة: “أنت ملعونة من بين جميع البهائم… بينك وبين المرأة أقيم عداوة، وبين نسلك ونسلها. فهو يترقب منك الرأس، وأنت تترقبين منه العقب” (تكوين 3، 15). هذه الآية هي بمثابة إعلان أول عن مجيء نسل بشري، المسيح الذي سيخلّص البشر من السجن النفسي والروحي الذي طرحتهم به الشياطين. المرأة ونسلها اللذان سيسحقان رأس الشيطان هم العذراء مريم وابنها يسوع مع كل خاصته، البشر الصالحين في العالم أجمع.
في رحمته اللامتناهية، يهب الله الإنسان فرصة استعادة نفسه، إصلاح غلطته. يُرمز إلى ذلك بالثياب الجلدية التي ستر بها الله عورة الإنسان. آدم وحواء أرادا ستر عارهما بـ “ورق التين” (تكوين 3، 7). هذه الثياب ليست متينة. أيضاً الله، كأب صالح، صنع الله لهما “ثياباً من جلد وكساهما” ليعبّر عن تعاطفه ويشجع الإنسان على البحث عن طريق للخروج من مأزقه. ذلك يسمح للذين يحبون الله أن يهتدوا إلى طريق العودة إليه، عارفين أنه متفهم، أنه سيساعدهم على التجدد على صورته التي أفسدتها الخطيئة (رومة 5، 12 – 16 / كولوسي 3، 10). لأن لخطيئة تدمّر فينا صورة الله. من خلال الخطيئة شكّل الشيطان البشرية على صورته. فجاء يسوع ليعيد للإنسان صورة الله.
بعد السقوط، “سمّى آدم امرأته حواء لأنها أم كل حي” (تكوين 3، 20). هذا الاسم الجديد حواء يدل على حالة جديدة: لم يعد موقع المرأة نسبة للرجل، بل نسبة لرسالتها الكبيرة: إعطاء الحياة للبشرية. لأن حواء، بالعبرية هي “هافا”، التي تعني “الحياة”. لاحظ أن اسم الرجل “آدم” ليس مذكوراً. سمّي آدم فيما بعد نسبة إلى أصله، لأن “آدما” بالعبرية تعني “تراب”، “صلصال” أو ” طين” الذي منه خلق الله الإنسان. من حيث اسمه “آدم” الذي يُترجم إذاً “ترابي”، “صلصالي” أو “طيني” نسبة إلى أصله. يُذكر اسم آدم للمرة الأولى في التكوين 4، 25.
بعد السقوط، تغير موقف الله من الإنسان: بلذعة من التهكم، يقول الله عن خليقته: “صار آدم كواحد منا يعرف الخير والشر”. استحق الإنسان هذه السخرية. استحق أيضاً أن يستبعد من الجنة قبل أن يقترف حماقة أخرى: “والآن لعله يمد يده إلى شجرة الحياة أيضاً فيأخذ منها ويأكل، فيحيا إلى الأبد…” (تكوين 3، 22). سخرية أخرى مهينة استحقها. لأن الإنسان كان يريد أن يحيا إلى الأبد… مثل الله… دون أن يموت، إنما على الأرض، ودون أن يكون عليه أن يمثل أمام الديان السرمدي. أليست هذه رغبة كثير من الناس الذين يسعون وراء أمصال طول العمر؟ ومن خلال وسائل أكثر سخافة: شركات تحنّط أجساد الزبائن المهتمين وتحفظها في ثلاجات خاصة لقاء أثمان باهظة بانتظار اكتشاف الدواء “العجيب” الذي يعيد إلى الحياة الجسدية، لحقنه في الجثة و “إحياء” الزبون… الذي ستغمره البهجة لاستعادة الحياة في هذه الدنيا… يجب على شركات “الإحياء” هذه أن تكون هي أيضاً ما زالت على قيد الحياة…!
ماذا يعني أن يُطرد الإنسان من الجنة؟ هل أن يُنفى من مكان أرضي؟ لا، ليس هذا هو المقصود: الجنة التي نتكلم عنها هي حالة الروح: النعيم. كان الإنسان في منتهى السعادة قبل أن يقرر تحمل مسؤولية نفسه، قبل أن “يتحرر” من الله. لقد أعطى الخالق كل شيء للإنسان، مجاناً. فهذا الأخير لم يكن يعوزه شيء، لا على الصعيدين الروحي والنفساني كونه كان مغموراً بمحبة خالقه، ولا على الصعيد المادي كونه كان مغموراً بخيرات الأرض. كانت الحياة من دون هموم على جميع الأصعدة. الذي يجعل الحياة صعبة، لا بل مستحيلة في بعض الأحيان، هو الأنظمة الإقتصادية التي أدخلها أناس طمّاعين طامعين بالهيمنة، هو الأنماط الحياتية المؤذية (حياة دنيوية مكلفة، مشروبات كحولية، سيجار، سجائر، ألعاب الميسر، كازينوهات، ثياب من تصميم مشاهير الخياطين إلخ…). غير أن الأرض تنتج بهدوء واستمرار للجميع. المحصول وافر إلى درجة أن بعض البلدان الغنية تملك فائضاً يُتلف للحفاظ على الأسعار مرتفعة، بدلاً من أن يوزع على بلدان العالم الثالث الذي يموت من الجوع. المجموعات الصناعية والشركات الاستهلاكية لم تجعل الإنسان سعيداً: إنها البطالة، التضخم، عدم الرضى في العالم. القسم الكبير من الاقتصاد العالمي مكرس للأسلحة المخصصة للدمار… والأرض التي خلقها الله تستمر بإعطاء الإنسان أفضل ما عندها… والإنسان ينصبّ على جعل الأرض أقل قابلية للسكن وأقل قدرة على إطعامه، بعد أن لوّثها بالنفايات الضارة (كالنووية وغيرها) الذي أشبعها بها.
الإنسان يعاند دائماً على عيش حياتــه كما يريد، من دون الله. والنتيجة؟ الأثرياء عندهم كل ما يمكن للمال أن يشتريه، لكنهم مع ذلك غير راضين: لأن المال لا يمكنه أن يشتري السعادة وراحة الضمير. بالرغم من البحبوحة التي يعيشون بها، كثير من الأغنياء يفضلون الانتحار على الحياة. ذلك لأن حياتهم خالية من الله. “إستقلال” الإنسان جعل حياته قاسية وكريهة. لذلك قال الله للإنسان إن الأرض ستكون ملعونة “بسببك (بسبب غلطتك). بكدّك تأكل طعامك منها طول أيام حياتك. بعرق جبينك تأكل خبزك (بسبب إدارتك السيئة)” (تكوين 3، 17 – 19). الإنسان يميل دائماً إلى عدم الإصغاء إلى نصائح الخالق، مفضلاً أن يكون محاطاً بمرشدين بشريين أقل فعالية. مع أن الله هو هذا “المشير العجيب” الذي يتكلم عنه إشعيا (إشعيا 9، 5).
