هذا الكتاب موجّه لكل الذين يريدون التحرر من نير التعصب الذي فرضته التقاليد الدينية البالية والأحكام التعسفية المسبقة. ومهدى لجميع البشر الصالحين، المتعطشين للحق والعدل، والباحثين عن الأخوّة.
[ هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ]
صدق الله العظيم
(قرآن 27؛ سورة النمل 64)
إهــــداء
إلى مريم
أمّنا العذراء
أم المسيح
إلى فاطمة الزهراء
أم المؤمنين
إلى كافة المؤمنين المتحررين
من كل فئة وطائفة ودين
بسم الله الرحمَن الرحيم
طائران من نفس الفصيلة يرمزان إلى الكتاب والقرآن |
تمهيد
يعتقد معظم الناس أن هناك اختلاف بين القرآن والكتاب، والحقيقة هي أن الوحي واحد في الكتاب المقدس والقرآن الكريم. فالذي أنزل الوحي الكتابي، أي التوراة والإنجيل، هو نفسه الذي أنزل الوحي القرآني مصدّقاً له. الخلاف ليس إذاً في الوحي، بل في التفسير. فيقول الله في القرآن الكريم:
[ يا أيها الذين أوتوا الكتاب (التوراة والإنجيل) آمنوا بما نزّلنا (القرآن) مصدّقاً لما معكم (الكتاب) ] (قرآن 4؛ النساء 47).
هذا الكتاب هو دراسة موجزة للمفهوم الأصلي للوحي الإلهي. يدعو إلى الانفتاح بإيمان على الوحي القرآني، ومنه على الإنجيل والتوراة اللذان يصدّق عليهما القرآن.
( القرآن يستعمل كلمة “التوراة” لمجمل كتب العهد القديم.)
إنها نظرة إيمان بالوحي الإلهي بصورة عامة، تهدف إلى توحيد المؤمنين بتوحيد الوحي الكتابي القرآني، أو بطريقة أخرى، باكتشاف وحدة الوحي الموجودة أصلاً بين نصوص التوراة والإنجيل والقرآن الموجودة بين أيدينا اليوم، إذ أن القرآن يصدّق على سابقيه، التوراة والإنجيل، ويشهد أن الله وحده هو الذي أوحى الكتاب والقرآن. فجاء في سورة العنكبوت:
[ إلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ] (قرآن 29؛ العنكبوت 46).
مع ذلك، فإننا نجد أن الطوائف الدينية قد فرّقت المسيحيين والمسلمين بتقاليدها الموروثة من جيل إلى جيل. لم يقتصر هذا الانقسام على الطوائف الإسلامية والمسيحية، بل حصد كلاً من هاتين الطائفتين الشقيقتين من الداخل مفرّقاً بين المسيحيين بعضهم البعض والمسلمين بعضهم البعض. لهذا السبب أرجو القارئ الكريم أن ينفتح بموضوعية على مضمون هذا الكتاب، مترفعاً عن ذهنية المذهب الذي ينتمي إليه، متخطياً كل ذهنية طائفية ضيقة، لأن هدف هذه الدراسة هو التحرر من روح الطائفية والعنصرية الدينية التي اندست فينا جميعاً بلا وعي منا. لا يمكننا أن نتحرر من هذه الروح الشريرة إلاّ من خلال المعرفة، معرفة ما كشفه الله حقاً في كتب الوحي. هذه المعرفة هي وحدها كفيلة بتحريرنا من براثن التقاليد والأحكام المسبقة التي تجعلنا ننحرف عن تعاليم الكتاب والقرآن.
لقد سرت تلك التقاليد والتعاليم الفاسدة في شرايين البشر مع مرور الزمن، فتوارثوها أباً عن جد، وتقبلوها دون البحث في صحتها واستقامتها، تشبثوا بها وقتلوا من أجلها وكأنها حقيقة مطلقة لا تُمس، دون التأكد من أصالتها. كلنا عانينا منها غير متنبهين أن ليس فيها من الصحة والأصالة شيء.
لذلك، لا بد من الاقتناع بضرورة الرجوع إلى الكتاب والقرآن للتأكد من حقيقة أو زيف الشائعات التي يروّجها البعض لإثارة الفتن كما يؤكد القرآن:
[ الذي أنزل عليك الكتاب (القرآن) منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخَرُ متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله (تفسيره) وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به (بالقرآن) كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ] (قرآن 3؛ آل عمران 7).
لقد احتكر بعض رؤساء الديني حق تفسير الوحي الإلهي، وليس الوحي حكراً على أحد من البشر. إنما التأويل عند الله، [ لا يعلمه إلا هو ]، وهو الذي [ يهدي به من يشاء من عباده ] (قرآن 42؛ الشورى 52).
وأيضاً، حرّم علماء الدين اليهود على سواهم تفسير التوراة، رافضين الاعتراف للناس بحقهم في فهم نبوءاتها إلا بفتوى منهم. وهم حتى اليوم يحرّمون تطبيق النبوءات المسيحية الواضحة الواردة فيها عن يسوع.
ويحتكر علماء ورؤساء دينيون مسيحيون على حد سواء حق تفسير الإنجيل، رافضين تطبيق نبوءاته الصريحة والواضحة ضد الكيان الإسرائيلي الظالم الدجال من جراء التزامهم مع هذا الأخير ومع الصهيونية العالمية. هذا الموقف الآثم والمنحاز هو خيانة للسيد المسيح ولتعاليمه، خاصة وأن يوحنا الإنجيلي قد فضح الإسرائيليين كاشفاً أنهم المسيح الدجال (Antichrist) الذي ينكر أن يسوع هو المسيح (يوحنا الأولى 2، 22).
وكذلك أيضاً، هناك رؤساء وعلماء مسلمون كثيرون يحتكرون تفسير القرآن ويأتون بتأويل من عندهم، لا من عند الله، تظهر فيه روح التعصب والتفرقة التي أشرنا إليها، ويمنعون سواهم من فهم آيات القرآن إلا بفتوى منهم، وهم عن مقصود الله بعيدون كل البعد. إذ أنهم يتوقفون عند [ المتشابهات ] ويسيئون تفسيرها [ بغية الفتنة ].
إن القرآن يفرض على المؤمن أن يجادل في الله من منطلق معرفة [ كتب الوحي المنيرة ]، فقد أوحاها الله تعالى للهدى. على المرء أن لا يتبع عشوائياً كل إيحاء شيطاني يبتغي الفتنة وشق الصف، بدون العودة إلى [ كتاب وحي منير ]:
[ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد… ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ] (قرآن 22، الحج 3 و 8).
لذلك نستعين في جدلنا بكتابين منيرين، هما الكتاب المقدس والقرآن الكريم، حتى لا نبني إيماننا على رمال متحركة لشائعات تجعل منا ضحية [ كل شيطان مريد ] متعصب. نريد أن نبني إيماننا راسخاً على صخرة المعرفة واليقين، ومنشرحاً كونه مستنير ومستوحى من نبع الوحي الإلهي، لا من أقوال وتقاليد بشرية محضة نحاسب عليها لأن لا أساس لها في كتب الوحي المنيرة. ولذلك وجدناها قد أفلست في نتائجها، منتجة ثمار التفرقة المرّة بين الأخوة، خلافاً لمشيئة الله الذي أراد جمع شمل عياله المؤمنين بوحيه، لا تشتيتهم بتقاليد هو منها براء.
[ رب اشرح لي صدري ] (قرآن 20، طه 25).
والحال هو أن الصدر لن ينشرح إلا بالتحرر من نير الإيمان الجاهل، ثمرة التقاليد المتحجرة. إن كنا نطمح إلى الخلاص، فلا بد أن نتخلص من هذا الإيمان الجاهل الباطل واعتناق الإيمان الحقيقي المبني على المعرفة، معرفة الكتب المنيرة التي ترشدنا لنجادل في الله بعلم وهدى.
إننا، كي نفهم روحانية الإسلام الأصلية، علينا أن ندرك الهوة العميقة التي تفصل بين القرآن ومسلمين كثيرين، لا تساويها سوى الهوة التي تفصل بين الكتاب المقدس والأغلبية الساحقة من اليهود والمسيحيين. إن حافري هذه الهوة هم دعاة التقاليد والطقوس الذين نسوا أو تناسوا أن الله روح، فرفعوا شعار المحافظة على التراث الديني البشري والعبادة المادية على حساب العبادة بـ “الروح والحق” كما طلب منا يسوع المسيح (يوحنا 4، 24) وليس بطقوس وتقاليد من اختراع الإنسان.
قال النبي محمد في حديثه الشريف:
“سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، يسمّون به وهم أبعد الناس عنه”.
وقال المرحوم الشيخ محمد عبده في هذا السياق:
“جل ما تراه الآن مما تسمّيه إسلاماً فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج ومن الأقوال قليلاً منها حُرّفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه ديناً نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه. فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سمّوه إسلاماً” (من كتابه “الإسلام والنصرانية”).
وقد تساءل كذلك السيد المسيح مكلّماً تلاميذه عن عودته في آخر الزمان:
“أيجد ابن الإنسان إيماناً على الأرض يوم يجيء؟” (لوقا 18، 8)
وحذرنا قائلاً إن محبة الله ستزول من قلوب كثير من الناس من كثرة الظلم والكفر اللذان يسودان في آخر الأزمنة (متى 24، 12). لذلك أنذر يسوع المؤمنين قائلاً:
“ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب! يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات. سيقول لي كثير من الناس (من المؤمنين الكذبة) في ذلك اليوم ( إذ يروني ثائراً عليهم): يا رب، يا رب، أما باسمك نطقنا بالنبوءات، وباسمك أخرجنا الشياطين، وباسمك عملنا العجائب الكثيرة ؟! فحينئذٍ سأقول لهم وجاً لوجه: إني لم أعرفكم يوماً. ابتعدوا عني يا أشرار” (متى 7، 22).
ويؤكد بولس الرسول هو أيضاً في الوحي الإنجيلي:
“واعلم أن أزمنة صعبة ستجيء في الأيام الأخيرة، يكون الناس فيها أنانيين، جشعين، متغطرسين، مجدفين، كافرين، بلا قلب، لا يطيعون والديهم، ناكري الجميل فاسقين، لا رأفة لهم ولا عهد، نمامين متهورين شرسين أعداء الخير، خائنين وقحين، أعمتهم الكبرياء، يفضلون الملذات على الله، لهم صورة التقوى لكنهم ينكرون ما يجعل قوتها” (تيموثاوس الثانية 3، 1 – 5).
هكذا، أينما سألنا الوحي الإلهي وجدنا الله يحذرنا مما يتمسك به أكثرية المؤمنين من ممارسات سطحية لا جدوى منها لاسترحام المولى الديان الذي لا تناله منها إلا التقوى والمحبة ومعرفة الحق والإنصاف.
نجد في الوحي الإنجيلي مقياساً للإيمان في آخر الأزمنة، ألا وهو ظهور “وحش” تنبأ بظهوره الرسول يوحنا في كتاب الرؤيا. هذا “الوحش”، “المسيح الدجال”، هو تجسد لقوى الشر والظلم في العالم. يظهر هذا الوحش الظالم في فلسطين، في قلب القدس (رؤيا 11، 22 و 20، 7 – 9)، حيث يحشر جيشه وأتباعه من زوايا الأرض الأربع “للحرب”، لا للسلام. يكمن مقياس الإيمان في درجة الحماس والالتزام في محاربة الوحش. فكلما ازداد إيمان المرء ووعيه الروحي، كلما ازداد حماساً واستمات في مقاومة الوحش ومحاربته. أمّا بالمقابل، حيث يكون الإيمان ضعيفاً أو معدوماً، فنجد الناس مستسلمين أمام قوة الوحش وقائلين: “من مثل الوحش؟ ومن يقدر أن يحاربه ؟!” (رؤيا 13، 4). ويبشّر الوحي الإنجيلي المؤمنين بانتصارهم على الوحش، المسيح الدجال.
لقد كشفت وبرهنت في كتابي “مفتاح سفر الرؤيا” هوية هذا “الوحش”، وبيّنت أنه الكيان الإسرائيلي الدجال، الذي حشر جيوشه الصهيونية من زوايا الأرض الأربع… للحرب… في فلسطين. في دولة إسرائيل، هذا الكيان “البديل” المزيّف، الذي بني على الجريمة والدم، تتجسد قوى الظلم والشر. مصيره الفناء.
إن المؤمنين الحقيقيين اليوم هم الذين يميزون هوية “وحش” الرؤيا، ويدركون أنه يجسد “الشر المطلق” كما أعلن صراحةً سماحة الإمام العلامة السيد موسى الصدر، الذي قال أيضاً “إن التعامل مع إسرائيل حرام”. اليوم، المؤمنون الحقيقيون هم الذين يثورون ضد عدو الله، العدو الصهيوني المتمركز في فلسطين بعد احتلال كل سعة أرضها، وفاض منها ظلمه إلى جنوب لبنان.
إن مقياس الإيمان اليوم هو محاربة إسرائيل. هذا هو المحك الرهيب الذي وضعه الله في العالم، دينونة للضالين المتعاملين معها، وبركة أبدية للشرفاء وأهل الكرامة السائرين في الصراط المستقيم بمحاربتها. بالتالي، إن الوحدة بين جميع المؤمنين تتم اليوم من خلال اتحادهم ضد إسرائيل، عدو الله ومسيحه، يسوع. إن الكفاح ضد الكيان الإسرائيلي هو بمثابة معمودية جديدة.
وقد تنبأ الوحي القرآني أيضاً بظهور [ دابة ] في [ يوم الحشر ] في آخر الأزمنة:
[ وإذا وقع القول عليهم (الكفار) أخرجنا لهم دابةً من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ] (قرآن 27؛ سورة النمل 82).
هذه الدابة هي “وحش” كتاب الرؤيا (الفصلين 13 و 17). فقد تنبأ النبي محمد في أحاديثه الشريفة عن ظهور المسيح الدجال وجماعته في آخر الزمان في فلسطين، قادمين إليها “من كل حدب ينسلون”، كما أتى إليها اليهود من كل جهة. ويضيف النبي الكريم قائلاً إنهم سيعبرون بحيرة طبرية التي في فلسطين وإن هذا الدجال سيضلل مؤمنين كثيرين، إنما المؤمنون الحقيقيون سيقاتلونه وبالنهاية ينتصرون عليه. لقد بيّنت في كتابي “المسيح الدجال في الإسلام” صلة هذا المسيح الدجال بالكيان الإسرائيلي الدجال، مستشهداً بالأحاديث النبوية الشريفة الواردة في كتاب الشيخ صبحي الصالح “منهل الواردين”.
قلت إن كثيراً من التعاليم الباطلة قد اندسّت في صفوف المؤمنين، وباتت تقاليد راسخة لا تمس، لا يُشك فيها ولا يُبحث في أمرها. نذكر منها:
- نظرة بعض المسيحيين إلى القرآن على أنه يخالف الإنجيل.
- نظرة بعض المسلمين إلى الإنجيل وكأنه “مزوّر”، وأن هناك تناقضاً بين الأناجيل الأربعة.