هكذا، حُرم الإنسان من السعادة برفضه الينبوع من تلقاء نفسه. منذ ذلك الوقت وهو تائه باحثاً عن بديل للسعادة الحقيقية، معتقداً حيناً أنها موجودة في المال، وحيناً آخر في الملذات والمجد الباطل. يقول النص في كتاب التكوين إن “الرب الإله أخرج آدم من جنة عدن ليفلح الأرض” (تكوين 3، 23). إن طرد الله آدم، فلأن هذا الأخير كان مصراً على أن عيش حياته من دون تدخل من الله؛ فليذهب إذاً ويتعب بفلاحة الأرض، هذه الأرض التي كانت مهيأة لأن تعطيه كل شيء من دون تعب (إقرأ متى 6، 24 – 34). لكن الإنسان فضّل الاستسلام لغمر المادة.
السقوط الأصلي كان له تبعتان مؤسفتان على البشرية بأجمعها:
1. الأولى، الأكثر ضرراًً، هي ذات طابع نفسي وروحي:
روح الإنسان ونفسه سقطتا في الجسد، وأصبحتا خاضعتين للجسد، فاقدتين للحس، وكأنهما تحت تأثير البنج. الصدمة التي تعرضا لها جعلتهما يفقدان الوعي بكل ما للكلمة من معنى. بالتالي خسر الإنسان قواه الروحية والنفسية، وأصبح هشاً ضعيفاً، غير قادر على التكيف من الداخل. هذا السقوط يؤدي إلى تيهان القلب والفكر، فيستولي القلق على النفس البشرية. شعراء، فلاسفة ومفكرون، على مر العصور، حاولوا عبثاً فهم وتحليل أسباب الخوف البشري. وحده الوحي الإلهي سينيرنا.
عصيان الإنسان أدخل الشيطان في لاوعي البشرية أجمع. حصل الشيطان على حق الإقامة والتدخل بإرادة الإنسان وأصبح يتكلم باسمه. يتنكر، مغتصباً هوية الإنسان. هكذا، عندما نقول “أنا” أو “أنا أريد”، نحن بحاجة لأن نميّز المتكلم. من هو هذا الـ “أنا”، من يتكلم فينا؟ من الذي يرغب؟ الله، الشيطان، أو نحن أنفسنا؟ هنا يكمن أساس التمييز. يأتي المسيح “ليعيد ربطنا” بالله ويحررنا من التشويش الشيطاني. لهذا يقول لأعدائه: “أنتم أولاد أبيكم إبليس، وتريدون أن تتبعوا رغبات أبيكم” (يوحنا 8، 44). لم يكونوا مدركين لذلك، غير أنهم كانوا موافقين. علينا دائماً أن نتأكد من أن ما نرغبه يتوافق مع مشيئة الله، مع مخططه لتحرير البشرية.
بسقوطه الكلي بالجسد، لم يكن باستطاعة الإنسان اكتشاف حياة النفس إلا انطلاقاً من الأحاسيس الجسدية، بما أن التفكير والأحاسيس كانوا محبوسين في الجسد. منذئذٍ والإنسان يعيش بطريقة مبتذلة، غير قادر على أن يستعيد بنفسه، وفي ذاته، حياة النفس التي لم يعد يذكر منها سوى حنين غامض.
بالرغم من ذلك، يمد الله يده للإنسان من خلال يسوع. من يمسك بهذه اليد الإلهية يرى نفسه ترتفع إلى غايتها الأصلية. هذه العودة للنفس إلى الحياة يدعوها الإنجيل “القيامة الأولى” (رؤيا 20، 5 – 6 / يوحنا 5، 25 – 26).
2. التبعة الثانية هي ذات طابع مادي وزمني:
حياة الإنسان على الأرض أصبحت أصعب بسبب خطيئة الإنسان نفسه.
كل رواية الخلاص البشري تهدف إلى إخراج الإنسان من الورطة التي أغرق نفسه فيها بملء إرادته. كان بحاجة إلى كل محبة وعبقرية الله، خالقه الحنون، لإخراجه من ضلاله من خلال رسوله: يسوع.
العبرة من هذه القصة هي أنه لا يجب التحاور مع الإغراء: لا نتحاور مع الشيطان، كما لا نلعب بالنار. علينا أن لا نفعل كما فعلت حواء التي تأخرت في النظر ملياً بالمحظور، فنعتبره حسن في حين أن الله قال إنه يجلب الموت. علينا أن نصدّق الله، حتى لو “ظهر” الشر بمظهر الخير بنظرنا. فلتعيننا خطيئة حواء على كشف الموت الذي يتجلى لنا بشكل يحاول إغواءنا. لنفعل مثل مريم، هذه الفتاة الشابة ذات القلب الطاهر التي استحقت أن تكون والدة المسيح، مخلص البشر. التي لم تقبل أبداً أن تصغي إلى صوت “الحية” الشيطانية المضلل، بل تجاهلته بكل بساطة، دون أن تكون عيناها وأذناها إلاّ لله تعالى، لتحقيق مشيئته هو. لهذا السبب دُعيت “حواء الجديدة”، أم الأحياء الجديدة، أي أم المؤمنين، هي التي يسحق أولادها رأس الشيطان (تكوين 3، 15).
لقد أسهبت في شرح الفصول الثلاثة الأولى من كتاب التكوين كي أغرس فيك الروح الذي يمكنّك من فهم الكتاب المقدس وفقاً لمقصود الله. حذار من فهم الروايات التي قرأتها عن الخلق والسقوط حرفياً. بل إبحث عن المعنى الروحي العميق من خلال الرموز، دون التقيد بالمعنى الحرفي الذي يغلق أفق البحث والفهم. الكون لم يُخلق في ستة أيام، ولا الشمس في اليوم الرابع؛ الحية لم تظهر عملياً لحواء: هذه الحية ترمز إلى الأفكار التي يوحي بها الشيطان للإنسان بشكل عام وليس بالضرورة للمرأة بشكل خاص، بوسائل خبيثة وملتوية مثل الحية، ليغويه من دون أن يتم كشفه.
من جهة أخرى، يمكننا أن نؤمن بنظرية التطور دون أن نتوقف عن الإيمان بالله. في هذه الحالة، لكان الله خلق بطريقة قابلة للتطور. لا يوجد أي قاعدة علمية تدعم الذين يزعمون أن التطور يدل على عدم وجود الله: إن كان هناك تطوّر، فهناك إذاً “الذي” يطوّر: الله. إنه هو “مبرمِج” هذا التطور، كما ينمو (يتطور) الجنين من بذرة بالغة الصغر، ليبلغ نموه البشري الكامل. الذين يؤمنون بالنظرية الثباتية (أي أن الله خلق الإنسان كما هو، دون أن يكون قد تطور من درجة حيوانية أدنى) وأنصار التطور يتفقون بالتالي على نقطة الكتاب المقدس الأساسية: الله هو الخالق الأوحد. يبقى للعلم أن يحدد طريقة الخلق!…
إقرأ الآن الفصل 4 من كتاب التكوين قبل متابعة هذا الدرس.