بعض المسلمين لا يثقون بالإنجيل بذريعة أن كتابته تمّت بعد صعود المسيح. يجهل هؤلاء أن قدرة الله على الوحي ليست مقيدة بتواجد المسيح بالجسد في العالم، ولا بزمان أو مكان محددين. كل هذه الأفكار الباطلة تدل على جهل وصبيانية من يروّجها ومن يصدّقها، والإنجيل منها براء، ويعارضها القرآن معارضة تامة.
أردت في دراستي هذه الدخول إلى عالم الوحي من باب القرآن، ومنه إلى الكتاب، لنكتشف أن الوحي فيهما واحد، فلا داعي للخلاف بين الذين يؤمنون بأحدهما؛ والإيمان بأحدهما دون الآخر هو موقف غير منطقي وغير مبارك من الله الذي أوحى بهما.
القرآن وحي عربي للكتاب
إن الفخ الذي وقع فيه كل من المسيحيين والمسلمين، هو اعتبار دين القرآن غير دين الكتاب أو معارضاً له. والقرآن من هذا الإفتراء براء. فالقرآن نفسه يتقدم كوحي موجز للوحي الكتابي، أنزله الله على النبي محمد [ بلسان عربي مبين ]. كما يعلن القرآن بصراحة أن سبب تنزيله هو لهداية سكان شبه الجزيرة العربية، إذ لم يكن لهم من قبل النبي “منذرين” (أنبياء) كما كان لأهل الكتاب، اليهود والمسيحيين. فيقول الله تعالى في القرآن:
[ وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين (الروح القدس) على قلبك (يا محمد) لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه ( القرآن) لفي زُبُر (كتب: التوراة والإنجيل) الأولين (اليهود والمسيحيين) ] (قرآن 26؛ الشعراء 192 – 196).
تجدر الإشارة إلى أن الوحي القرآني موجود [ في زُبُر الأولين ] (الكتب) الذين سبقوا القرآن. وأنه الوحي الكتابي [ بلسان عربي مبين ]. هذا يعني أن القرآن لا يختلف عن الكتاب بما أنه من الكتاب، ولا يختلف عنه إلا من حيث اللغة:
[ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ] (قرآن 13؛ الرعد 37).
[ وكذلك أوحينا إليك (يا محمد) قرآناً عربياً لتنذر أم القرى (مكة) ومن حولها ] (قرآن 42؛ الشورى 7).
[ بل هو (القرآن) الحق من ربك لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ] (قرآن 32؛ السجدة 3).
على الرغم من هذه الآيات الواضحة، يقوم بعض المتعصبين، التواقين إلى تحويل الإنسانية إلى إسلام متشدد، مستصرخين بغضب “دفاعاً” عن القرآن، قائلين إنه ليس للعرب فقط، بل هدى للعالمين. على هؤلاء أن يرجعوا إلى نص الوحي القرآني الموجه إلى عرب [ أم القرى ومن حولها ]. إلا أننا نقول، نحن أيضاً، إنما بذهنية مختلفة، إن القرآن هو هدى للعالمين، فرسالته هي نفسها رسالة الكتاب المقدس الذي فيه هدى الله وإرشاداته لسكان الأرض كافة، ولأن كل نبي أرسله الله هدى للعالمين.
[ وإنه (القرآن) لفي زبر الأولين ] (قرآن 26؛ الشعراء 196).
أُنزل الإنذار القرآني للعرب، دون سواهم، إذ لم يأتهم منذر من قبل، لينذرهم كما أنذر قبله اليهود والنصارى.
[ بل هو (القرآن) الحق من ربك لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ] (قرآن 32؛ السجدة 3).
تجدر الإشارة إلى أن كلمة “قرآن” تعني قراءة، كون هذا الكتاب السماوي هو “قراءة” عربية للكتاب المقدس الذي أنزل مسبقاً باللغة العبرية (التوراة) واليونانية (الإنجيل)، وهما لغتان كان لا يقرأهما العرب في زمن النبي محمد. كانوا آنذاك يبررون جهلهم للروحانيات بحجة عدم تمكنهم من دراسة الكتاب المقدس بلغتين أجنبيتين. وكانوا يتفاخرون أيضاً أنهم لو استطاعوا قراءة الكتاب، لكانوا أفقه من طائفتي اليهود والمسيحيين بسبب ذكائهم المتفوق. فآتاهم الله بالقرآن الكريم [ بلسان عربي مبين ] لإعلامهم بما [ في زُبُر الأولين ] لقطع حجّتهم ومعاقبة المرتدّين. فيقول الله:
[ أن تقولوا (أيها العرب) إنما أُنزل الكتاب على طائفتين (اليهود والمسيحيين) من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أُنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم (القرآن) بينة من ربكم وهدى ورحمة. فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ] (قرآن 6؛ الأنعام 156 – 157).
قصد الله أن يكون القرآن وحياً عربياً للكتاب، أي أن آياته قد [ فُصّلت ] بأسلوب عربي، لا أعجمي، وذهنية عربية ليتقبلها العرب، فقال الله في القرآن:
[ كتاب (القرآن) فُصلت آياته (أو عرضت) قرآناً عربياً لقوم يعلمون ما يقال لك (يا محمد) إلا ما قد قيل للرسل من قبلك (في التوراة والإنجيل)… ولو جعلناه قرآناً (قراءة) أعجمياً لقالوا (العرب) لولا فصلت آياته أعجمي وعربي (لنفهمها) قل (للعرب) هو (القرآن) للذين آمنوا هدى وشفاء … ] (قرآن 41؛ فصلت 3 و 43 – 44).
بما أن القرآن هو قراءة عربية للكتاب، فإنه لم يأتِ بما هو جديد أو مخالف للكتاب، فالله لم يوحي فيه لمحمد [ إلا ما قد قيل للرسل من قبله ] كما يقول في الآيات أعلاه.
مع ذلك، وإن أنزل القرآن وحياً عربياً للكتاب، إلا أنه لا يشمل مجمل ما جاء في الكتاب، فيقول الله في القرآن إنه لم يقصص فيه على محمد إلا بعض ما أُنزل في الوحي الكتابي:
[ ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ] (قرآن 40؛ غافر 78).
إن الأنبياء والرسل الذين لم يأتِ القرآن على ذكرهم، مذكورون في الكتاب. لذلك قلت إن القرآن يتقدم كوحي موجز للوحي الكتابي [ بلسان عربي مبين ]، وإنه بالتالي، لا يختلف عنه في الجوهر.
لذلك، عندما دعا بعض المسلمين في زمن محمد جماعة من المسيحيين لأن يعتنقوا الإسلام، فأجابوهم [ أنهم مسلمون من قبل القرآن ]. وقد أثنى الله في القرآن عليهم حتى أنه جعل [ أجرهم مرتين ]:
[ الذين آتيناهم الكتاب من قبله (القرآن) هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق (الذي يأتي) من ربنا إنّا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين ] (قرآن 28؛ القصص 52 – 54).
نلفت الانتباه إلى جواب المسيحيين الفوري: [ إنّا كنا من قبله مسلمين ]. فهؤلاء المؤمنون لم يترددوا عن الإعلان، جهراً، أنهم مسلمون من قبل الوحي القرآني. وما هو أعجب من ذلك، هو حكم القرآن ونبيّه الكريم اللذان أعطياهم [أجرهم مرتين ] لأنهم اعترفوا، دون أن يتنكروا لمسيحيتهم، ودون أي تحفظ، أنهم مسلمون بقدر ما هم مسيحيون. إن الإستنتاج المنطقي السليم الذي يصفو من هذه الآيات، هو أن الإسلام، في نظر القرآن، ليس سوى اسم آخر للمسيحية كما يؤكّد في الآية التالية:
[ هو (الله) اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج مِلّة أبيكم إبراهيم هو سَمَّاكُم المُسلمين من قَبل وفي هذا (في القرآن)، ليكون الرسول شهيداً عليكم…] (قرآن 22، الحج 78).
كنت يوماً في مجتمع إسلامي، أو بالأحرى يدّعي الإسلام، فأراه أنا متعصباً لا مسلماً. قلت في مجرى الحديث: “أنا مسلم من قبل القرآن”. فهب أحد رجال الدين المتشددين، ومسيطراً على غضبه، قال: “ما هذا الكلام؟ إنه كفر ومجاملة”. أجبت: “الفرق بينك وبين الله ونبي القرآن الكريم، هو أنك تعتبر كلامي كفراً ومجاملة، بينما القرآن، على العكس، يثني علي، بل ويمنحني أجري مرتين”. هذا مثل عشته، وهو ليس إلا واحد من أمثلة كثيرة في مجتمعات مختلفة، المسيحية منها والإسلامية، تعلمت منه أن أميز بين الإيمان الحقيقي والتعصب.
يتجلّى من آيات سورة القصص المذكورة أمر في غاية الأهمية، وهو أن الإسلام في نظر القرآن ونبيه المصطفى العزيز، لا يضاد المسيحية، بل إنه اسم آخر للدعوة الكتابية، بما أن المسيحيين هم مسلمون أيضاً من قبل القرآن.
وشهادة على وحدة الوحي بين الإسلام والمسيحية نذكر هذين المثلين:
- يعتبر القرآن أن الحواريين هم مسلمون مع أنهم وجدوا 600 سنة قبل الإسلام، فيقول:
[ إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي (عيسى) قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ] (قرآن 5؛ المائدة 111).
- إبراهيم الخليل هو مسلم أيضاً مع أنه ظهر 2700 سنة قبل الإسلام:
[ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً (مسيحياً) ولكن كان حنيفاً مسلماً …] (قرآن 3؛ آل عمران 67)
- والنبي محمد إذ يقول:
[ أنا أول المسلمين. ] (قرآن 6؛ الأنعام 163)
إنما يقصد أنه أول مسلمي أمته (راجع تفسير الجلالين)، كما أنه خاتمة أنبيائها ومنذريها.
ما يعزّي قلب كل مؤمن أصيل في الآيات 52 – 54 من سورة القصص، هو انفتاح هؤلاء المسيحيين بلا تعصب على القرآن الكريم، وبركة المولى المضاعفة عليهم بعد شهادتهم أنهم مسلمون من قبل القرآن. أين نجد اليوم تسامحاً كهذا؟ فإذا تجرأ أحد المسيحيين اليوم على القول إنه مسلم من قبل القرآن، لأثار عليه نقمة مسيحيين ومسلمين تقليديين كثيرين. هنا تظهر الهوّة بين مقصود الله الأصلي والتقاليد المنحرفة التي أفرزها البشر.
ولا عجب في أن يكون المسيحي مسلماً، والمسلم مسيحياً، إذ يوصي القرآن المسلمين قائلاً:
[ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزِل إلينا (القرآن) وأُنزِل إليكم (الكتاب) وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ] (قرآن 29؛ العنكبوت 46).
يجب على المسلم إذاً، أن يؤمن بالتوراة وبالإنجيل، وأن يجتهد، بلا كلل ولا ملل، وبقلب طاهر منفتح، ليكتشف كيفية [ الجدل بالتي هي أحسن ] لدعم إيمانه هذا. فهذا هو [ الصراط المستقيم ] الذي يشير إليه القرآن الكريم (قرآن 1؛ الفاتحة 6).
مسيحي أو مسلم، هما إذاً تسميتان مختلفتان لحقيقة واحدة. أن يكون المرء مسيحياً يعني أن يشهد أن يسوع هو حقاً المسيح. وهذا ما يشهد عليه القرآن. أن يكون المرء مسلماً يعني أن يسلم نفسه لله، أن يخضع له: هذا هو الموقف الذي على كل مسيحي أن يتبناه.
فنستغرب ونأسف من تصرفات بعض البلدان الإسلامية التي تمنع دخول الكتاب المقدس عبر حدودها. هل يجهلون أن القرآن يدينهم؟ وما هي حجتهم؟ أهكذا يجادلون [ بالتي هي أحسن ] ؟ بالطبع لا! ونقول إن حجتهم ليست من القرآن، ولا يمكن أن تكون صحيحة. فالقرآن يؤكد أن إله الإنجيل وإله القرآن واحد ويدعو الذين يزدرون الكتاب أن يقولوا: [ آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم ]، وأن يسلكوا [ الصراط المستقيم ]، ويعملوا بموجب هذا الإيمان وبالوصية القرآنية كي يجادلوا [ بالتي هي أحسن ].
إن القرآن بالتالي لا يدعو إلى دين آخر، أو إلى عبادة إله آخر غير الذي أوحى الكتاب. كما يعتبر أن المسيحي لهو مسلم من قبل الوحي القرآني. كل من استوعب هذه الحقيقة البسيطة وعمل بها، يكون قد خطا خطوة عملاقة في صراط الإيمان المستقيم، [ ويُؤتى أجره مرتين ] من عند إله الكتاب والقرآن الواحد الأحد الذي أوحى بهما.
يظن البعض أن القرآن يُغني عن الكتاب، فيزدرون الإنجيل أحياناً، والتوراة أحياناً، كما يتجاهل البعض الآخر القرآن ويستهين به. ولكل حجته، اقتنع بها واكتفى، فوقعوا كلهم في فخ التعصب والعنصرية الدينية، مخالفين بتصرفهم الكافر هذا وصايا الله الواردة في جميع كتب الوحي.
الحقيقة هي أن القرآن لا يُبعِد قارئه عن الكتاب، وأنه لم يدّع يوماً أنه للكتاب بديل، والعكس هو الصحيح. فالقرآن يهدي إلى الكتاب بقوله:
[ يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ] (قرآن 5؛ المائدة 68).
يحث القرآن العرب أنفسهم على معرفة الكتاب، فيقول الله فيه لمحمد:
[ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا] (قرآن 42؛ الشورى 52).
بالرغم من شهادة القرآن المتكررة للكتاب، فقد قام كثير من علماء الدين المسلمين بتفسير الآيات القرآنية الكريمة بمعزل تام عن الكتاب، وكأنهم يستنكفون منه ويفتخرون بذلك. فأتت تفسيراتهم غريبة عن روح ومنطق الوحي، تحمل في طياتها بذور الخلاف والشقاق بين الأخوة المؤمنين. إن الوحي القرآني لم ينزل بمعزل عن الوحي الكتابي، بل هو [ في زُبُر الأولين ]. وما كان النبي محمد نفسه [ يدري ما الكتاب ]، ولأجل أن يعرّفه الله على رسالة الكتاب أوحى إليه قرآناً عربياً.
إن كل من يقرأ الكتاب والقرآن بموضوعية، وبدون تحيّز، سيدرك الوحدة بين الرسالتين والوحيين ويزداد علماً وبصيرة.