قايين وهابيل: الإنسان يقتل أخيه الإنسان (تكوين 4)
لقد انتهيتَ من قرأة قصة رمزية تكشف كيف انتشر الشر في العالم بين الإنسان والإنسان، أخيه، بعد أن اقترفه الإنسان ضد الله، “أبيه”.
هذه القصة، كالقصص التي سبقتها، هي قصة رمزية لا يجب أن نفهمها حرفياً، كونها لم تحصل بالفعل. لأنه لم يكن يوجد على الأرض سوى آدم وحواء وولديهما؛ من يكون إذاً هذا الذي كان قايين يخاف من أن يقتله (تكوين 4، 15)؟ المقصود إذاً هي الأجيال واسما قايين وهابيل هما رمزيان،لا يمتان بصلة إلى أي حقيقة تاريخية. ففي كل يوم يقتل قايين أخيه هابيل.
لماذا رفض الله تقدمة قايين ورضي عن تقدمة هابيل؟ هناك تعليم يريد الكتاب المقدس أن ينقله إلينا. كثير من الناس يتوقفون على السياق التاريخي لهذه الرواية، دون أن يحاولوا اكتشاف مغذاها الأخلاقي.
كي نفهم هذا النص، علينا أن نقرأ بين السطور. لاحظ أن قايين قدّم “تقدمة من ثمر الأرض” (…لا يهم أي ثمر… لكنه بالأحرى الثمر الرديء كي يتخلص منه… وليتمم هذا الفرض الثقيل أي أن يقدم شيئاً للرب). بالمقابل، “قدم هابيل من أبكار غنمه (من أفضل ما عنده) ومن سمانها (الدهن الثمين الذي يستعمل للطبخ… لكن بالنسبة لهابيل لا شيء أطيب من أن يقدم لله)”. هذا يعني أن قايين قدّم تقدمته مرغماً، بجشع وإكراه، من دون محبة. أمّا هابيل، بالمقابل، فقد قدّم أفضل ما عنده بعفوية ومن كل قلبه. نتيجة لذلك يمكننا أن نفهم موقف الله. نحن نتصرف بنفس الطريقة وغالباً ما نرفض، نحن أيضاً، هدية من أناس سيئي النية.
إنّ رفض هدية من أحد ما، هو بمثابة رفض للشخص الذي يقدمها. يجب أن تكون هناك أسباب وجيهة لمثل هذا التصرف. أمام رفض الله، كان على قايين أن يدرك مدى تقصيره، بإيلاء الاعتبار لكرامة الذي إليه أراد أن يقدم هذه الهدايا المنقوصة. كان عليه أن يستجمع نفسه، أن يعتذر، ثم يستعيد شرفه بتقديم قربان مقبول عن طيب قلب.
يقول الله للكهنة اليهود على لسان النبي ملاخي: “تقولون تعبنا من هذا كله، وتتأففون علي. تجيئون بالمغتصَب والأعرج والسقيم وتقربونه تقدمة لي. أفأرضى بهذا من أيديكم. أنا الرب؟ “(ملاخي 1، 13 – 14).
النبي عاموس يقول أيضاً لليهود من قبل الله: “إذا أصعدتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى بها” (عاموس 5، 22)، ثم يضيف أن التقدمة التي يرضى بها الله هي ممارسة العدل والصدق (عاموس 5، 24). لأن هذه القرابين كانت تقدم بروح قايين لذلك رفضها الله.
كل ما يُعطى دون محبة ليس له أي قيمة بالنسبة لله. لقد أثنى يسوع على المرأة الفقيرة التي وضعت درهمين فقط في صندوق الهيكل قائلاً إنها ألقت أكثر مما ألقاه الأغنياء، كونها أعطت من قلبها ومن حاجتها، لا من الفائض عنها (لوقا 21، 1 – 4). بنفس هذا الروح يقول بولس إن المرء لو فرّق جميع أمواله ولا محبة عنده فلا ينفعه شيء (كورنثوس الأولى 13، 3).
بعد أن رأى قايين أنه تعرض للنبذ، هاجم أخيه بدلاً من إبداء ندمه. تفاقمت حاله، وأكلته الغيرة والحسد إلى درجة قتل أخيه الوحيد. وعندما سأله الله عن أخيه، أجابه: “لا أعرف، أحارس أنا لأخي؟” بعيداً عن كونه حارسه، أصبح جلاده! لعن الله قايين أيضاً بسبب جريمته وإصراره على الذنب وتطاوله.
لعنة قايين هي اللعنة الثانية التي يأتي على ذكرها كتاب التكوين. اللعنة الإلهية الأولى وقعت على الشيطان. هكذا يرمز قايين إلى نسل وصورة الشيطان على الأرض. هذا النسل الملعون سيكون أداة إبليس على مر القرون. أولاد المرأة، “حواء الجديدة”، مدعوون من الله لقتال والانتصار على هذا النسل الشيطاني (رؤيا 12، 17).
ماذا تعني العلامة التي وضعها الله على قايين كي لا يقتله أحد؟ إنها علامة رمزية وتمثل العنف الذي دمغ وجه هذا القاتل إلى الأبد. جبينه المقطب، وجهه المتجهم، ونظرته الشريرة، يعكسون الكراهية المتجذرة في نفسه. ليس قايين إذاً هو الذي عليه أن يخاف من أن يقتله أحد، بل على العكس، سيكون على كل إنسان أن يخشى هذا المجرم، أقله من مظهره.
إنهم قايين وأشباهه الذين يخيفون البشر، لأنه إن تعرّض قايين ما للقتل، سيثأر له “7” قايين آخرين. قايين، الذي طرده الله، يتردد في الابتعاد بحجة تعرضه للقتل. كان يرغب بالبقاء قريباً من الله، لا ليتوب ويغير حياته، بل ليكون في مأمن… ويستمر بفعل الشر. فيقول له الله ما معناه: “إذهب، أخرج من هنا: لست أنت، أيها المجرم، من يجب أن يخاف من الآخرين؛ أنت بالأحرى من يزرع الخوف في 7 آخرين”، أي في كثيرين (تكوين 4، 15). الرقم 7 هو رمزي: يشير إلى الكمال؛ قال يسوع لبطرس أن يسامح 77 مرة 7 مرات من يتوب بصدق، أي أن يسامح إلى ما لا نهاية (متى 18، 21).
ينتهي الأمر بقايين بـ “الخروج من أمام الرب والإقامة بأرض نود” (تكوين 4، 16). هذه الأرض هي رمزية: نود تعني “تيهان” بالعبرية وترمز إلى هلاك النفس. ليست إذاً مكاناً جغرافياً، بل حالة نفسية تعيسة، أسوء من الحالة التي نتجت عن الخطيئة الأصلية. لأنه لخطيئة من هذا النوع، والتي استوجبت لعنة الله، لا يوجد أمل لتحرير النفس: إنها الخطيئة ضد روح الله التي من غير الممكن غفرانها، بما أنه لا توجد توبة (لوقا 12، 10 / يوحنا الأولى 5، 16 – 17).