إن بعض القصص الكتابية واردة في القرآن. كما أن القرآن لا يحدثنا إلا عمّا جاء في الكتاب بدءاً بخلق العالم وحتى آخر الزمان، مروراً بنوح وإبراهيم والأسباط الاثني عشر، ونقض اليهود للميثاق الإلهي والمسيح عيسى ابن مريم. فلماذا إذاً النفور من أحد الكتابين، خاصة وأننا نجد في الكتاب نوراً إضافياً يوضّح ما جاء في الوحي القرآني؟
كثيرون ممن يجادلون في الدين يعكفون على ذلك بدافع الحماس، ولكن بغير علم بما جاء في كتب الوحي، فيوقعهم حماسهم الجاهل في شباك التعصب. وهذا التصرف مكروه عند الله ورسله المكرمين.
إن من أراد أن يجادل في الدين، عليه أن يتروّى ويراجع التوراة والإنجيل والقرآن عن كثب قبل الغوص في حوار يريده المتعصبون تحدياً ومعركة، بيد أن الوحي الإلهي يوصي بالجدل [ بالتي هي أحسن ]. وكم من مسؤول ديني رأيناه يدوس على هذه الوصية القرآنية متفنناً بالتي هي أسوأ، جاهلاً الكتب ومتجاهلاً باسم الوحي وصايا الوحي، وزارعاً بالتالي التفرقة في صفوف الإخوة المؤمنين.
وعلى ذلك، فإننا نفهم جوهر الإسلام انطلاقاً من منطلق تعريف القرآن له، منزهين إياه بالتالي عن الملامح التقليدية التي تطفلت عليه على مر القرون والأحداث فشوهت صفاء وجهه.
إننا ندرك تماماً أن المسلم في نظر القرآن هو:
[ من يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ] (قرآن 31؛ لقمان 22).
هذا هو الإسلام القرآني وجوهره. هناك من يسلم وجهه لله، ولكنه غير محسن. طوبى لكل من أسلم وجهه إلى المولى عز وجل ثم أحسن بالكد والاجتهاد في قراءة كتبه والإيمان بها، فزاد إسلام وجهه لرب العالمين. طوبى لذاك الإنسان، أكان من معشر المسلمين أم من معشر المسيحيين أم من الأمم، [ فقد استمسك بالعروة الوثقى ].
علينا هنا أن نسلط الضوء على الحقيقة التالية: كان يستحيل على عرب الجاهلية دراسة الكتاب لأنه كان مكتوباً باللغتين العبرية واليونانية. أما اليوم، وقد تمت ترجمته إلى العربية وإلى لغات أخرى يفهمها العرب (كاللغة الإنكليزية)، فلم يعودوا يملكون أي ذريعة لجهله.
لذلك، ما قيل بالأمس لأهل الكتاب، نردده اليوم لأهل القرآن: [ لستم على شيء حتى تُقيموا التوراة والإنجيل ] (قرآن 5؛ المائدة 68) لأنكم بدونهما لن تستوعبوا شمولية روح القرآن وتدركوا مقصود الوحي الإلهي فيه.
فلا يمكن فهم كمال روح القرآن من دون الرجوع إلى الكتاب الذي هو نبعه.
إني أؤمن أن يهودية التوراة ومسيحية الإنجيل وإسلام القرآن هم واحد في الجوهر. لذلك لا أتردد في إعلان شهادة الإسلام والإيمان بنبيه الكريم محمد، الذي ثبّت إيماني بالسيد المسيح بتصديقه عليه، وزاد تعلقي بالإنجيل بعد أن صدّق عليه، وطمأن قلبي ومنحني أجري مرتين.
تهدف دراستي هذه إلى بث روح الوفاق والتفاهم المتبادل بين المؤمنين الصالحين، غير المتعصبين، من مختلف الطوائف، دون مساومة، وذلك بإظهار التوافق التام بين الكتاب والقرآن.
إننا، رفاقي وأنا، إذ نعي الصعوبات والاضطهادات التي سنتعرض لها من قبل المتعصبين من كافة الأطراف، قطعنا عهداً أن نثابر، سائرين قدماً، باسم الله وبأمره تعالى، غير مبالين بالتفسيرات المتشنجة والضيقة التي يتمسّك بها هواة زرع الفتن؛ وسنجتهد، باحثين دوماً عن الحجة [ التي هي أحسن ]، ناظرين إليها وحدها، إرضاءً لله ولضميرنا، سائرين هكذا في [ الصراط المستقيم ] نحو الخلاص الروحي.
إن المؤمنين، من سائر الفئات والطوائف والأديان، الذين سيفلحون في التخلص من أفكارهم الموروثة الباطلة، سيدركون، بعد مطالعة كتب الوحي بهدوء، وبمعزل عن أجواء التحدي والاستفزاز والمصالح الشخصية، أنها واحدة، ومن إله واحد، وسيكتشفون بفرح أنهم إخوة متعانقون، أبناء إله واحد، بعدما ظنوا لوقت طويل أنهم أعداء متقاتلون.
مبادئ الدراسة
ترتكز دراستنا للوحي الإلهي على مبادئ مستقيمة وجّهت اجتهادنا وهي:
- الرجوع إلى نص القرآن نفسه
- البحث عن معنى النص الروحي
- خط الله التربوي المعتمد في الوحي
- وحدة الوحي
إننا باحترامنا هذه المبادئ في دراسة الوحي القرآني، كما في دراسة الوحي الكتابي أيضاً، نتمكن من إدراك المقصود الإلهي والاتعاظ به، لنكتشف في النهاية وحدة الوحيين.
الرجوع إلى نص القرآن
يطلب الله من المؤمنين أن يكونوا حكماء في بحثهم عن الحقائق الروحية، وأن يستندوا دائماً إلى ما ورد في كتب الوحي، متجاهلين الشائعات التي يروّجها مثيرو الفتن. فيحذرنا الله تعالى قائلاً:
[ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ] (قرآن 22؛ الحج 8).
إن الكتاب المنير الذي نستعين به لفهم روح القرآن هو القرآن نفسه، مؤيدين براهيننا من كتاب الوحي هذا، ومن التوراة والإنجيل، لإبراز الوحدة الموجودة بين كتب الوحي، غاضين النظر عمداً عن احتجاجات المجادلين السطحيين، توفيراً لوقتهم ولوقتنا.
إن الاستعانة بكتاب منير للجدل في الله، حاجة شعر بها رسل السيد المسيح أنفسهم لإقناع اليهود بأن يسوع هو فعلاً المسيح الذي بشّر بمجيئه الأنبياء في التوراة. فنجد في الوحي الإنجيلي أن اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح
“استقبلوا الكلمة (التي بشرت بمجيئه) بفرح، وأخذوا يفحصون يومياً ما ورد في الكتب (التوراة)، للتأكد من صحة ما يسمعون (من الرسل عن المسيح)” (أعمال الرسل 17، 11).
وكذلك أيضاً فعل المسيح مع رسله، فيقول إنجيل لوقا إن المسيح، بعد بعثه،
“فسّر لهم ما ورد عنه في الكتب (التوراة والإنجيل)، من موسى إلى سائر الأنبياء” (لوقا 24، 27).
فعلى المؤمن الحكيم، إن أراد الهدى، أن يرجع دائماً إلى الكتب المنيرة ليبني إيمانه على المعرفة، كما فعل من قبله الذين سبقوه في الإيمان.
البحث عن المعنى الروحي للنص
أوصانا الله أن نبحث دوماً عن المعنى الروحي لنصوص الوحي، مُحذراً إيانا من الوقوع في فخ التفسير الحرفي الضيق الذي يحرّف المقصود الإلهي.
إننا ندرك أن هدف الوحي الإلهي هو إنعاش حياة النفس وتعزيز اهتمامنا بالحياة الروحية الأبدية التي تفوق بما لا يقاس حياة الجسد. لذلك نجد القرآن، كما الإنجيل والتوراة، يدعونا هو أيضاً، بل ويحثنا على أن ندرك الروح من خلال الحرف. فيقول القرآن:
[ ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ] (قرآن 22؛ الحج 11).
نجد نفس التحذير في الإنجيل بلسان وأسلوب آخر:
“هو الذي جعلنا قادرين على خدمة العهد الجديد، عهد الروح لا عهد الحرف، لإن الحرف يميت والروح يحيي” (كورنثوس الثانية 3، 6).
وحذّرنا السيد المسيح من فهم الوحي حرفياً، والتوقف عند المعنى الحرفي دون السمو إلى المقصود الروحي لكلام النبوءة، إذ قال:
“إن الروح هو الذي يحيي، وأما الجسد فلا يفيد شيئاً. والكلام الذي كلمتكم به هو روح وحياة” (يوحنا 6، 63).
وتدعونا التوراة أيضاً إلى تخطّي الحرف للانضمام إلى الروح. نذكر على سبيل المثال الختان (التطهير) والصوم. فيقول النبي إرميا (القرن السادس ق.م) عن الختان:
“اختتنوا للرب وانزعوا قلف قلوبكم” (إرميا 4، 4).
هكذا ارتفع إذاً هذا النبي الشريف من مفهوم الختان الجسدي إلى مقصوده الروحي، ألا وهو ختان القلب، أي تطهير الروح من أفكارها وميولها النجسة. لذلك يقول القديس بولس أيضاً في إنجيله:
“ليس الختان بشيء ولا عدم الختان بشيء، المهم العمل بوصايا الله” (كورنثوس الأولى 7، 19).
فمن عمل بوصايا الله بمحبة
“كان ختانه ختاناً (روحياً)، ليس بفعل يد بشرية، بل بنزع جسم الخطايا البشري، وهو ختان المسيح”. (كولوسي 2، 11)
ذلك هو ختان الروح طبعاً الذي تقوم به يد الله لتطهير الروح بالتوبة والنعمة، والذي لا يقارن بختان الجسد بيد بشرية عاجزة عن تطهير الروح.
فالختان والصوم والذبائح والحج …إلخ كلّها رموز تشابه حقائق روحية وإنها لمن [ المتشابهات ] التي يجب تفسيرها روحياً، لا حرفياً، كما فعل وما زال يفعل أولئك الذين
[ في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ] (قرآن 3؛ آل عمران 7).
بما أن تأويل [ المتشابهات ] التي لا يعلمها إلا الله كما يكشف القرآن الكريم، فكيف إذاً يتجرأ البعض على تأويلها بطريقة وأسلوب يخلقان الفتنة والشقاق بين الإخوة؟ أمّا نحن، فلا نأتي بتأويل من عندنا، إنما لجأنا إلى كلمة الله التي بينت المقصود الإلهي في الكتاب المقدس، وخاصة في كتب الإنجيل السماوي. هناك وجدنا تأويل الله نفسه عن [ المتشابهات ]، وذلك من خلال [ كلمته التي ألقاها إلى مريم ] (قرآن 4؛ النساء 171) متجسداً فيها لينير العالم بمقصود الله في وحيه. وتلك الكلمة المباركة لا تخطىء، كما أنها تفوق وتخزي كل تفسير بشري. من تلك الكلمة الإلهية ما يتعظ [ وما يذكّر إلا أولوا الألباب ] المنفتحين على مجمل الوحي الكتابي القرآني بحرية وارتياح وبلا تشنج. إن كل الذين وقعوا في شباك التعصب اللعين ثم اتعظوا بكلمة الله الشاملة، سيتحررون من تلك العبودية الجهنمية، وينجون من دينونة الله العليم الحكيم فيمجدون وحيه القدوس في الكتاب والقرآن مرددين مع القرآن الكريم:
[ آمنا به كلّ من عند ربنا ] (قرآن 3؛ آل عمران 7).
أمّا عن الصوم، فيقول النبي إشعيا في التوراة (القرن الثامن ق.م):
“الصوم الذي أريده، يقول الرب، هو حل قيود الشر، وفك عقد النير، وإطلاق المظلومين أحراراً، وقطع كل نير ظالم. الصوم، أليس أن تكسر خبزاً للجائع، وأن تُدخل البائسين المطرودين ظلماً بيتك، وإذا رأيت عرياناً فقيراً أن تكسوه؟” (إشعيا 58، 6 – 7).
نعم، إن الصوم الحقيقي هو ربط اللسان عن كل كلام باطل، وعن الافتراء وإلحاق الضرر بالأخوة، والنيل من سمعتهم، والتهام أموال الناس. هذا هو الطعام الواجب الامتناع عنه، كما قال المسيح:
“إسمعوا وافهموا! ليس ما يدخل الفم هو الذي ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان… إن ما يخرج من الفم، فمن القلب يصدر، وهذا هو الذي ينجس الإنسان. لأن من القلب تخرج الأفكار الرديئة، كالقتل والزنى والفجور والسرقة وشهادة الزور والتجديف. هذه هي التي تنجس الإنسان…” (متى 15، 10 – 20).
إن القرآن الكريم، إذ أُنزل للإنجيل مصدّقاً، يصدّق على هذا الكلام الانقلابي لعيسى بن مريم. فقد ورد في سورة آل عمران قول عيسى لليهود:
[ قد جئتكم بآية من ربكم… ومصدّقاً لما بين يدي من التوراة ولأُحِلَ لكم بعض الذي حُرِمَ عليكم … ] (قرآن 3؛ آل عمران 49 – 50).
لقد فهم أتباع الله أنه ليس هناك من طعام محرّم يعتبره الله نجساً، ولم يرد ذكر تلك المُحرمات في التوراة والقرآن إلا تمهيداً لمفهوم ما هو نجس وما هو طاهر من الأعمال والتصرفات البشرية، لقوم كانوا يجهلون الله والخير والشر.
لذلك عاد المولى عز وجل ووضّح مقصود الحلال والحرام، إذ أوحى لرسوله العربي الكريم في سورة المائدة:
[ اليوم أُحِل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم، وطعامكم حِلّ لهم ] (قرآن 5؛ المائدة 5).
وأيضاً قوله تعالى ليؤكِّد على ما سبق:
[ يا أيها الذين آمنوا لا تُحرّموا طيبات ما أَحلَّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيِباً واتقوا الله الذي أنتم به مُؤمنون ] (قرآن 5؛ المائدة 87 – 88)
نلفت الانتباه إلى أن هذه الوصية موجهة إلى [ الذين آمنوا ] ليعملوا بها، وليس لغير المؤمنين الذين لن يعملوا بها. ونحن من معشر هؤلاء المؤمنين غير المعتدين على رسالة عيسى الذي [ أحل بعض الذي حُرّم ] من المأكولات كما رأينا. كما إننا نؤمن بمحمد، زميله المبارك في الرسالة السماوية، والذي أُرسل مصدّقاً للإنجيل ولما ورد فيه من أقوال عيسى. وبناءً على إيماننا هذا، فإننا مصممون أن لا نحرّم ما حلله الله لأن
[ ليس على الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات جُناح فيما طَعِموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعَمِلوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا والله يُحب المُحسنين ] (قرآن 5؛ المائدة 93).
العمل الحسن! هذا ما أوصانا الله به. والعمل الشرير! هذا ما حرمّ الله علينا. لذلك يطلب المولى من رسوله في سورة الأنعام:
[ قل تعالوا أَتْلُ ما حَرّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً… ولا تقرَّبوا الفواحش… ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم الله به لعلكم تعقِلونَ. ولا تقرَبوا مال اليتيم… وأَوفوا الكيل والميزان بالقسط… وإذا قلتم فاعدِلوا… وبعهد الله أوفوا ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبِعوه ] (قرآن 6؛ الأنعام 151 – 153).
تجدر الملاحظة إلى أن المولى عز وجل لا يذكر في صراطه المستقيم المبارك هذا شيئاً محرماً من المأكولات، فما يهمه تعالى هو الأعمال الصالحة والنيات الصافية. لقد حان وقت تخطّي تلك المحرمات الغذائية والمادية وتطبيق ما ذكرنا مما يقول عيسى في إنجيل متى (15، 10 – 12) وفي سورة آل عمران (49 – 50). وحده القلب الناضج في الإيمان السليم، المُنصت إلى إرشادات رب العالمين، يستطيع أن يتحرر من سلاسل مفهوم الحرف ويتخطّاه ليسمو إلى المفهوم الروحي، فهذا هو صراط الله المستقيم الذي يطلبه القرآن.
إن ذلك ينطبق أيضاً على الصوم في شهر رمضان (سورة البقرة 183 – 185 والجزء الثاني من الآية 187). هذا الصوم ليس إلزامياً كما يدّعي المتعصبون، بما أن القرآن ذاته يقول: [ يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيامٍ أُخَر وعلى الذين يُطيقونًه فدية طعامُ مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خيراً لكم إن كنتم تعلمون ] (البقرة 183 – 184). إن الصوم الحقيقي إذاً هو عدم أكل مال الآخرين كما يقول القرآن في الآية 187 من سورة البقرة. إن الذين يعيشون حياةً منظمة ومتوازنة بكل تفاصيلها هم الذين يصومون طيلة حياتهم.
لقد رأينا أشخاصاً يصومون لينقضّوا بعد ذلك على الطعام كالحيوانات المفترسة على الموائد المفعمة، لينتهي بهم الأمر إلى التقيؤ بعد وليمتهم المتوحشة، الغير متوازنة، من المساء حتى الفجر…
طوبى للذين يفهمون المقصود الإلهي ويحققون التوازن وضبط النفس في كل شيء.
لذلك السبب فإن القرآن قد حث وأوصى المؤمنين بأن
[ لا إكراه في الدين. ] (قرآن 2؛ البقرة 256)
وطبعاً، إن ذلك ينطبق على الصوم أيضاً.
كما إن الوحي القرآني يشير أيضاً إلى الصوم عن سماع الكذب وعن أكل أموال الناس:
[ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سمّاعون للكذب أكّالون للسحت (المال الحرام). ] (قرآن 5؛ المائدة 41 – 42)
ويقول الله أيضاً في كتابه الكريم:
[ و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون. ] (قرآن 2؛ البقرة 188)
يظهر مقصود الصوم هنا على أنه عمل روحي، يدوم طوال الحياة الأرضية، وليس الصوم، في المقصود الإلهي، مجرد الامتناع عن طعام مادي لمدة محدودة. كما تظهر هذه الآيات بوضوح أن التطهير الذي أراده الله هو تطهير القلب ، وأن الصوم هو الامتناع عن سماع الكذب وأكل أموال الناس بغير حق.
لقد أعطى موسى اليهود شريعةً، التوراة. فأصرّوا، وبعضهم مازال يصر حتى اليوم، على فهم هذه الشريعة حرفياً، رافضين الانفتاح على المقصود الإلهي. إن هذا الانغلاق الذي انعزلوا فيه عن مشيئة الله، هو سبب رفضهم السيد المسيح. إذ كانوا يريدون مسيحاً عسكرياً محارباً، وسياسياً متسلطاً، واقتصادياً عبقرياً. فجاء المسيح يكلّمهم عن التوبة، ومحبة الآخرين لا محاربتهم، وازدراء المال لا عبادته. كما أنه وضح المفهوم الروحي للصوم، والوضوء (التطهير المادي بالماء)، والسبت، وللشريعة بشكل عام. لكن اليهود المتعصبين تمسكوا بحرفية الشريعة، لا بروحها، ونبذوا المسيح الداعي إلى الارتقاء إلى أعالي التطهير بينابيع المياه الروحية، لا المادية، ينابيع التوبة، التي هي وحدها كفيلة بتطهير القلب من النجاسة الحقيقية الفكرية والروحية.
لذلك يدعونا الله في قرآنه الكريم إلى فحص ضمير جدّي يدين أو يبرّئ كلّ منّا، إذ ورد في سورة يونس:
[ قل أرأيتم ما أَنزَلَ الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أَذِنَ لكم ( أن تقولوا ذلك) أم على الله تفترون وما ظَنُّ الذين يَفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لَذو فضلٍ على الناس ولكن أكثرهم لا يَشكرون ] (قرآن 10؛ يونس 59 – 60).
يتوضح من هذه الآية الخطيرة أن الإنسان هو الذي – بحماقته – افترى على الله جاعلاً من أرزاق الله المحللة، ما هو حرام وما هو حلال. فما تُرى يكون جواب كل منا أمام هذا السؤال الذي يطرحه القرآن: هل الله هو الذي ميّز بين الحلال والحرام فيما رزقنا هو تعالى بنفسه، أم هي حماقة المفترين التي افترت على الله هذا الكذب؟
من ناحية أخرى، يؤكد القرآن الكريم أن للمولى العزيز مطلق الحرية ليمحو ما يشاء من كتب الوحي الإلهي. فورد في سورة الرعد:
[… لِكل أَجَلٍ كتاب، يمحُوَ الله ما يشاءُ ويُثبِتُ وعنده أمُّ الكتاب ] (قرآن 13؛ الرعد 38 – 39).
كذلك، رأينا أن السيد المسيح قد برّأ كل الأطعمة معلناً أن “كل الأطعمة طاهرة” (إنجيل مرقس 7، 19). وكرر المولى فيما بعد للقديس بطرس، ثلاثة مرات، أن يعتبر كل الحيوانات طاهرة قائلاً:
“ما أعلنه الله طاهراً، فلا تدعه أنت نجساً” (أعمال الرسل 10، 15 – 16).
وبدوره، لخّص القديس بولس أمر الطهارة والنجاسة بقوله:
“لا تنقض عمل الله من أجل طعام! لا ريب أن كل شيء طاهر” (رومة 14، 20).
وعاد ليؤكد على هذه الحقيقة بقوله لتلميذه تيطس:
“إن كل شيء طاهر للأطهار، وأمّا الأنجاس وغير المؤمنين فليس لهم شيء طاهر، بل عقلهم وضميرهم أنفسهما قد تنجسا. يعلنون أنهم يعرفون الله، لكنهم ينكرونه بأعمالهم…” (تيطس 1، 15 – 16).
الصراع بين التفسير الحرفي والتفسير الروحي هو صراع دائم. إن الله لا يطلب منا مجرد الإيمان بوحيه، وإنما الإيمان الصالح، ألا وهو الخاضع لمقصوده تعالى. والله روح، تهمّه طهارة روحنا، فبدونها لا نستطيع، مهما طهّرنا الجسد، السمو إليه تعالى. وليس الوضوء الجسدي إلا رمزاً لضرورة تطهير الروح الذي يتحقق بالتوبة والرجوع إلى الله بالإيمان والأعمال الصالحة وإنه لمن [المتشابهات ].
نتناول هذه الآية من سورة الصف التي تدعم بوضوح ضرورة التفسير الروحي للنص القرآني:
[ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدّقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ] (قرآن 61؛ الصف 6).
مفسرون كثيرون، ونحن منهم، يطبقون هذه النبوءة على النبي محمد. إننا، إذا تشبثنا بالتفسير الحرفي، لا يكون النبي محمد هو المقصود في هذه النبوءة بما أن اسمه ليس أحمد. التفسير الروحي يفرض نفسه في هذه الآية، كما في غيرها من الآيات القرآنية، ويقضي قضاءً تاماً على التفسير الحرفي للنص.
إن المؤمنين الباحثين عن معاني الوحي الروحية سرعان ما يصلون إلى قمة الحياة الروحية. أما المتشبثون بالحرف، فهم أقزام ينقلبون على وجوههم إن أصابتهم فتنة، خاسرين الدنيا والآخرة، كما يصفهم القرآن في الآية التالية:
[ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ] (قرآن 22؛ الحج 11).
يزعم البعض أن كلمة “حرف” الواردة في هذه الآية تعني “حافة”، حافة الشيء أو طرفه. لو كان هذا هو المقصود الإلهي لجاءت في الآية كلمة “حافة” لتكون أكثر دقة. المقصود الإلهي يشير بوضوح إلى المؤمنين الجبناء الذين يتعلقون بحروف الكلمة خوفاً من الدينونة، دون أن يحاولوا فهم هدف الروح القدس من خلال محبتهم لله. والحال هو أن “الحرف يميت”، كما يقول الإنجيل، بينما “الروح يحيي” (كورنثوس الثانية 3، 6).
وكيف لا ينقلب المؤمن بالحرف على وجهه أمام آيات متناقضات في نفس الوحي؟ في الحقيقة، إنها وإن بدت متناقضة على صعيد الحرف، إلا أنها متفقة على صعيد الروح والمقصود الإلهي. لذلك، فالصعود إلى المغزى الروحي هو ضرورة خلاصية، لولاه لسقطنا في مستنقع الحرف وتلوثنا بمرض التعصب والجهل، كما هو، للأسف، حال الكثيرين. تتجلى ضرورة الارتقاء إلى المقصود الإلهي والمفهوم الروحي للنصوص في آيتين عن الخلق تبدوان متناقضتين وهما:
[ الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ] (قرآن 25؛ الفرقان 59).
يتكلم هنا عن الخلق في ستة أيام، لكننا نجد في آية أخرى:
[ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين… فقضاهن سبع سماوات في يومين… ] (قرآن 41؛ فصلت 9 و 12).
إن التفاسير التي تحاول التوفيق حرفياً بين الخلق في ستة أيام والخلق في يومين لهزيلة ومضحكة. إنها، لشدة التوائها وغموضها غير مقنعة بتاتاً وتُبعِد عن الوحي كل إنسان جدي ومفكر ذي عقل ناضج ورصين.
كذلك أيضاً، نجد في التوراة روايتين عن الخلق. الأولى تتكلم عن الخلق في ستة أيام، خلق الله فيها الرجل والمرأة في اليوم السادس، بعد خلق العالم والحيوانات والنبات في الأيام الخمسة السابقة (تكوين 1). أما الثانية، فتقول العكس تماماً: إن الله خلق آدم أولاً، ثم وضعه وحده في الفردوس، ثم خلق سائر الحيوانات، وأخيراً خلق حواء من إحدى ضلوع آدم. ولا تأتي القصة حتى على ذكر عدد أيام الخلق (تكوين 2).
فهل يتناقض الوحي؟
لا! إن الوحي لا يناقض ولا يكذّب نفسه. علينا نحن أن نفهم أن الله أراد بكل بساطة، من خلال هاتين الروايتين، أن يكشف للإنسان وجود خالق واحد، لا إله سواه. هذه الحقيقة وحدها أثارت النقمة على الرسل والأنبياء الذين بشروا بها بعد أن خصهم الله بوحيه للهدى. إن معرفة الخالق الواحد هي الحقيقة التي أوحى بها الله لهداية الناس بإبعادهم عن عبادة الأصنام والآلهة الخرافية والتقرب إليه تعالى.
والله الواحد يدعونا، من خلال تعدد روايات الخلق، إلى عدم التوقف عند الحرف، والإرتقاء منه إلى الجوهر الروحي، أي بعدم البحث العلمي لمعرفة كيفية الخلق، بل لمعرفة الإله الواحد الأوحد الخالق كل شيء والذي أوحى وجوده ليعرفه المؤمنون وليحسنوا عبادته دون سواه.
كما في التوراة والإنجيل، كذلك في القرآن الكريم، علينا أن نصعد دوماً إلى المستوى الروحي إذا أردنا الحياة الحقيقية.
خط الله التربوي المُعتمد في الوحي
لقد اعتمد الله دائماً في وحيه خطاً تربوياً، كأب يقود بموجبه أبناءه، تدريجياً، من حيث وجدهم إلى بلوغ النضج الروحي حيث يريدهم. إن المؤمن الواعي المتبصّر يلاحظ في القرآن هذا الخط التربوي الذي اعتمده الله تجاه عرب الجاهلية في القرن السابع للميلاد. وهذا الخط التربوي نفسه قد اعتمده الله أيضاً مع اليهود والمسيحيين في التوراة والإنجيل.
كان عرب شبه الجزيرة العربية يجهلون حياة الروح لجهلهم الحقائق الإلهية التي كشفها الله. فقبل النبي محمد، كانوا يعبدون في مكة وفي الكعبة بالذات أكثر من 360 إلهاً صنماً، يعتقدون أنها تأكل وتتزوج وتلد أولاداً، إلى ما هنالك من خرافات مشابهة للميثولوجيا اليونانية وآلهتها الخرافية – كالإله “زيوس” والإله “نبتون”… إلخ – التي كانت تُعبد قبل دخول المسيحية أوروبا.
لم يكن في الإمكان إعطاء العرب النور بكامله فجأة، ودفعة واحدة، نظراً لبعدهم التام عن الحقيقة الإلهية. كما لا يمكن لعينٍ بقيت في ظلام حالك طويلاً، أن تنفتح على نور الشمس بشكل مفاجىء، دون أن تنبهر، أو حتى أن تصاب بضرر. فيجب على العين أن تمر من العتمة التامة إلى النور الساطع تدريجياً لئلا تصاب بأذى. كذلك الأمر، كان يجب إعطاء النور الإلهي تدريجياً للذين عاشوا طويلاً في الظلمات.
لذلك، تصرف الله تعالى بحكمة، كعادته، ليمنح نوره للعرب، لا [ بلسان عربي مبين ] فحسب، لكن تدريجياً كما يربّي المعلم تلميذه في المدرسة فيجعله ينتقل من الصفوف الابتدائية إلى الثانوية، ومن ثم إلى الشهادات العليا.
هكذا فعل الله من قبل مع إبراهيم وموسى واليهود بالتوراة، ثم مع المسيحيين بالإنجيل، كاشفاً تدريجياً عن جوهر ذاته الإلهية الروحية الفريدة، ومرشداً بالسلوك الأخلاقي الصالح. هذا الخط التربوي نفسه نجده في القرآن، حيث كشف الله للعرب الحقائق الكتابية تدريجياً، بلباقة خارقة ودقة فائقة، مثلما يربّي الأب أبناءه ليبلغوا سن الرشد. إليكم هذين المثلين، الأول عن الذبائح والثاني عن الزواج.
الذبائح
في زمن موسى، كان اليهود قد تلوّثوا في مصر بعبادة أصنامها، حتى أنهم راحوا يقدمون لها الذبائح تلو الذبائح. فلإبعادهم عن تلك الممارسات التي كانوا قد تعودوا عليها أثناء مكوثهم في مصر لأكثر من أربعمائة سنة، ولتقريبهم من الله تدريجياً، أعطاهم موسى في التوراة طقوساً يقدمون بموجبها الذبائح لله، لا للآلهة المصرية الخرافية. فالمقصود من تلك الذبائح ليس إرضاء الله بها، إنما منع اليهود من تقديمها للأصنام.