من خلال قايين وأشباهه، انتشر الشر وتفاقم في العالم، كون أبناء قايين قد أصبحوا أيضاً أسوأ من أبيهم الذي قتل أخيه. هذا هو معنى قصة لامِك (تكوين 4، 19 – 24). إقرأها من جديد: لامِك يهدد زوجتيه، عادة و صلة، مبدياً طبعه الشرس والبهيمي: لقد قتل رجلاً رغم أنه ما فعل شيئاً سوى أنه جرحه، وفتىً لأنه ضربه؛ لأن “لقايين يُنتقم سبعة أضعاف وأمّا للامِك فسبعة وسبعين…”. بعد قايين، تفاقم العنف، وكان نسله أشد عنفاً من سلفه الذي قتل أخيه. أنت تفهم الآن بصورة أفضل عبارة “يُنتقم سبعة أضعاف”؛ إحفظ أن رمزية الرقم 7 هي الكمال أو الكفاية، كما عندما نقول: “لقد كررت ذلك 100 مرة…”؛ يراد من القول هنا أننا كررنا الموضوع عدداً كافياً من المرات كي يُفهم.
أراد الله أن يعيد الخير على الأرض فيعطي لآدم وحواء ابناً آخر: “وعاش آدم مئة وثلاثين سنة، وولد ولداً على مثاله كصورته” (تكوين 5، 1 – 3). هذا الابن الجديد هو أب البشر الذين سيحاربون الشر الذي نشره قايين ونسله.
لاحظ أن هذا الإبن الجديد، الذي دُعي شيت، هو على صورة آدم، لا على صورة الله، التي تشوهت في آدم بسبب غلطته. إنها صورة مشوهة، إلا أنها لم تُتلف كلياً وبشكل نهائي، كما كان الحال مع قايين ولامك. إن إعادة تجديد الصورة الإلهية ممكنة إذاً في حالة شيت وأمثاله. هذه “الجراحة التجميلية” الروحية تهدف إلى إعادة تشكيل الناحية الأخلاقية للإنسان على صورة الله. المثال على ذلك وجه يسوع المنير الذي بدوره يعطينا النموذج الأصلي للوجه الذي يرضي الله، وجه أمه مريم. أسلمت مريم أمرها للمشيئة الإلهية، وأجابت الملاك جبرائيل الذي بشّرها بولادة يسوع: “أنا خادمة الرب: فليكن لي كما تقول” (لوقا 1، 38). فلتساعدنا مريم على استعادة صورة الله كي نتطور نحو الكمال البشري الذي يتمثل أوجُهُ بمشابهة الله.
كذلك أيضاً، بعد خطيئة آدم، يلد الناس أولادهم على صورتهم، لا على صورة الله التي كانت كاملة بآدم قبل سقوطه. هذا هو الميراث الحزين للخطيئة الأصلية: صورة إلهية ضبابية، كأنها ضائعة المعالم وفقاً للحالة، لكن يمكن استعادتها بشروط محددة. هنا تكمن مسؤولية الأهل. أي صورة عن الله يعطيها الأهل لأولادهم؟ أي فكرة يكونون هم أنفسهم عن الله؟ هل هم مهتمون على الأقل بمعرفة الله، باكتشاف “اسمه” الحقيقي، ما هو حقاً، كي يكشفوه لنسلهم؟ هل يريدون أن يكونوا أهلاً صالحين بمساعدة أولادهم على التطور أو إمّا بجعلهم يتوقفون على صورتهم هم المشوهة؟ كثير من الأسئلة يدعونا هذا النص إلى طرحها على أنفسنا في برنامج التحرر من الحالة وإدراك الذات الذي باشرنا به في بداية هذا المسار الروحي. الصلاة التي علّمها يسوع: “أبانا ليتقدس اسمك”، تأخذ كل أهميتها وتعني: “أبانا لنعرفن وجهك الحقيقي كي نعكسه”.
سمّت حواء ابنها الجديد شيت (بالعبرية “شاة” يعني “عوض”). سمّته كذلك لأن الله “عوضها نسلاً آخر عوضاً عن هابيل”. شيت هو على صورة آدم، لا على صورة الله. إحفظ جيداً اسمه لأن كتبة الكتاب المقدس جعلوا منه خلفاً لآدم وسلف “أبناء الله” على الأرض، نسل “المرأة” التي ستسحق رأس الحية الشيطانية (تكوين 3، 15).
إقرأ الفصل 5 من كتاب التكوين وانتبه للجمل التي تتكرر إيقاعياً وعن تعمّد: “فلان (مذكور اسمه) أنجب فلاناً (يُذكر اسمه) وأبناء وبنات (آخرين غير مذكورة أسماؤهم)”. هناك غاية من وراء ذلك: إن الذين مذكورة أسماؤهم يعتبرون أسلاف اليهود. الذين لم تُذكر أسماؤهم هم أسلاف الشعوب الأخرى. تذكّر أن إعطاء إسم هو بمثابة إعطاء قيمة، والامتناع عن التسمية يعني الاحتقار. هذه السلالة الوهمية تهدف إلى فرز البشر إلى فئتين: المختارون الذين أعطوا أسماء والساقطون الذين لا يملكون أسماء.
كان كتبة كتاب التكوين (الكتبة والكهنة اليهود) يظنون أن اليهود وحدهم كانوا على “صورة الله”. اختلقوا هذه الشجرة النَسَبية ليرفعوا من عزة نفس اليهود على حساب الوثنيين (الغوييم) في ذلك الوقت. إنها إذاً لا تمت بأي صلة لأي حقيقة تاريخية.
يعتبر اليهود أنفسهم “أبناء الله” الوحيدين على الأرض، متحدرين من شيت وسلالته التي تحمل اسماً. يقدمون أنفسهم على أنهم “الشعب المختار”. وفقاً لهم، “الأبناء والبنات الآخرون” من سلالة شيت، الذين لا يحملون أسماء، لا يحملون صورة الله، كونهم ليسوا على صورة شيت ونسله الذين يحملون أسماء. لهذا السبب لا يعتبرهم اليهود بشراً، بل “homoïdes”، أدنى درجة من البشر (اليهود)، وأعلى بدرجة من الحيوانات، في مكان ما بين اليهودي (الذي هو بشر) والقرد.
التفسير الروحي لسلسلة النسب هذه هو التالي: إن نسل شيت وسلالتهم “الذين يحملون اسماً” يمثلون جميع البشر العادلين والصالحين من كل الأعراق والشعوب؛ “الأبناء والبنات” الآخرون الذين لا يحملون أسماء يمثلون النسل الشرير والمجرم.
من هذه السلالة المختلقة علينا أن نحفظ اسمين رمزيين: أخنوخ وابنه متوشالح. أخنوخ لأنه لم يمت أبداً، بل “توارى، لأن الله أخذه إليه” دون أن يجعله يعبر بالموت الجسدي بسبب استقامته: فقد “سلك أخنوخ مع الله” كما يقول كتاب التكوين (تكوين 5، 21 – 24). لاحظ عمر أخنوخ: 365 سنة، عدد أيام السنة الشمسية. رجل صالح آخر شارك أخنوخ نفس المصير ولم يعرف الموت: النبي إيليا، الذي رُفع حيّاً إلى السماء. ستقرأ قصته فيما بعد (الملوك الثاني 2، 11 – 13). أخنوخ وإيليا هما وجهان عظيمان تجب معرفتهما: أصبحا رمزين لإيمان حار وشجاع. إن اختطافهما يمكن أن يفهم كحدث رمزي أو واقعي، لكن يجب فوق كل شيء فهم المغذى: المؤمنون الصادقون لا يموتون، كما قال يسوع (يوحنا 8، 51). أما بالنسبة لمتوشالح، فهو الذي، وفقاً لكتاب التكوين، كان الأطول عمراً على الأرض: 969 سنة.
يقودنا ذلك إلى التكلم عن مدة حياة هؤلاء الناس. أهي واقعية أم رمزية؟ قليل من الإثنين في الوقت نفسه. إنها واقعية حتى ولو كان مبالغ فيها لأن الشر والمادية قد تفاقما في العالم، وبات الإنسان أكثر عرضة لأمراض مختلفة وللموت في عز الشباب. من الشائع مثلاً في أيامنا، حيث تفرض الحياة اليومية على البعض عملاً مرهقاً، أن نرى شباباً في مقتبل العمر يصعقون بنوبة قلبية. التدخين والحياة المفرطة النشاط تقصّر العمر. إن إيقاع الحياة العصرية الصاخب مناقض للطبيعة البشرية. كان أجدادنا يعيشون نمطاً من الحياة أكثر هدوءاً. بل أكثر من ذلك، “كانوا يسلكون مع الله”. التعليم الذي علينا أن نستشفه من طول عمر الأجداد الذين كانوا يحملون صورة الله، هو التالي: يجب أن نسلك مع الله لو ابتغينا طول العمر. لذلك ينقل إلينا كتبة الكتاب المقدس أن الله، بعد تكاثر الشر، قرر “أن يقصّر عمر الإنسان على الأرض “فتكون أيامه 120 سنة” (تكوين 6، 3).
إقرأ الآن الفصل 6 من كتاب التكوين، ثم تابع قراءة الدرس.
تكاثر الشر والعقاب بالطوفان (تكوين 6)
وفقاً لتكوين 6، 2 ازداد الشر على الأرض لأن “أبناء اللهرأوا أن بنات الناس حسان، فتزوجوا منهن كل من اختاروا”. من هم “أبناء الله” و “بنات الناس”؟ بالنسبة للكتبة والكهنة اليهود الذين كتبوا هذا النص، اليهود هم وحدهم “أبناء الله” (بالعبرية “بني إلوهيم”)، من نسل إلهي. لقد تم اكتساب هذه الذهنية مع الوقت؛ يعود ذلك إلى أن اليهود، منذ 4000 سنة، كانوا الوحيدين الذين آمنوا بالله الواحد في حين أن باقي البشر كانوا وثنيين، متعددي الآلهة وعبدة أصنام. كان اليهود يعتقدون أنهم سيبقون إلى الأبد “أبناء الله” الوحيدين، مثلما كان الكنعانيون “أبناء بعل”، واليونان “أبناء زوس” والمصريون “أبناء رع”. أربك يسوع اليهود عندما أعلن أن كل الذين سيؤمنون به، من كل عرق وأمّة ولسان، سيصبحون أبناء الله (يوحنا 1، 12).
غلطة اليهود هي أنهم آمنوا بأنهم الوحيدون الجديرون بالله. أرادوا احتكاره، امتلاكه. كأن الله إلههم هم فقط ولم يكن عليه أن يكون لأي شعب آخر. كذلك، عندما أراد رسل يسوع أن يعلّموا الوثنيين، منعهم اليهود من ذلك (تسالونيكي الأولى 2، 16). فثار بولس عليهم قائلاً: “أفيكون الله إله اليهود وحدهم؟ أما هو إلى سائر الأمم أيضاً؟ بلى، هو إله سائر الأمم”! (رومة 3، 29).
بحسب الكتبة والكهنة اليهود، فإن اليهود، كونهم أبناء الله ومن سلالة إلهية، لا يجب عليهم الزواج من غير يهودية؛ سينخفضون بزواجهم من “بنات الناس”. إن الأولاد الذين يأتون من مثل هذا الزواج لا يعتبرون يهوداً، يعتبرون يهوداً فقط الذين يولدون من أم يهودية. لا يجب على “أبناء الله” أن يتزوجوا سوى من “بنات الله”. حتى أنه لا يجب عليهم أيضاً مخالطة غير اليهود خشية من أن يجرّوهم إلى عبادة الأصنام (العدد 25، 1 – 2).
الزواج المختلط كان مداناً بشدة (التثنية 7، 3 – 4 / الملوك الأول 11، 1 – 2 / عزرا 10، 44 / نحميا 10، 31)، غير أن الأمثلة التي يذكرها الكتاب المقدس عنه كثيرة حتى بين الملوك (الملك سليمان (الملوك الأول 11، 1 – 2 / الملك أخاب (الملوك الأول 16، 31). كتاب راعوث يروي قصة راعوث، وهي موآبية غير يهودية تزوجت من يهودي. بعد موته، تزوجت يهودياً آخر “بوعز”، وورد اسمها مع اسم هذا الأخير في سلالة المسيح (متى 1، 5). لقد أربك ذلك العقلية الضيقة والمتعصبة للكتبة الذين اختلقوا قصصاً مصطنعة لتبرير عنصريتهم باسم الله.
لا يجب فهم التكوين 6، 2 حرفياً، بل البحث عن معناه الروحي، وهو أن “أبناء الله” هم الذين يبحثون عن الله، إنهم المؤمنون والبشر الصادقون من العالم أجمع. قال لنا يسوع: “هنيئاً لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون” (متى 5، 9). ذلك يشمل جميع البشر، وليس اليهود وحدهم. لا يجب على “أبناء الله” (رجالاً ونساء) أن ينجذبوا إلى الجسد والجمال الخارجي، بل إلى روح الشخص الذي سيتزوجونه. عليهم أن يتأكدوا أن الشريك أو الشريكة هو اختيار إلهي وأنه سيكون عوناً للارتقاء نحو الله، لا عائقاً أمام ارتفاع النفس. يجب أن يكون هدف الزواج التقرب من الله، لا المصلحة المادية.
إن عبارة “ابن الإنسان” أو “بنو الإنسان” قد فُهمت على نحو محقر ونُسبت إلى غير اليهود. لمقاومة هذا التطرف الوطني، أعطى يسوع لنفسه هذا اللقب (يوحنا 3، 14) مع لقب “ابن الله الأوحد” (يوحنا 3، 18). إنه “ابن الإنسان” الذي أعلن عنه الأنبياء (دنيال 7، 13)، رأس النسل البشري للمرأة التي ستسحق رأس الحية الجهنمية، لكنه أيضاً ابن الله الأوحد والذي “أعطى الذين قبلوه، المؤمنون باسمه، سلطاناً أن يصيروا أبناء الله” (يوحنا 1، 12). بهذه الآية، ينورنا الإنجيل على المعنىالروحي لتكوين 6، 2 باعتبار جميع تلاميذ يسوع هم “أبناء الله”. بهذا المعنى يقول بولس: “فإذا كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم…” (غلاطية 3، 29). السلالة البشرية هي من دون قيمة بالنسبة لله.