لم يكن في وسع موسى إلغاء تلك الذبائح، وحمل اليهود على الاقتناع بعدم جدواها لنيل غفران الله ورحمته، إذ لم يكن في وسعهم استيعاب مفهوم التوبة والاستغفار للتقرب من الله بهما، لا بالذبائح. فسمح الله بتقديم الذبائح، في خطوة أولى، حتى تعود وتنمو معرفة الإله الواحد تدريجياً في ذاكرة اليهود، بعد أن نسوه في مصر. كان المقصود الإلهي من الذبائح الحيوانية إذاً إرشاد المؤمنين إلى الله، لا استرحام المولى بها.
ثم في مرحلة ثانية، وبعد أكثر من خمسة قرون من خروج اليهود من مصر. أوحى الله إلى أنبيائه بعدم جدوى الذبائح والمحرقات الحيوانية، وأعلن أن “الذبيحة” الوحيدة التي يتقبلها على مذبحه الروحي هي تضحية الذات، تضحية النفس التائبة والقلب المستغفر المستسلم لمشيئته تعالى. فاسترحم داود، الملك النبي، المولى عز وجل في مزموره الشهير قائلاً:
“يا رب إفتح شفتاي فيذيع فمي في تسبيحك. لأنك لا ترتضي بذبيحة ومحرقات، إن الذبيحة لله روح منسحق (تائب)، لايرذل الله قلباً منسحقاً ومتواضعاً” (مزمور 51(50)، 15 – 17).
ويقول الله أيضاً في مزمور آخر:
“إنني لا آكل لحم الثيران، ولا أشرب دم التيوس. بل قرِّبوا الحمد ذبيحةً لله، وأُوفوا العلي نذوركم. وادعوني يوم الضيق، فأخلّصكم، فتمجّدوني” (مزمور 50(49)، 13 – 15).
وقال الله صراحةّ بفم النبي إرميا (القرن السادس ق.م) إنه لم يكن هو الذي طلب في التوراة ذبائح ومحرقات حيوانية، وإنما ما طلبه هو الاستجابة لإرشاداته. فيقول النبي إرميا ساخراً من اليهود:
“هكذا تكلّم الرب: أضيفوا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحومها!! فأنا لم أكلم أباءكم ولا أمرتهم بأية محرقة أو ذبيحة يوم أخرجتهم من أرض مصر. إنما أوصيتهم بأن يسمعوا لي حين أكلمهم فأكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً، ويسلكون في كل طريق آمرهم به لخيرهم” (إرميا 7، 22 – 23).
وأعلن النبي ميخا أيضاً (القرن الثامن ق.م) عن عدم جدوى الذبائح، ثم استطرد قائلاً:
“إن الله قد أخبرك يا إنسان ما هو صالح وما يطلبه منك. إن الرب لا يطلب منك سوى أن تصنع الحق وأن تحب بحنان وأن تسير مع إلهك بتواضع” (ميخا 6، 6 – 8).
يدعونا القرآن بدوره إلى تجاوز الذبائح الحيوانية والسمو إلى مقصودها الروحي. فيقول عن الأضاحي:
[ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ] (قرآن 22؛ الحج 37).
مع ذلك، نجد “المؤمنين” يتهافتون بالملايين على أماكن الحج وينهمكون بتقديم الذبائح بأعداد لا تحصى ولا تعد، لا إرضاءً لله الذي [ لا تناله لحومها ولا دماؤها ]، بل مجاملة للمجتمع، غافلين عن التقوى والسير مع الله يومياً.
الزواج
كان الزواج عند عرب الجاهلية فوضوياً، لا شرع له ولا حد، تماماً مثل الطلاق، تتحكم به أهواء الرجل وغريزته، وكان هذا الوضع يعرّض المرأة لمخاطر جمّة ولعدم الأمان والإستقرار. فدور الحريم المُحتقر، في الشرق العربي القديم، أشهر من أن يعرّف.
فجاء القرآن، في مرحلة أولى، ليحصر عدد الزوجات ويضع شرعاً للطلاق، يعيل بموجبه الرجل المرأة المطلّقة. فبعد أن كان الزواج فوضوياً، حدد الشرع عدد الزوجات الشرعية إلى أربع فقط، ثم علّق على ذلك قائلاً – وهنا يظهر خط الله التربوي – إن الرجل إن خاف أن لا يعدل بين زوجاته، فعليه أن يتزوج بامرأة واحدة فقط. وهذا في حد ذاته تطور عظيم للرجل العربي آنذاك، تطور مر به أيضاً أهل الكتاب. فيقول القرآن الكريم:
[ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى (يشير القرآن إلى الإهتمام باليتامى قبل الاهتمام بالنساء) فانكحوا (تزوجوا) ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة… وآتوا النساء صدقاتهن…] (قرآن 4؛ النساء 3 – 4).
تجدر الملاحظة إلى أن الآية تبدأ بلفت انتباه الرجل إلى اليتامى، فاتحة الطريق بذلك أمام الغيرية، أي محبة الغير. من ثم، إن القرآن في هذه الآية لا يحصر الزواج فحسب، بل إنه يفرض على الرجل مهراً لكل زوجة. إن هذا الأمر في حد ذاته يشجّع على عدم تعدد الزوجات من جهة، ويرفع من شأن المرأة من جهة أخرى. فبدلاً من أن تقدّم المرأة مهراً للرجل، كما هي العادة حتى اليوم في مجتمعات كثيرة، حتى المسيحية الغربية، كانت المرأة، بالعكس، هي التي تأخذ مهراً من الرجل، إلا إذا ارتضت أن تتنازل عنه بطيب خاطر:
[ وأتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً (من تلقاء أنفسهن) فكلوه هنيئاً مريئاً ] (قرآن 4؛ النساء 4).
بعد أن حدد الله في القرآن للعرب عدد الزوجات، ولمّح إلى الزواج الواحد إن لم يعدلوا بين النساء، عاد ليقدم الزواج من واحدة فقط على أنه الوسيلة المثلى والوحيدة لتجنب ظلم الزوجة، فيقول:
[ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولوحرصتم ] (قرآن 4؛ النساء 129).
بهذه الآية يفرض الله على الرجل الزواج بامرأة واحدة فقط. فبعد أن قاده تدريجياً من الزواج الفوضوي، إلى الزواج بأربع نساء فقط، يعود ليحدد للرجل الزواج بواحدة مؤكداً له أنه لن يعدل بين النساء ولو حرص على ذلك. فعلى كل مؤمن صادق راغب في إرضاء الله، لا في إشباع رغباته الخاصة، أن يستخلص مغزى الوحي ويعمل به.
هكذا، بطريقة لبقة وغير مباشرة، أدخل الخالق مفهوم الزواج الواحد في شرايين العرب وذهنيتهم، على الرغم من أن الانطباع الأول الذي كان وما زال مسيطراً عند كثير من المسلمين هو أن القرآن يسمح بتعدد الزوجات. إنما الواقع هو أن تعدد الزوجات كان مقبولاً به إلى حين بلوغ الإنسان مستوى معيناً من النضج النفسي والروحي. فقد أعطى الله الوقت الكافي لخليقته البشرية الضعيفة لأن تعي، مع مرور الزمن ومن خلال التجربة، أهمية أحادية الزواج للحياة الروحية والزمنية.
من خلال مراقبتنا للمجتمع العربي المعاصر، نلاحظ نجاح مخطط الله التربوي في تطبيق أحادية الزواج. فليس للعرب اليوم بغالبيتهم الساحقة سوى زوجة واحدة، في زمن ساءت فيه سمعة تعدد الزوجات إلى حد كبير. كذلك أصبح الطلاق مرفوضاً من معظم العائلات العربية، ليبقى عموماً الملاذ الأخير في الحالات الصعبة ولأسباب جدية، لا هزلية كما كان الخال في الجاهلية. فشاسع هو الفرق بين المجتمع العربي والإسلامي اليوم ومجتمع الجاهلية بعد مرور نسمة القرآن المُحيية عليه.
الإنجيل أيضاً يتبنى نفس الخط التربوي فيما يخص الزواج والطلاق. فعندما دنا إلى السيد المسيح عدد من الفريسيين – الذين كانوا يمارسون الطلاق بحرية تامة – وسألوه عن الطلاق ليحرجوه:
“أيحل للرجل أن يطلق امرأته لأي سبب كان؟ فأجابهم: أما قرأتم (في التوراة) أن الخالق من البدء جعلهما ذكراً وأنثى. وقال: لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويتحد بامرأته، فيصير الاثنان جسداً واحداً؟ فلا يكونان اثنين، بل جسد واحد. وما جمعه الله لا يفرقه الإنسان. وسأله الفريسيون: فلماذا أوصى موسى بأن يعطي الرجل امرأته كتاب طلاق فتطلق؟ فأجابهم يسوع: لقساوة قلوبكم أجاز لكم موسى أن تطلقوا نساءكم. وما كان الأمر من البدء هكذا” (متى 19، 3 – 8).
نشير إلى موقف تلاميذ المسيح الذين صُدموا أيضاً من سماع كلام المعلم فقالوا له:
“إذا كانت هذه حال الرجل مع المرأة، فخير له أن لا يتزوج. فأجابهم يسوع: لا يقبل هذا الكلام إلا الذين أعطي لهم أن يقبلوه. فهنالك بالحقيقة من يولدون خصياناً وآخرون يخصيهم الناس، وآخرون يخصون أنفسهم من أجل ملكوت السماوات. وليفهم من يستطيع!” (متى 19، 10 – 12).
يجب ملاحظة أمرين مهمين في هذه القصة: الأمر الأول، هو أن موسى، وليس الله، هو الذي أجاز أن يعطي الرجل امرأته كتاب الطلاق. سمح موسى بذلك كخطوة تربوية، وتنازلاً وقتياً أو مساومة يجب العدول عنها في حينه من أجل الرجوع إلى الحالة الأصلية التي يريدها الله، وهي عدم الطلاق، كما شرح يسوع. لكن اليهود، لتشبثهم بغرائزهم البشرية، تمسكوا بحرفية الشريعة، رافضين الإرتقاء إلى مقصودها الإلهي.
الأمر الثاني، هو أن المسيح انطلاقاً من حديثه عن الزواج والطلاق، تمادى إلى صعيد أسمى مشيداً بالعفة ومثنياً على الذين “يخصون أنفسهم من أجل ملكوت السماوات”. إنه لا يقصد بهذه العبارة عملية جراحية أو الامتناع عن الزواج، إنما يقصد أولئك الذين لا يتزوجون عشوائياً لإرضاء غريزة جنسية أو شهوة محض جسدية، بل تجاوباً لحب روحاني عميق ومخلص مصدره الله الذي يجمع بين قلبَي رجل وامرأة مدى الحياة. إن الذين يسيطرون على حواسهم ويحتفظون بعفة الجسد والروح، رجالاً كانوا أم نساء، إلى حين لقاء رفيق الحياة المختار أو رفيقة الحياة المختارة من الله، هم الذين بعفتهم يجعلون من أنفسهم “خصياناً (روحياً) من أجل ملكوت السماوات”، أي أعفاء ومخلصين في زواج حياتهم الوحيد.
القرآن أيضاً يتكلم عن العفة:
[ وليستعفف (ليخصوا أنفسهم) الذين لا يجدون نكاحاً (زواجاً) حتى يُغنيهم الله من فضله (بإرسال رفيق أو رفيقة الحياة) ] (قرآن 24؛ النور 33).
أين كان عرب الجاهلية من الزواج الواحد؟ بل أين كانوا من العفة قبل الزواج؟ كانت هذه الفضيلة المباركة مجهولة أو محتقرة، إلى درجة اتهام أصحابها بعدم الرجولة. وهذا هو الحال اليوم أيضاً في بلدان تدعي المسيحية.
لقد أتت تعاليم القرآن بثمارها الجيدة، بل شك، في قلوب كثير من العرب. هذا هو فضل القرآن الذي دفع المجتمع الإسلامي إلى الإرتقاء حتى وإن بقيت بعض تعاليمه عقيمة في قلوب كثير من المسلمين المنغلقين على روحه. فبات هؤلاء في جاهلية روحية قد اختاروها هم لأنفسهم سبيلاً بدلاً من الصراط المستقيم، إذ رفضوا العمل بإرشادات المولى العزيز. كذلك، لم تأتي تعاليم الإنجيل بثمارها في قلوب مسيحيين كثيرين يزدرون العفة وقدسية الزواج.
وحدة الوحي
إن الوحي واحد في التوراة والإنجيل والقرآن، فهو ينبع من إله واحد كشف عن وجوده هو بنفسه، من خلال أنبياء التوراة والإنجيل والقرآن. هذا ما يؤكد عليه القرآن قائلاً لأهل الكتاب:
[ إلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ] (قرآن 29؛ العنكبوت 46).
فمن إله واحد ينبع وحي واحد، ثابت، لا تزوير فيه. ومن يدعي عكس ذلك فهو من الكفار المرذولين.
لاستيعاب وحدة الوحي في الآيات الكتابية والقرآنية، علينا أن نتجاوز تعابيره وأساليبه اللغوية المختلفة، كما قلت، والسمو إلى مقصوده الروحي، فنكتشف وحدته في روح الله الأحد، كما فعلنا في مثلي الذبائح والزواج. وعندها، بعد توحيد الوحي، نستحق أن نكون شهوداً على التوحيد وأن نشهد أن لا إله إلا الله. فلا يليق ولا يمكن أن نكون للتوحيد الإلهي شهوداً إلا بتوحيد الوحي فينا أولاً. وهذا ما قد فعلناه.
يحاول المتعصبون تقسيم هذا الوحي مروجين لإشاعات تحث على الكراهية وإثارة الفتن، منها أن القرآن غير موحى به من الله، ومنها أن الإنجيل مزور أو أنه يناقض نفسه، ومنها أن القرآن نسخ الكتاب، أي أبطله، إلى ما هنالك من افتراءات لا أساس لها في القرآن. وقد شجب علماء أجلاء كثيرون تلك الإدعاءات، منهم المرحوم العلامة الشيخ محمد عبده، وكان شيخ الأزهر بمصر، الذي ثار مراراً وتكراراً على تلك الإشاعات مؤكداً على أصالة نص التوراة والإنجيل، ومذكراً أن القرآن يصدّق عليهما.
إذاً، أهم هذه الإشاعات هي التالية:
- القرآن غير موحى به من الله
- القرآن يبطل الإنجيل
- الإنجيل مزور
- الإنجيل يناقض نفسه بسبب الاختلافات الظاهرية بين الأناجيل الأربعة إلخ…
لاكتشاف وحدة الوحي، علينا أن نبحث عنها باحترام أمرين، وهما:
- وضع الوحي في إطاره الزمني، الجغرافي والاجتماعي.
- [ الجدل بالتي هي أحسن ] كما يطلب القرآن.