عندما رأى الله أن الإنسان يرغب في أن يكون جسدياً أكثر منه روحياً، انتزع الله من هذا المخلوق الطائش روحه المهان. نتيجة لذلك، قصّرت الحياة البشرية إلى 120 سنة. هذا يعني أنه لا يمكننا أن نعيش طويلاً من دون الله. لا يجب فهم هذه الـ 120 سنة عددياً، بما أنه يوجد أناس قديسون لا يعيشون كثيراً، وآخرون يعيشون أكثر، دون أن يهتموا بالله… هؤلاء الأخيرون لن يذوقوا فرح الحياة الأبدية. هذا هو تعليم التكوين 6، 3: العيش حياة طويلة يعني المشاركة بـالحياة الأبدية.
أما بالنسبة إلى الـ “جبابرة” الذين يتكلم عنهم التكوين 6، 4، “رجال تلك الأيام الأشداء”، فهم يمثلون الإنسان قبل انتشار الشر على الأرض: إنها كرامته التي كانت كبيرة. البشر الذين جاءوا بعد أن انتزع الله روحه من البشرية، هم أقزام مقارنة مع أسلافهم.
عظمة هؤلاء الأسلاف “الجبابرة” تعود إلى روح الله الذي كان يلهمهم، واهباً إياهمسمو النفس. إنه روح الله فيهم الذي صنع منهم “الجبابرة الذين ذاع اسمهم من قديم الزمان”، كشيت، أنوش، أخنوخ ومتوشالح، إلخ…
إذاً هذا النص من كتاب التكوين، ككثير من النصوص الأخرى، لا يجب أن يُفهم حرفياً، والاعتقاد بقدرة هؤلاء الجبابرة الجسدية. كما لا يجب مقارنتهم بالأقزام (بالجسد) ولا بعرق الأقزام الذين باستطاعتهم، هم أيضاً، أن يصبحوا أبناء الله وجبابرة روحيين. فقد جاء يسوع ليعيد لتلاميذه من جميع الأعراق روح الله الذي هجر بشرية غير جديرة (تكوين 6، 3). إقرأ يوحنا 14، 16 – 17. نعمة الروح الإلهي هذه مُنحت للمؤمنين الحقيقيين بصرف النظر عن قامتهم الجسدية.
الطوفان (من تكوين 6، 5 إلى تكوين 7، 24)
لقد اكتشف علم الآثار قارة مدفونة تحت المحيط الأطلسي دُعيت “أتلانتيس”. هناك قارة أخرى مدفونة تحت مياه المحيط الهادئ تدعى “مو”. هاتي القارتين انهارتا في هذين المحيطين إثر كارثة أرضية شاملة منذ 25000 سنة. كما تم اكتشاف أثار لحضارة متطورة جداً في كلتا القارتين. هذه الحضارة تعرضت للانقراض. نقل الناجون الخبر إلى الأجيال اللاحقة ما سمح للبشرية بالتالي بالاحتفاظ بذكرها.
من ناحية أخرى، يفيدنا علم الآثار أيضاً عن هذه الكارثة الأرضية، أنه في بعض الروايات البابلية السابقة للكتاب المقدس، يحكى عن طوفان قد دمر البشرية. كُتبت هذه الروايات 2000 سنة ق.م، إذاً 1000 سنة قبل كتابة كتاب التكوين. عندما كتب كتبة الكتاب المقدس قصة الطوفان، لم يفعلوا سوى أنهم نقلوا قصة معروفة منذ قرون تمّت كتابتها من قبل شعوب أخرى.
البابليون كتبوها بالأحرف المسمارية، أي على شكل مسامير. الأبجدية البابلية مكونة من سيقان صغيرة على شكل مسامير موضوعة مع بعضها البعض بطريقة مختلفة لكل حرف من الأبجدية.
يوجد فرق أساسي بين الرواية البابلية والكتابية: الرواية البابلية تقول أن “الآلهة تقرر القضاء على البشرية بسبب زلاتها. إيا (أو “إنكي”، أحد الآلهة البابليين) يحذّر أوتو نبشتم ويصنع له مركباً إلخ…”. قام المؤلفون الكتابيون الرواية بتوحيدها فقالوا: “قرر الرب أن يمحو الإنسان الذي خلقه عن وجه الأرض لأن مساوئ الناس كثرت”. تمّ تغير اسم أوتو نبشتم إلى “نوح” لإعطائه تناغماً عبرانياً.
إليك هذا النص المترجم من الفرنسية كما ورد في كتاب “الطوفان وفلك نوح” للكاتب أندريه بارو (طبعة: “كتب علم الآثار التوراتي”؛ 15 شباط 1955، ص 32) يفسّر فيه كيف يستوحي كتبة سفر التكوين التوراتيون روايات موجودة في مكان آخر، ثم يقومون بنسبها لله بتنقيتها بالتالي من محتواها الميثولوجي والمتعدد الآلهة، وإعطاء أسماء عبرانية لأبطال الرواية:
الطوفان وفلك نوح
هكذا إذاً، ترك الطوفان في التاريخ أثراً بالغاً، بدون منازع. بقيت ذكراه حية في بلاد الرافدين كما في فلسطين، حيث أشار إليها يسوع في تعليمه عن آخر الأيام (متى 24، 37 – 39 / لوقا 17، 26 – 27).
باختصار، يوجد في حوزتنا في الأدب التوراتي والبابلي مجموعة نصوص متعلقة بالكارثة الأرضية المدمرة التي تنجح عائلة بالهرب منها بواسطة “فلك”: عائلة نوح في الكتاب المقدس، عائلة أوتو نبشتم، أتراخسيس، زيو سودرا، عند البابليين. علاقة القربى بين كل هذه الروايات لا تقبل الجدل، إنها تلفت انتباه أقل الناس تنبهاً. يمكننا أن نكتب ملخصاً عنه، مع إضافة بعض الروايات بدون أي شك، لكن أيضاً بتوافق مدهش فيما يخص الجوهر. نشير إلى بعض المقارنات المؤثرة:
التكوين | التقليد المسماري |
---|---|
الرب يقرر أن يهلك البشرية بسبب شر الإنسان. | الآلهة تقرر أن تهلك البشرية بسبب أخطائها. |
الرب يحذّر نوح ويجعله يبني سفينة. | إيا (إنكي) يحذّر يوتا نبشتم (زيوسودرا) ويجعله يبني سفينة. |
ستمتلئ هذه السفينة بالحيوانات لتبقى سلالاتها على كامل الأرض. | ستمتلئ هذه السفينة بالحيوانات وببذرة من كل حياة. |
يحدث الطوفان. يمحو الرب كل كائن حي من على وجه الأرض. | يحدث الطوفان. كل البشرية تعود إلى طين. |
علم نوح أن المياه قد انخفضت بإطلاقه طيرين (غراب، حمامة). | علم أوتو نبشتم أن المياه قد انخفضت بإطلاقه طيوراً (حمامة، سنونو، غراب). |
بنى نوح مذبحاً وقدّم الأضاحي للرب. | أوتو نبشتم يقدم الأضاحي للآلهة. |
تنسّم الرب رائحة الرضى. | الآلهة تتنسّم الرائحة الطيبة. |
يتوقف الرب عن لعن البشر. | إنليل يتصالح مع أوتو نبشتم. |
الرب يبارك نوح وأبناءه. | إنليل يبارك أوتو نبشتم وامرأته. |
![]() قطعة من لوح من ملحمة جلجامش |
إن نص التقليد المسماري (البابلي) مقتطف من ملحمة “جلجامش” الشهيرة، الملك الأسطوري الذي أعطى اسمه للرواية التي انتشرت في الشرق الأوسط منذ القرن السابع والعشرين ق.م. الموضوع العام للرواية هو البحث عن الخلود الذي يكمن سره في الحصول على نبتة تعيد الشباب وتنمو في المياه العميقة (تذكر شجرة الحياة في كتاب التكوين). كثير من البلدان تترجم هذه الرواية إلى لغتها، نجد منها نسخة سومرية ونسختان أحدث، أشورية وبابلية. النسخة الأشورية هي الأكثر اكتمالاً وتتألف من 326 سطراً، 200 منها مخصصة للطوفان.
بعد أن عرضنا موازاة مقتضبة بين رواية كتاب التكوين والنسخة البابلية، يختم أندريه بارو قائلاً:
“ما هي الرواية التي هي أساس كل الروايات الأخرى؟ سيكون علينا أن نجيب: الرواية الأقدم، والرواية الأقدم هي بكل وضوح الرواية البابلية (لا رواية التكوين). ذلك يرعب بعض المفسرين الذي يقترحون حلاً وسطاً يمكن بحسب رأيهم أن يحفظ عقيدة الوحي بصورة أفضل: كان يجب أن يكون هناك تقليد بدائي (لم يُعثر عليه) كنّا سنمتلك منه نسختان، السامرية البابلية من جهة، والإسرائيلية من جهة أخرى. نعترف بكل صراحة أن هذه النظرية قلما ترضينا ونفضل اعتبار أنه في الرواية ومع الرواية الكتابية للطوفان، نملك النسخة الإسرائيلية لتقليد بلاد ما بين النهرين التي نسخها الأصلية على ألواح الخزف موجودة بين أيدينا وأن المؤلفين الكتابيين أعادوا النظر فيها على ضوء الوحدانية (الإيمان بالله الواحد). لقد تم نقل هذا التقليد (الشفهي) للطوفان، مع تقاليد كثيرة أخرى، إلى جانب معظم تقاليد الفصول الإحدى عشر الأولى من كتاب التكوين، من قِبل الآباء (إبراهيم، إسحق ويعقوب) الذين هاجروا من بلاد النهرين (دجلة والفرات حيث نُسخ الطوفان الأشورية والبابلية كانت جد معروفة) واستقروا في أرض كنعان. الإسرائيليون لم يكشفوا أبداً أن أسلافهم قد عبدوا “آلهة أخرى” في تلك الحقبة (يشوع 24، 2)، أي أنهم شاركوا معتقدات بعيدة جداً عن الإيمان الرباني. لهذا السبب لدينا، في الفصول 6 إلى 8 من كتاب التكوين، رواية الطوفان التي نسخها سكان بلاد النهرين بالكتابة المسمارية، قبل أن يخطر ببال الكتبة الربانيين (اليهود) أن ينظّموه كتابةً. أمانة مدهشة للتقليد الشفهي أمّنت، في إسرائيل، وعلى فترة ألف سنة، حفظ هذا التقليد المؤثر”.
خلاصات أندري بارو لا تضر بـ “عقيدة الوحي” كما يخشى المتعلقون بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس. نية كتبة التوراة كانت نشر التوحيد من خلال القصص المشركة (المتعددة الآلهة) في تلك الحقبة في الشرق الأوسط. كانت غايتهم تقديس التاريخ البشري بتجريده من كل إشارة لآلهة الميثولوجيا، كي لا يتم الكشف سوى عن الله الواحد: إله إبراهيم.
لقد شرحت مطولاً هذه الفصول الأولى من كتاب التكوين لأمنحك الروح الذي يمكّنك من فهمها. انطلاقاً من هنا، سأشير فقط إلى النقاط الأكثر أهمية:
تكوين 9، 12 – 17: يتكلم عن قوس قزح كـعلامة عهد أبدي بين الله والبشر. إحفظ جيداً هذه الرمزية لقوس قزح لأنك ستراها ثانية في كتاب الرؤيا (10، 1) حول رأس رسول المسيح في الأزمنة الرؤيوية؛ لأنه هو الذي سيجدد العهد الحقيقي الأبدي بين الله والبشر. هذا العهد الذي أقامه يسوع، وخانه المسيحيون فيما بعد. مهمّة رسول الرؤيا هي تجديد هذا العهد.
التكوين 9 إلى 10: هذه الفصول تقدم أبناء نوح الثلاثة الرمزيين: سام، حام ويافث. هذه السلالة لا تستند على أي أساس تاريخي؛ اختلقها الكتبة بهدف عنصري يناسب اليهود، مثل سلالة شيت في التكوين 5. هكذا:
- كنعان، أب العرب، لُعن وصُنّف في مقام “آخر العبيد”، أي عبد سام (أب اليهود) ويافث (أب الغربيين). لاحظ أن الكتبة يسارعون إلى لعن كنعان، وليس حام سلفه المذنب؛ السلالة هنا هي المستهدفة بصورة رئيسية: الفلسطينيون والعرب بشكل عام (تكوين 10، 14). هذه اللعنة، بحسب الكتبة والحاخامات، هي أبدية: لا أي فلسطيني، ولا أي عربي هو بمنأى منها، إلى الأبد. عليهم أن يكونوا “عبيد العبيد” إلى الأبد، منذورون لخدمة سام ونسله، بالأضافة إلى يافث ونسله، كون هؤلاء الأخيرون هم فقط “عبيد” في خدمة نسل شام. لكن كنعان هو “عبد العبيد”.
- لا حاجة على الإطلاق لأن نذكر أن سام قد نال البركة! هذا أمر مسلم به، أليس هو أب العبرانيين؟… إنه “إله سام” الذي باركه نوح. ليس لا إله يافث، ولا بالأحرى إله شام.
سام هو “أبو جميع بني عابر” (تكوين 10، 21). يجب فهم هذه الآية بناءً على الصبغة العبرانية (التي نجدها في الكتاب المقدس العبري المترجم إلى الفرنسية من قبل حاخامية فرنسا): “سام، أبو كل عرق بني عابر (العبرانيون)”. يخطئ الإسرائيليون باعتبار أنفسهم عرقاً. فهم يعتقدون أن مباركة أبيهم سام ستنتقل حصراً إلى كل فرد من “عرقهم”، جاعلة منهم وحدهم، “أبناء الله”، الذي هو فقط إله سام ونسله: “الشعب المختار”. كان الكتبة يظنون أن الشعوب الأخرى ليس بامكانها أبداً التقرب من الله. إنه حصراً إله سام، إله اليهود… نلفت النظر إلى ملاحظة بولس: “أفيكون الله إله اليهود وحدهم؟ أما هو إله سائر الأمم أيضاً؟ بلى، هو إله سائر الأمم أيضاً (رومة 3، 29). هنا يظهر بوضوح البعد العالمي لتعاليم يسوع والعهد الجديد.