كل تفسير قرآني يصدّق على التوراة والإنجيل، هو التفسير الأحسن. هذا هو [ الصراط المستقيم ] (قرآن 1؛ الفاتحة 6). وبالمقابل، كل تفسير قرآني يناقض الروح الكتابي مرفوض من الله لأنه يخالف القرآن الذي يصدّق على الكتاب المقدس الذي أنزل من قبله، وينصب في [ صراط المغضوب عليهم والضالين ].
وضع الوحي في إطاره الزمني، الجغرافي والاجتماعي
لنفهم رسالة وحي معين، إن كان في التوراة أو في الإنجيل أو في القرآن، يجب معرفة النبي الذي خصّه الله بوحيه هذا، وسبب نزول الوحي، والبيئة التي نزل فيها. فيقول الله في القرآن:
[ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبين لهم ] (قرآن 14؛ إبراهيم 4).
لذلك يجب معرفة قوم، زمن، بيئة ولغة كل نبي، بالإضافة إلى الإطار التاريخي لفهم امتداد الرسالة التي أوحاها الله له.
فيما يخص القرآن، فإن الوحي قد أنزل في شبه الجزيرة العربية ليكشف لسكانها عن وجود إله واحد، لا إله غيره، أوحى الكتاب لأهله ثم أوحاه للعرب، وأن لا وجود لآلهتم الخرافية. فيعلن القرآن للعرب أن الله نفسه قد كشف عن نفسه من قبل لأهل الكتاب (التوراة والإنجيل)، وأنه، من خلال القرآن، يعرفهم عن ذاته ويقدم لهم هذا الكتاب بلسان أو بـ [ قرآن عربي مبين ]، ليتبعوا سنن الذين قبلهم (اليهود والمسيحيين):
[ يريد الله ليبين لكم (أيها العرب) ويهديكم سنن الذين من قبلكم (أهل الكتاب) ] (قرآن 4؛ النساء 26).
طريق الإسلام هي إذاً طريق الكتاب. فيدعو الله العرب إلى الإيمان لا بالقرآن فحسب، بل وبالكتاب أيضاً. وهنا تتجلى وحدة الوحي:
[ آمنوا (أيها العرب) بالله ورسوله (محمد) والكتاب (القرآن) الذي نزل على رسوله والكتاب (التوراة والإنجيل) الذي أنزل من قبل ] (قرآن 4؛ النساء 136).
إن الإيمان بالكتاب المقدس والقرآن الكريم هو في نفس الوقت شرط للإيمان بوحدانية الله وبتحقق وحدة الوحي. إن إيماننا بصحة الكتاب الذي يصدّق عليه القرآن، هو الذي يجعلنا نكتشف التفسير القرآني الصحيح.
فكيف يدعي البعض إذاً أن الكتاب المقدس – والإنجيل خاصة – هو مزور؟ مع أن شهادة القرآن نفسه عكس هذا الافتراء تماماً، فهو يقول:
[ الذين آتيناهم الكتاب (الكتاب المقدس) يتلونه حق تِلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ] (قرآن 2؛ البقرة 121).
إن إيماننا بوحدة الوحي الإلهي وبصونه من قبل الله يفرض علينا الإيمان بالوحي الكتابي وبالوحي القرآني المنبثق منه. فمن يعتبر الكتاب مزوراً، يكذّب القرآن ولا يعتبره إطلاقاً. فكما سبق أن رأينا، يقول الله تعالى:
[ ومن يكفر به (بالكتاب) فأولئك هم الخاسرون ] (قرآن 2؛ البقرة 121).
نلفت الانتباه إلى أن القرآن يشهد لصالح القراءة “الصحيحة” للإنجيل، أي “كما أوحاه الله” (راجع تفسير “الجلالين”). وما يزيد إيماننا بوحدة الوحي وتعلقنا بالكتاب، هو أن النبي العربي كان دائماً يلجأ إلى [ الذين يقرأون الكتاب ] عندما كان يشك في رسالته. وكان الله يرشده بنفسه إلى “أهل الكتاب” إذ قال له:
[ فإن كنت (يا محمد) في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرَؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (الشاكين فيه) ] (قرآن 10؛ يونس 94).
لقد حاولنا الاكتفاء بالقرآن في بحثنا عن الحقيقة، إلا أننا وجدناه يدفعنا إلى الإنجيل:
[ يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ] (قرآن 5؛ المائدة 68).
إننا، من منطلق شهادة القرآن للكتاب، وضعنا نصب أعيننا هدف إظهار وحدة الوحي في كتب الوحي الثلاثة، والبحث دون كلل أو ملل عن نقاط التقاء القرآن بالتوراة والإنجيل. ولقد وفقنا المولى عز وجل في اجتهادنا.
الجدل [ بالتي هي أحسن ]
إننا من خلال بحثنا في أمر وحدة الوحي، وجدنا أن كل تفسير قرآني يناقض الكتاب، هو تفسير يعارض روح القرآن، وهو تفسير باطل يجب التخلّي عنه لأن القرآن يصدّق على الكتاب ولا يناقضه.
في القرآن 15 آية تكشف أن القرآن قد أنزل مصدّقاً للكتاب. نذكر منها هذين المثلين:
[ وآمنوا بما أنزلتُ مصدّقاً لما معكم (الكتاب)…] (قرآن 2؛ البقرة 41)
(راجع أيضاً البقرة 89، 91، 97 و 101)
[ نَزل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه (الكتاب) وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس…] (قرآن 3؛ آل عمران 3)
(راجع أيضاً آل عمران 81 / النساء 47 / المائدة 48 / الأنعام 92 / يونس 37 / يوسف 3 / فاطر 31 / الأحقاف 12 و 30)
نستوحي نهجنا من الوصية القرآنية المنيرة وهي: [ الجدل بالتي هي أحسن ] (قرآن 29؛ العنكبوت 46). إن [ أحسن ] الحجج هي التي تبرهن أن القرآن يصدّق على الكتاب والتي تكمن في اكتشاف وحدة الوحي بين الكتاب والقرآن. هذا هو [ الصراط المستقيم ] للمختارين (قرآن 1؛ الفاتحة 6)، وهذه هي [ العُروة الوُثقى ] (قرآن 2؛ البقرة 256). اقتنعنا أن الحجة الأحسن هي التفسير الذي يصدّق على الكتاب، فهو الذي يجمع بين ما جاء في الكتاب وما جاء في القرآن. وارتاح ضميرنا بهذا الاقتناع، لأننا نأبى أن نكون شهود زور على الوحي الإلهي الكريم. لقد اجتهدنا، مندفعين بمحبة فائقة وحذر شديد، لئلا نقع في فخ الجدل بالتي هي أسوأ كما يفعل الكثيرون. هؤلاء هم المسؤولون عن إبعاد الكثيرين، بتصرفهم الأحمق المتعصب، عن القرآن الكريم، فإنهم بالتالي يشوهون طهارة ووجه الإسلام الصافي النزيه، ويتحملون مسؤولية تضليل النفوس وشق الصفوف أمام الله الديان الأعظم، فقد اندفعوا في [ صراط المغضوب عليهم والضالين ].
تعليق
يكرر القرآن بقوّة وصية الكتاب الموجهة لأهل الكتاب، يهود ومسيحيين، أن ينشروا معرفة الكتاب، لا أن يخفوها أو يكتموها:
[ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون ] (قرآن 3؛ آل عمران 187).
لقد تغاضى رؤساء شعوب الكتاب عن نشر نوره الإلهي. فأبقوا الرسالة السماوية مقفلة بإحكام، دون تفسير، طالما أن الناس يؤمنون بصورة عمياء، دون أن يفهموا أسباب إيمانهم، جاهلين النبوءات، أو حتى وجودها. القرآن أيضاً، بعد الكتاب، يدين هؤلاء المرشدين المسؤولين الخونة، يهوداً ومسيحيين، ويفضح إهمالهم.
لكن، كيف نحكم على الرؤساء العرب والمسلمين الذين ينفون الكتاب خارج حدودهم في حين أن القرآن، ولحسن الحظ، مرحب به في كل مكان؟ إن القرآن يفرض عليهم هم أيضاً – وهم يعلمون ذلك – كشف رسالة الكتاب بوضوح في كل مكان ولكل البشر ونشرها في العالم أجمع، منذراً الذين يطمسون النور بأسوأ العقاب:
[ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهُدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم اللاعنون ] (قرآن 2؛ البقرة 159).
[ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ] (قرآن 2؛ البقرة 174).
نكتفي بهذا القدر من التعليق.
نقاط الجدل
في هذا الباب، نبحث في نقاط الجدل التي تشكل أبرز مواضيع الجدل بين مختلف الطوائف دون التعمق في مقصودها، ودون محاولة صادقة لتوحيد الكلمة حول ما يقوله الوحي الكتابي القرآني فيها. ونأسف لوجود بعض المسؤولين الدينيين الذين يتسرعون في الكلام عن حقائق الوحي بلا علم أو معرفة، بأسلوب سخيف وسطحي، مفتقرين لأدنى درجات الرصانة والحشمة والنضج.
أهم الحجج التي يلجأ إليها بعض المسيحيين المتعصبين لرفض القرآن الكريم ونبيه الشريف هي:
- مخالفة القرآن لبعض العقائد الإنجيلية.
- حياة النبي محمد، فيأخذون عليه تعدد زوجاته وكثرة حروبه.
سأبرهن فيما بعد أن القرآن الكريم لا يطعن في أية عقيدة من العقائد الإنجيلية. إنما ما أوصل عدداً كبيراً من المسيحيين إلى هذا الظن الخاطئ، هو سوء تفسير بعض المسلمين لنصوص القرآن.
فانطلاقاً من المبادئ التي ذكرتها في الباب الأول، سنكتشف التوافق التام ووحدة الوحي بين الكتاب والقرآن. فلن يكون هناك من داعٍ للمسيحي لرفض القرآن، ولا للمسلم لازدراء الكتاب. سأعرض من ثم الخطوط العريضة لحياة النبي محمد، منزهاً إياه عن التهم الباطلة الموجهة إليه.
لقد ذكرت باقتضاب الأسباب التي دفعت فئة من المسيحيين إلى الارتداد عن القرآن. إليكم الآن النقاط البارزة التي يستند إليها بعض المسلمين للطعن في المسيحية:
- الله واحد في أقانيم ثلاثة (الثالوث).
- لقب “ابن الله” المنسوب للمسيح.
- ألوهية المسيح.
- صلب وموت المسيح.
- “تزوير” التوراة والإنجيل.
ما يهمنا في هذه النقاط هو معرفة ما يقوله الوحي الإلهي عنها، إذ نريد أن يكون جدلنا مبنياً على أساس متين لـ [ كتاب منير ] كما أوصانا القرآن الكريم. فإن وجدنا هذه النقاط في كتب الوحي قبلنا بها واستسلمنا لها. وإن لم نجدها فيها، طرحناها بعيداً عنا.
بعد الجواب على هذه النقاط، سنكون قد دحضنا حجة بعض المسيحيين لرفض القرآن على أساس أنه يخالف الإنجيل. فتبطل تلك الحجة لأننا سنكون قد أظهرنا الاتفاق بين القرآن والإنجيل. وننهي الباب الثاني هذا بموجز عن سيرة محمد.
الله واحد في أقانيم ثلاثة
في التوراة، كشف الله عن ذاته، الإله الوحيد، الخالق الكون، الذي لا إله إلا هو. وأتى الإنجيل ليؤكد على هذا الوحي الصادق، مضيفاً إليه فارقاً دقيقاً وأكثر عمقاً أوحى الله فيه أن وحدته لا تعني وحدانية أو عزلة، فكشف أنه واحد في “أقانيم” ثلاثة هي: الله – كلمته – روحه. فيقول الرسول يوحنا في مطلع إنجيله:
“في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان الله. كلٌّ به خُلق، وبدونه لم يُخلق شيء مما خُلق… والكلمة صار جسداً وسكن بيننا” (يوحنا 1، 1 – 14).
هذا هو كلام الوحي الإنجيلي الذي يعلمنا أن لله “كلمة”، وأن الكلمة هو الله نفسه. فالله وكلمته هما جوهر واحد، كما أن الإنسان وكلمته هما جوهر واحد. الكلمة الذي “صار جسداً وسكن بيننا” هو المسيح، “كلمة الله”، كما أوحى الله ذلك في القرآن أيضاً.
في الإنجيل، أوصى المسيح تلاميذه أن يعمّدوا المؤمنين به باسم الآب، والابن (كلمة الله) والروح القدس:
“فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28، 19).
نلاحظ أن المسيح لم يطلب من رسله أن يعمّدوا “بأسماء”، في الجمع، بل “باسم”، في المفرد. لأن الله واحد، واسم الله يذكره المسيح بصيغة المفرد (إسم)، لا بصيغة الجمع (أسماء). من هذا الكلام يستنتج المؤمن أن الله هو: آب-ابن-روح قدس، أو بعبارة أخرى لا تختلف عن الأولى: الله-كلمته-روحه.
إن المسيح، قبل أن يترك هذا العالم، وإذ رأى تلاميذه غارقين في حزن عميق لعلمهم أنه سيرحل عنهم، قال لهم إنه سيرسل لهم من يعزيهم بعد ذهابه، قاصداً الروح القدس الذي سيحل مكانه كرفيق دائم لهم:
“أنا أسأل الآب فيعطيكم معزياً آخر ليقيم معكم إلى الأبد، روح الحق (الروح القدس)… لا أترككم يتامى؛ إني آتي إليكم” (يوحنا 14، 16 – 18).
فهِم المؤمنون من هذا الكلام أن الروح المعزي الذي سيأتي بعد انتقال المسيح إلى السماء، هو روح الله، روح المسيح، الله نفسه. لذلك قال لهم: “لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم”. بقوله “إني آتي إليكم”، بعد قوله إنه سيرسل “المعزي وروح الحق”، قصد أنه وهذا الروح هما واحد. لذلك دعي المسيح كلمة الله وروح الله، وأتى القرآن الكريم ليصدّق على ذلك قائلاً:
[ إنما المسيح ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ] (قرآن 4؛ النساء 171).
يظن البعض أن هذا الروح المعزي الذي وعد به المسيح رسله هو النبي محمد. إلا أن هذا التفسير لا ينطبق على ما جاء في الإنجيل ولا في القرآن عن الروح. فيقول الوحي الإنجيلي إن المسيح أرسل الروح القدس على رسله بعد صعوده إلى السماء بعشرة أيام “فامتلأوا كلهم من الروح القدس، وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم” (أعمال الرسل 2، 4).
لا يمكن لهذه الآية ولسائر الآيات الإنجيلية والقرآنية عن الروح القدس أن تنطبق على النبي محمد. علاوة على ذلك، إن الإنجيل والقرآن كلاهما يكشفان أن الروح القدس حلّ على مريم العذراء لتحمل السيد المسيح في أحشائها:
“فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحلّ عليكِ، وقدرة العلي تظللك” (لوقا 1، 35).
[ المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ] (قرآن 4؛ النساء 171).
[ فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً ] (قرآن 19؛ مريم 17).