- وُضع يافث في وضع مريح، “يسكن في خيام سام ويكون كنعان عبداً له” (تكوين 9، 27)، الكتاب المقدس للحاخامية الفرنسية يقول: “ويكون كنعان عبداً لهما”.
هذا يعني أن:
- اليهود (نسل سام) هم الأسياد المطلقون على العالم والبشر.
- الهنود الأوروبيون-الأميريكيون (نسل يافث) هم “عبيدهم”؛ يستطيعون أن “يسكنوا في خيام سام”، أن يتعايشوا إذاً مع اليهود، لكن دون أن يحق لهم بممتلكات خاصة: لا يعيشون في خيامهم الخاصة، بل “في خيام سام” (فارق دقيق لا يجب التقليل من أهميته!…). هذا يجعل اليهود يملكون على كل ثروات الأرض بدون منازع.
- الكنعانيون (العرب) هم بلا قيد أو شرط في خدمة الفئتين أو السلالتين السابقتين. لهذا السبب هم “آخر العبيد”، بما أنهم عبيد “أول” العبيد، نسل يافث، الذي هم بدورهم عبيد “الساميين”.
إن مخترعي هذه الخرافة السلالية لم يتوانوا عن جعل نوح، الرجل الصالح الوحيد في ذلك الوقت، الذي استحق النجاة من الطوفان، سكيراً فاقداً الرشد إلى درجة التعري بشكل معيب: “شرب نوح من الخمر، فسكر وتعرّى في خيمته…” (تكوين 9، 21).
قَسَم هذا الهذيان البشرية إلى تراتبية من ثلاثة أعراق لصالح “العرق” العبراني. لهذا يطلب منا بولس أن نحذر من “الخرافات اليهودية” (تيطس 1، 14) وأن نتجنب “المجادلة السخيفة وذكر الأنساب” (تيطس 3، 9) التي يرغب بهما البعض. أدان النبي إرميا “قلم الكتبة الكاذب” لأنه أدخل إلى الكتاب المقدس، باسم الله، كلاماً غريباً عن الله (إرميا 8، 8)، ثار يسوع على “الكتبة والفريسيين المرائين” لأنهم غيّروا معنى الوحي الإلهي بما يتناسب ومصالحهم الدنيوية (متى 23 و15، 6 – 7).
نحن مدعوون اليوم إلى تطهير العهد القديم من الكتاب المقدس بتفريغه من محتواه العنصري الذي دسّه “قلم الكتبة الكاذب”. بالمقابل، لا شيء بحاجة إلى تطهير في العهد الجديد الذي هو تطهيربحد ذاته. مطلوب منا أن نكون خبراء بالكلمة الإلهية، أن نكون مؤمنين قادرين على التمييز، في الكتاب المقدس، ما هو من الله، وما هو من البشر. كي لا نضل، علينا أن نكون مثل الخبراء الماليين الذي يعرفون العملة الحقيقية من المزيفة. ذلك ليس صعباً عندما يقودنا روح الله. من يعرف الله يعرف كيف يفكّر (الله)، ماذا قال في الكتاب المقدس… وما لم يقله أبداً.
تطهير الكتاب المقدس هو واجب مقدس!
التكوين 11: يرمز “برج بابل” إلى غرور الإنسان الذي يريد دائماً أن يبني عالياً بهدف التأثير والسيطرة. “برج إيفل”، “ناطحات السحاب” أو “الأهرامات” هم نسخات عصرية عن الأبراج العالية، “الزقورة”، التي كانت تبنى قديماً في بابل، لكن بروح مختلف.
بلبل الله غرور البشر بالبشر. هم الذين لم يكونوا يتكلمون سوى لغة واحدة، أي الذين كانوا متفاهمين فيما بينهم، ها هم لم يعودوا يتفاهمون، أصبح كل واحد يتكلم لغته الخاصة، ولا يرى سوى مصلحته الشخصية. الأنانية والكبرياء فرّقا بني البشر، فأصبح كل واحد يريد أن يمتلك كل شيء وأن يكون أعلى مرتبة من الآخر؛ هذا هو مصدر الصراعات. هكذا يجب أن تُفهم قصة برج بابل. إنها ليست مسألة تشييد أبنية عالية، بل روح الغرور الذي من خلاله يتم ذلك هو ما يجعل العمل سيئاً. اليوم، حتى الذين يتكلمون نفس اللغة يوشكون على عدم التفاهم عندما يريد أحدهم أن يهيمن على الآخر.
تلاميذ المسيح الحقيقيون عندهم روح الله الذي يوحّد أبناء الله. هؤلاء يتفاهمون فيما بينهم، حتى لو تكلّم كل واحد بلغة مختلفة. لأنها واحدة هي لغة المحبة التي تُفهم بنظرة، بإشارة أو ابتسامة. في العنصرة، عندما نزل الروح القدس على الرسل، أدهش هؤلاء الغرباء الذين كانوا يفهمونهم كل واحد بحسب لغته: “أما هؤلاء (الرسل) المتكلمون كلهم من الجليل؟ فكيف يسمعهم كل واحد منا بلغة بلده؟” (أعمال 2، 7). ذلك لأن روح يسوع كان موجوداً ليصلح ما دمّره غرور البشر. العنصرة تشفي من جرح برج بابل.
تكوين 11 يختم بسلالة تهدف إلى ربط إبراهيم بسام مهما كلف الأمر. هدف هذه “السلالة” هو: تقديم العبرانيين على أنهم كانوا موجودين على الأرض حتى قبل إبراهيم لينشروا الاعتقاد بأن الله، باختياره إبراهيم، قد اختار عرقاً، عرق “سام”، أبو بني “عابر”، الشخصية الخيالية، المفترض أن يكون أبو العبرانيين، “بنو عابر” (تكوين 10، 21 وتكوين 11، 10 – 26). هذا يجعل من العبرانيين “الشعب المختار”. أشرح في بداية الدرس الثالث لماذا من الخطأ الاعتقاد أن إبراهيم هو من سلالة “عبرانية”.
تكوين 11، 27 – 32 يقدم عائلة إبراهيم: تارح، أبوه، وشقيقاه: ناحور وهاران (الذي مات تاركاً ابنه لوط لإبراهيم)، وساراي، زوجته التي كانت أيضاً أخته غير الشقيقة. كانوا يسكنون في “أور”، وهي مدينة كبيرة في ذلك الوقت (في جنوب العراق)، ثم هاجروا إلى حاران، في شمال سورية، حيث ظهر الله لإبراهيم.
هنا تنتهي دراسة الفصول الـ 11 الأولى من كتاب التكوين.
![]() الزقورة في بلاد ما بين النهرين |