فكيف يمكن للنبي محمد إذاً أن يكون هو هذا الروح؟ هذا التفسير خاطئ من أساسه لأن النبي محمد لم يولد إلا ستة قرون بعد تلك البشارة، كما أنه لا يمكننا أخذ هذا التفسير الخاطىء بعين الاعتبار لأنه لا يرتكز على أي أساس كتابي.
في التوراة أيضاً، أوحى الله حقيقة الثالوث بطريقة لا يمكن فهمها إلا مع الوحي الإنجيلي. فكتاب التكوين يروي ظهور الله لأبينا إبراهيم، خليل الله، على هيئة ثلاثة أشخاص:
“تجلّى الرب له (لإبراهيم)… فرفع إبراهيم عينيه ونظر، فإذا ثلاثة رجال واقفين أمامه. فلما رآهم (في صيغة الجمع) بادر إلى لقائهم، وسجد إلى الأرض وقال: يا سيدي (في صيغة المفرد)، إن نلتُ حظوة في عينيك فلا تجز عن عبدك… أقدم كسرة خبز فتسندون (في صيغة الجمع) بها قلوبكم ثم تمضون …” (تكوين 18، 1 – 5).
الأمر الغريب في هذه القصة التوراتية هو أن إبراهيم يخاطب هؤلاء “الرجال” الثلاثة كواحد، مستعملاً صيغة المفرد حيناً، وصيغة الجمع حيناً آخر، ويبدو وكأنه في حيرة أمام هذا الظهور الإلهي. لقد خلط كثير من المسيحيين، في فجر المسيحية، بين “الثالوث” (إله واحد في “ثلاثة”) والتثليث (ثلاثة آلهة). الثالوث هو الإيمان بأن الله واحد، وأن في جوهره الإلهي الواحد “أقانيم” ثلاثة، لا آلهة ثلاثة.
إن كلمة “أقنوم” ـ جمعها أقانيم ـ كلمة اصطلح عليها علماء اللاهوت، وهي تنطبق على حقيقة روحية تتعلق بالله وحده، لا بغيره.
يدعونا الله في الوحي الإنجيلي إلى تمييز كلمته وروحه في ذاته الإلهية. فذات الله هي “الآب” أو “الله”، وكلمته المنبثقة منه، أو “المولودة” منه وفيه ـ روحياً بالطبع ـ هي “الابن”، وذهنية الله هي “الروح القدس”. إن هذه الكلمة وهذا الروح هما كلمة الله وروحه، لا كلمة وروح إلهين آخرين. هذا ما نعنيه بأقانيم ثلاثة في جوهر واحد. الثالوث هو إله واحد في ثلاثة أقانيم، يمكن تمييزهم لكن لا يمكن فصلهم.
هنالك من يسأل: “لماذا كل هذا التمييز وكل هذه المصطلحات المعقدة؟ نجيب: “لأن الله هو الذي بادر وأوحى بما يريدنا أن نعلمه عن ذاته الإلهية. فواجبنا بالتالي أن نجتهد لندرك في النهاية أن الأمر ليس معقداً للدرجة التي نظن”.
أما فيما يخص التثليث، فهي عقيدة تختلف كلياً عن الثالوث، لأنها تقول بوجود ثلاثة آلهة في ثلاثة جواهر إلهية مختلفة، لكل إله جوهره الخاص به: كإله الخير، إله الشر، وإله العقاب مثلاً، والثلاثة أزليون، ومنفصلون واحدهم عن الآخر. وهذا بالطبع كفر أدانه القرآن، والرسل، والرؤساء المسيحيون في القرون الأولى. المورمون وبعض الطوائف الهندوسية يؤمنون بالتثليث.
لقد قام بعض اليهود الماكرين، منذ نشأة المسيحية، بمحاربتها وشق صفوفها عن طريق الهرطقة ونشر البدع، ومنها بدعة التثليث. حتى أن بعض آخر زعم أن مريم، أم المسيح، هي من الآلهة الثلاثة. وقد انتشرت بدعة التثليث، وهي خليط من المسيحية الفاسدة والوثنية، في القرون الأولى من المسيحية. لذلك السبب يدين القرآن بدعة التثليث بقوله:
[ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد ] (قرآن 5؛ المائدة 73).
(تفسير “الجلالين”: أي أحدهما والآخران عيسى وأمه وهم فرقة من النصارى)
لاحظ أن القرآن يقصد فقط “فرقة من النصارى”، لا كلّهم، هم المقصودون في الآية. ويوضح مرة أخرى أن الآلهة الثلاثة، التي كانت تعبدها تلك الفرقة، هي الله وعيسى ومريم، فقال:
[ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سُبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ] (قرآن 5؛ المائدة 116).
[ يا أهل الكتاب لا تغلوا (لا تتجاوزوا الحد) في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا (إنهم آلهة) ثلاثة (الله وعيسى ومريم، تفسير “الجلالين”) انتهوا (من قول هذا) خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه ] (قرآن 4؛ النساء 171).
لا توجد اليوم أية عقيدة مسيحية تؤمن أن مريم إلهة، ولا أن الله [ ثالث ثلاثة ]. فهذا كفر بالطبع. فالإنجيل لم يقل ذلك، لأنه لا يوجد سوى إله واحد، جوهره الله وكلمته وروحه، وهذا لا يعني آلهة ثلاثة، بل إله واحد في “أقانيم” ثلاثة. كل من يستطيع أن يميز بين الأقانيم الثلاثة في ذات إلهية واحدة، وآلهة ثلاثة، أي بين “الثالوث الواحد في الجوهر”، و”التثليث المتعدد الجواهر”، يبرهن أنه قد بلغ درجة عالية من النضج الفكري والروحي. لأن كل مسيحي حقيقي لا يمكنه إلا أن يوافق على قول القرآن:
[ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد ] (قرآن 5؛ المائدة 73).
فليس من مسيحي جدير بهذا الإسم يمكنه أن يتفوه بمثل هذه الهرطقة. بل إنه، بالعكس، سيشجبها. فالله ليس “ثالث”، ولا “ثاني”، ولا “أول ثلاثة”: إنما الله واحد، لا إله إلا هو سبحانه تعالى! نتحد كلنا مع القرآن الكريم لننفي التثليث. ولو قصد القرآن نفي الثالوث لقال: “لقد كفر كل من قال إن الله واحد في ثلاثة”.
فليعلم المسيحيون اليوم أن القرآن لا ينعتهم بالكفر لأجل عقيدتهم، ولا يقصدهم في هذه الآيات الشريفة. وليعلم المسلمون ذلك أيضاً عن القرآن وعن إخوانهم المسيحيين.
لماذا إذاً هذا النفور المتبادل في حين أن هناك توافق بين الكتب المقدسة؟!
توضيح مبسّط عن الثالوث: إن الإنسان وكلمته جوهر واحد، والإنسان وروحه جوهر واحد. إذاً، الإنسان وكلمته وروحه جوهر واحد. من أعطى كلمته، أعطى كل ذاته، وحتى روحه. فكما أن الإنسان وكلمته (أو فكره، فالكلمة تعبر عن فكر الإنسان) وروحه كيان واحد، هكذا الله وكلمته وروحه واحد. إن قمنا بعملية جمع نضيف فيها الرجل على كلمته وروحه، لا ينتج عنها ثلاثة رجال، بل رجل واحد، الرجل نفسه، بطاقاته الثلاث. يمكننا أن نقول إذاً إن الإنسان هو أيضاً ثالوث، وصورة مصغرة للثالوث الإلهي. ولا عجب، فهو مخلوق على صورة الله.
مثل آخر عن الثالوث الأقدس: الشمس، نورها، وحرارتها هم ثلاثة جوانب لكيان واحد. الشمس تمثّل الله الآب، نورها يمثّل كلمته الحية والمحيية التي أرسلت نوراً للعالم، وحرارتها تمثّل الروح القدس الحي فينا. إن الذين لا يستفيدون من الشمس والحياة هم الذين يغلقون طوعاً نوافذ منازلهم.
في الإنسان حركة حياتية روحية حيوية بينه وبين نفسه. فيستشير نفسه، ويرضى عن أفعاله أو يكرهها؛ الإنسان ليس منغلقاً عن نفسه، منعزلاً عنها… إلا إذا كان في صراع مع نفسه، أو أصابه مرض نفساني يحجز شخصيته وعقد نفسانية تظهر عوارضها سريعاً في شخصية غير متزنة ومنشقّة.
تلك الحركة الحياتية الروحية والفكرية متوفرة عند الله تعالى بشكل كامل، لا انشقاق فيه. إننا، بفضل الوحي الإنجيلي، علمنا أن الله ليس واحداً فحسب، بل إنه ليس وحدانياً، فهو ليس منعزلاً عن نفسه، بل منفتحاً عليها وفي حضرتها، لا منغلقاً على نفسه كالصنم. في سلام تام مع نفسه، كلي الإدراك بكائنه. الله يحب نفسه لأنه يعلم أنه الجمال الكامل المستحب. لذلك كل من تأمل في الله بطهارة قلب شعر بانسجامه تعالى مع ذاته، فهو الاتزان الكامل، لا نقص فيه سبحانه، وهو الوحيد الذي يكتفي بنفسه وبغير حاجة إلى أحد.
إن الله، وتفكيره عن نفسه، ومحبته لكائنه الكامل، هو ما يعنيه الإنجيل بالآب (الله) والابن (الكلمة أو الفكرة الإلهية: “بنات أفكاره”) والروح القدس (بيئة المحبة الروحية التي يعيش فيها الله).
نقول عن إنجاز حققه إنسان إنه “بنات أفكاره” لأنه وليدها. إن الله يفكر بذاته، وهذا التفكير هو “الكلمة”، كلمة الله، أو نطقه، في ذاته وعن ذاته. هذا هو “الكلمة الذي صار جسداً وسكن بيننا” كما جاء في إنجيل يوحنا عن المسيح.
يدعونا القرآن إلى التمييز بين الثالوث والتثليث، فمن استطاع ذلك، يكون قد خطا خطوة روحانية وفكرية ناضجة تؤهله للاتحاد الأبدي مع المولى الحبيب المشكور على ما أوحاه لنا، نحن غير المستحقين، عن ذاته الفائقة الجمال والكمال والحياة.
المسيح ولقب “ابن الله”
كثيرون يُصدمون من لقب “ابن الله” المنسوب ليسوع المسيح لأنه، كما يقولون، ليس لله أبناء كما للبشر. إلا أن صفة “ابن الله” المرتبطة بالسيد المسيح تعني أن ليس له أب بشري كسائر البشر. فردّاً على سؤال: “من هي أم المسيح؟”، الجواب هو: “مريم”. و “من هو أبوه؟!”: يتفق الكتاب والقرآن على أن المسيح وُلد من مريم وهي عذراء، ولم يمسسها رجل، وأنه بالتالي ليس للمسيح أب بين الرجال. هذا ما يقصده الإنجيل، كما سنرى، بلقب “ابن الله”، وهي حقيقة تشهد لها التوراة ويشهد لها القرآن.
فجاء في التوراة، وقد تنبأت بمجيء المسيح، أن الله، في القرن العاشر ق.م، أرسل النبي “ناتان” إلى الملك داود ليبشره بولادة المسيح من سلالته. فيقول الله بهذا الصدد:
“أنا أكون له أباً ويكون هو لي إبناً” (صموئيل الثاني 7، 14).
ولم تتوضح هذه النبوءة إلا مع مولد المسيح.
ثم في القرن الثامن ق.م تنبأ النبي إشعيا أن المسيح سيولد من عذراء، إذ قال:
“ها هي العذراء تحبل وتلِد ابناً” (إشعيا 7، 14).
ولم تتوضح هذه النبوءة أيضاً حتى تحققها، فولد المسيح من عذراء لم تعرف رجلاً.
ثم جاء في الإنجيل أن الملاك جبرائيل عندما بشّر مريم بمولد المسيح منها، تعجبت وسألته:
“كيف يكون هذا وأنا (عذراء) لا أعرف رجلاً؟” أجابها الملاك: “إن الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تُظللك، فلذلك القدوس المولود منك يُدعى ابن الله” (لوقا 1، 34 – 35).
علينا أن نتمعن في كلام الملاك الذي يكشف عن السبب الذي لأجله دعي المسيح “ابن الله”، موضحاً أن “الروح القدس” هو الذي سيحل على مريم، “فلذلك يُدعى الطفل القدوس “ابن الله”، أي أنه ليس ابن أحد من الرجال.
ويكشف لنا إنجيل متى أيضاً أن الملاك ظهر بعد ذلك على يوسف الذي شك في أمر مريم، ليؤكد له على بتوليتها:
“فظهر ملاك الرب ليوسف قائلاً: لا تخف يا يوسف ابن داود أن تأخذ مريم زوجة لك، فهي حبلى من الروح القدس وستلد ابناً تسميه يسوع… وهذا كله ليتم ما قال الرب بلسان النبي (إشعيا)، ستحبل العذراء، فتلد ابناً…” (متى 1، 20 – 23).
وأنزل الله وحيه القرآني مصدّقاً على أعجوبة مولد المسيح من العذراء مريم بفعل إلهي لا بشري:
[ قالت (مريم للملاك) أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أَكُ بغياً قال كذلك قال (الملاك) ربك هو علي هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضياً فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً ] (قرآن 19؛ مريم 20 – 22).
هكذا أكد القرآن لعرب الجاهلية أن أم المسيح عذراء لأنها ولدته لا بواسطة رجل، بل بمبادرة وتدخل إلهيين. تلك الحالة الفريدة في تاريخ البشرية جعلت من المسيح، ومنه وحده، “ابن الله”؛ لأن لكل إنسان أباً وأماً. خلافاً لآدم، الذي خُلق من طين (أو تراب) ولا أم له، بيد أن للمسيح أمّاً عذراء هي مريم.
لكن كيف يمكننا إذاً أن نفهم ما جاء في القرآن عن وحدانية الله:
[ قُل هو الله أحد الله الصمد لم يَلِد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ] (قرآن 112؛ الإخلاص 1 – 4).
جوابنا هو أن هذا الكلام موجّه إلى مشركي مكة لتنزيه الله عن آلهتهم الخرافية، لا إلى المسيحيين عن المسيح. فقد كان أهل قريش، كما أوضحت آنفاً، يعبدون آلهة خرافية يعتقدون أنها تتزوج وتلد آلهة أخرى. فنزلت الآية تنزيهاً لله عن الأصنام. فهو أزلي، لم يلده إله آخر، ولا ينجب آلهة أخرى تشاركه في الألوهية كآلهة الميثولوجيا.
يدفعنا القرآن نفسه إلى هذا التفسير، إذ نجد في سورة الأنعام أن الله ليس له [ صاحبة ] ينكحها وينجب منها أولاداً كسائر آلهة قريش الخرافية:
[ بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة (ينكحها) وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ] (قرآن 6؛ الأنعام 101).
إن هذه الآية القرآنية لا تستهدف السيد المسيح إنما تقصد الذين
[ جعلوا لله شركاء الجن وخَلَقَهُم (الله) وخَرَقُوا له بنينَ وبنات (خرافيين) بغير علم (منهم إنهم مُخطئون) سبحانه وتعالى عما يصِفون ] (قرآن 6؛ الأنعام 100).
وفي نفس المعنى أيضاً يجب تفسير الآيات التالية:
[ وقالوا إتخذ الرحمَن ولداً (متضاجعاً) لقد جئتم شيئاً إداً… ] (قرآن 19؛ مريم 88).
لذلك يقول محمد في القرآن:
[ إن كان للرحمَن ولد فأنا أول العابدين ] (قرآن 43؛ الزخرف 81).
المقصود الإلهي الواضح في هذه الآية يشير إلى أولاد [ الجِن ] (آلهة وأرواح قريش الخرافية) الوارد ذكرهم أعلاه، لا إلى المسيح المولود من كلمة هذا الإله الواحد الذي كان النبي له تعالى [ أول العابدين ] إذ كان [ أول المسلمين ] في شبه الجزيرة العربية كما يوضح القرآن.
كان من الصعب على عرب الجاهلية استيعاب الحقائق الإنجيلية الروحية من جراء انغماسهم في أمور الجسد واعتقادهم أن آلهتهم تتزوج جسدياً بصاحبة ينكحونها. فأتى القرآن ليوضح لهم، بلغتهم وذهنيتهم ومستواهم الفكري، أن الإله الواحد الذي خلق كل شيء، لا يحتاج إلى [ صاحبة ] ينجب منها ولداً نكاحاً، لأن قدرته روحية، وهو بكلمة منه يخلق ما يشاء. لم يكن العرب مهيئين لفهم الخلق بأمر إلهي، فبيّن الله لهم في القرآن، وبلغة يفهموناه، الفرق الشاسع بين تصرفه وتصرف آلهتهم الخرافية، فقال:
[ ما كان الله أن يتخذ من ولد (نكاحاً كآلهة قريش الخرافية) سبحانه إذ قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ] (قرآن 19؛ مريم 35). (مراجعة تفسير الجلالين)
وأيضاً قوله تعالى في سورة الزمر:
[ لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلُقُ ما يشاء سُبحانه هو الله الواحد القهار ] (قرآن 39؛ الزمر 4).
إلا أن القرآن يعود موضحاً أن الله اصطفى مريم لأنه أراد منها إبناً:
[ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساءِ العالمين ] (قرآن 3؛ آل عمران 42).
[ قال (الملاك لمريم) إنما أنا رسول ربّك لأهَبَ لَكِ غُلاماً زكياً قالت أنّى يكون لي غلامٌ ولم يَمْسَسْني بشر… قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آيةً للناس ورحمةً منا وكان أمراً مَقضِياً فحَمَلَتهُ… ] (قرآن 19؛ مريم 19 – 22).
وهذا ما حصل فعلاً مع السيد المسيح. فيصرّح القرآن، كما رأينا، أن المولى عز وجل اصطفى مريم البتول – دون سواها من نساء العالمين – لأجل أن يخلق، في أحشائها، وبكلمته الإلهية، مسيحه المبارك. فهناك إذاً، في أحشاء مريم، قال الله للمسيح: [ كُن! ] فكان. فحَملت العذراء في الحال بكلمة الله، كما تكشفه سورة آل عمران:
[ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ] (قرآن 3؛ آل عمران 45).
هكذا يأتي القرآن مصدّقاً على الوحي الإنجيلي فيما يخص المسيح:
“والكلمة صار جسداً وسكن في ما بيننا. فرأينا مجده مجداً من الآب لابنه الوحيد الممتلئ نعمة وحقّاً” (يوحنا 1، 14).
فمقصود الوحي الإلهي إذاً من لقب “ابن الله” هو أن المسيح ليس له أب بشري. هذا هو المعنى الروحي الحقيقي لهذا اللقب الذي يؤكّده الكتاب والقرآن معاً. من أراد جدلاً متعصباً، فرّق صفوف المؤمنين، وسيكون عليه أن يتحمل كامل المسؤولية أمام عرش المولى. أما بالنسبة لنا نحن الملتزمون في [ الصراط المستقيم ]، فقد بيّنا حقيقة المقصود الإلهي ووحدة الوحي في الكتاب والقرآن، واهتدينا في [ الصراط المستفيم ] باللجوء إلى [ الجدل بالتي هي أحسن ] الذي يوحّد صفوف المؤمنين.
نذكر في النهاية هذه الآية القرآنية:
[ وقالت اليهود عُزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون ] (قرآن 9؛ التوبة 30).
علينا أن نفهم هذه الآية آخذين بعين الاعتبار أن القرآن جاء مصدّقاً على الكتاب المقدس لا مبطلاً له. العمل بخلاف ذلك يؤدي إلى أبشع البراهين وإلى الانحراف نحو الجدل بالتي هي أسوأ لا نحو التركيز على الجدل بالتي هي أحسن الذي هو [ الصراط المستقيم ] الذي يحدده القرآن. في هذا الصراط المنير، نفهم هذه الآية بالطريقة التالية: “المسيح هو ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم”، ليس متجذراً في قلوبهم ولا يجر معه أية نتائج روحية إيجابية على صعيد تصرفاتهم اليومية. فهم يتابعون حياتهم وكأنهم وثنيون. فلو كان هذا الكلام منبثقاً من أعماق قلوبهم، لكان غيّر مسار حياتهم. والحال هو أنهم يتصرفون في كل شيء مثل الوثنيين المشركين. [ يضاهؤون ]، أي يضاهون، مستخدمين للأسف اسم المسيح، الكفار الذين قالوا قبلهم عن آلهتهم التي تنجب البنين والبنات. هكذا يشابه هؤلاء السفهاء الوثنيين بكل شيء وينالهم نفس المصير.
اليوم أيضاً، لا نقدر إلا أن نلاحظ الانحدار الأخلاقي لدى معظم المسيحيين الذين يقولون من “أفواههم المسيح هو ابن الله”، ولكنهم يتصرفون كأبناء الشيطان. لقد كان المسيح على حق عندما قال:
“يا مراؤون، صدق إشعيا في نبؤته عنكم حين قال: هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيد عني. وهو باطلاً يعبدني بتعاليم وطقوس وضعها البشر” (متى 15، 7 – 9).
إن القرآن ينقل بلغته وأسلوبه كلام المسيح هذا الموجّه للمؤمنين الكذبة.
ألوهية المسيح
لم يكن ليخطر على بال أحد أن الله هو نفسه سيتّخذ جسداً بشرياً ليظهر به في العالم الذي خلقه، دون أن يستنكف من هذا التنازل، فيكلّم الإنسان الذي جبله، مجالساً إياه كإنسان مثله. أما الإنسان، ومن جراء غريزته الشريرة والمتكبرة، فهو يرفض أحياناً أن يؤمن بأن الإله العلي العظيم يتواضع إلى مستوى خليقته البشرية.
ماذا يقول الوحي الكتابي– القرآني عن التجسد الإلهي؟
إن التوراة تحضّر المؤمنين لقبول حقيقة التجسد الإلهي على مرحلتين. في مرحلة أولى، أوحت التوراة حقيقة وجود الله الواحد الأحد. ثم في مرحلة ثانية، أوحى الله النبوءات عن السيد المسيح الذي سيرسله، مقدماً إياه بصفات ومميزات خارقة.
في المرحلة الأولى
كان الناس، قبل التوراة، يعبدون آلهة دكتاتورية، يُستعبدون لها بخوف وقلق. فأتت التوراة لتكشف عن الإله الواحد، الحنون، الرحمَن، الرحيم، غافر خطايا المستغفرين (خروج 34، 5 – 7)، ظهر مخاطباً ومحاوراً إبراهيم، ولموسى والأنبياء يكلمهم عن المحبة، في حين كان عابدو الأوثان يرتجفون خوفاً أمام آلهتهم وينسحقون أمامها لإظهار خضوعهم التام لها. أما الله فقد علمنا في التوراة أن نحبه كأب يسهر على أطفاله المؤمنين، لا أن نرتعب منه إلا إذا كنا من الظالمين:
“الرب الرب إله رحيم حنون، بطيء عن الغضب وكثير المراحم والوفاء. يحفظ الرحمة لألوف الأجيال، ويغفر الإثم والمعصية والخطيئة. لا يبرئ الأثيم، بل يعاقب…” (خروج 34، 5 – 7).
ويؤكد القرآن بدوره في آياته المنيرة على هذه الحقيقة كاشفاً لنا أن الله
[ رحمَن رحيم ] (قرآن 1؛ الفاتحة 1).
في المرحلة الثانية
وعد الله بإرسال المسيح، رحمة منه على الناس، لينتشلهم من جحيم الأنانية والغطرسة والجهل. أوحى لأنبيائه أن هذا المسيح سيكون متواضعاً، لكن بهذا التواضع تتجلّى عظمته. ونسب الله إليه أسماء رمزية تكشف طبيعته الإلهية وشخصيته البشرية الفريدة. فقال عنه النبي إشعيا (القرن الثامن ق.م):
“السيد الرب نفسه يعطيكم هذه الآية: ها إن العذراء ستحبل وتلد ابناً اسمه عمانوئيل”. (إشعيا 7، 14)
“عمانوئيل” يعني “الله معنا” (متى 1، 23). وهكذا، فالله هو نفسه معنا في المسيح.
وأعطى إشعيا أيضاً لهذا الإبن أسماء فريدة أخرى:
“ولد لنا ولد وأعطي لنا ابن فصارت الرئاسة على كتفه ودعي أسمه عجيباً مشيراً إلهاً جبّاراً، أبا الأبد، رئيس السلام”. (إشعيا 9، 6)
لم يعطِ الله أبداً لقب “إله جبّار” و “أبا الأبد” لأي نبي. كما لا يتجرأ أي إنسان عاقل على حمل هذين اللقبين. في حين أننا نجد في العالم العربي أسماء مثل: “عبد الله”، “عبد المسيح”، و “عبد النبي”. فكأن الله يقول في التوراة، من خلال هذه الأسماء الإلهية المعطاة للمسيح، إنه سيأتي هو بنفسه في جسد المسيح.
تظهر ضرورة التجسد الإلهي لخلاص الإنسان في صرخة النبي إشعيا المفجعة مستنجداً بالله، داعياً إياه تعالى للظهور شخصياً على الأرض:
“ليتك تشق السماوات وتنزل…” (إشعيا 63، 19).
هناك نبوءات أخرى في التوراة للنبي ميخا (القرن الثامن ق.م)، وهو معاصر للنبي إشعيا، تنبأ فيها بمولد المسيح في بيت لحم ثمانية قرون قبل ميلاده، مستطرداً أن “مخارج” أو “أصول” المسيح تعود إلى أيام الأزل:
“يا بيت لحم (في منطقة) أفراتة، صغرى مدن يهوذا، منك يخرج لي سيد على بني إسرائيل، يكون منذ القديم، منذ أيام الأزل”. (ميخا 5، 2)
فكيف يأتي المسيح في المستقبل، 750 سنة بعد ميخا، وتكون أيامه منذ الأزل؟ لم تُفهم هذه النبوءة إلا بعد تحققها. فقد أعلن يسوع لليهود في خطاب حاد:
“الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن”. (يوحنا 8، 58)
نعرف أن إبراهيم سبق المسيح على أرضنا بألفي سنة. فكيف يقول المسيح إنه كان في الوجود قبل إبراهيم، إلا إذا، كما قال ميخا، كانت أصوله تعود إلى أيام الأزل؟ تظهر أزلية المسيح أيضاً من كلام المسيح نفسه عندما كان يصلي أمام تلاميذه، مخاطباً أبيه السماوي:
“أنا قد مجدتك (يا الله) على الأرض… فمجدني الآن يا أبي عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك من قبل خلق العالم”. (يوحنا 17، 4 – 5)
يعلن المسيح في هذه الآية عن وجوده “قبل خلق العالم”، أي عن ألوهيته. يتوجه المسيح هنا إلى أبيه بصوت عال وفي حضرة تلاميذه ليعلّمهم بأي روح يجب مخاطبة الله: بلطف وحنان. وليكشف أيضاً عن طبيعته الإلهية للمستمعين إليه، فهو كائن إلى جانب الله “قبل خلق العالم”. في الوحي الإنجيلي، آيات عديدة تكشف عن أزلية روح المسيح، لا جسده البشري بالطبع، الذي خُلق فوُلد كسائر الناس.
يستغرب البعض من أمر التجسد الإلهي، ويتساءلون بذهنية مادية، تحد من قدرة الله، فسمعنا من يقول: “لو تجسد الله بالمسيح على الأرض، فكيف كان يدير العالم والفلك من السماء؟!” هذه رؤية ساذجة وصبيانية لجبروت الله. فالله ليس بحاجة لأن يترك السماء ليظهر على الأرض! سبحانه القدير على كل شيء، يدير الكون أينما كان وبمجرد إرادته وبكلمة منه تعالى. في عصرنا باتت حقيقة التجسد الإلهي مفهومة أكثر من أي عصر مضى، بعد أن كشف علم النفس عن طاقات الروح المجهولة. فالإنسان الروحاني يستطيع أن ينتقل بروحه بعيداً عن جسده آلاف الكيلومترات، بل وأن يظهر بالروح لأشخاص في بلدان بعيدة عن جسده، وأن يسيطر عن بعد على تفكير الآخرين، أو حتى أن يوجه أفراداً وجماعات بعيدة عن جسده. فإن كانت تلك هي قدرة روح الإنسان المخلوق، الذي لم يكتشف كل طاقاته الروحية بعد، فما بالكم بروح الله القدوس القادر على الخوارق والمستحيلات؟! فالله بوسعه أن يتجسد على الأرض دون أن يترك السماء.
مع ذلك، ما يهمنا في أمر الوحي ليس ما يظنه الناس وما يقول عنه بعض دعاة الإيمان به، بل ما أوحاه الله هو بنفسه لأنبيائه عن مخططه، وإن كان في ذلك شك لبعض ذوي الإيمان الرخيص، الذي يتمسكون بتفكيرهم الضيق، رافضين الانفتاح على ما يريدنا الله أن نفهم.
ماذا يقول القرآن الكريم عن المسيح؟ يقول إنه كلمة الله وروح منه:
[ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ] (قرآن 3؛ آل عمران 45).
لاحظوا أن اسم هذه الكلمة الإلهية هو “المسيح عيسى”، أي أن المسيح هو “كلمة الله”. وكلمة الله لا تنفصل عن الله، فهي مثله ومعه منذ الأزل، كونها من جوهره الإلهي كما أوحى الله في الإنجيل:
“في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان الله… والكلمة صار جسداً“. (يوحنا 1، 1 – 14)
يكشف لنا القرآن أن المسيح هو أيضاً روح الله:
[ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ] (قرآن 4؛ النساء 171).
فكما أننا لا نستطيع أن نفصل الكلمة عن صاحبها، كذلك أيضاً لا يمكننا أن نفصل روحه عنه، فكلمة الله هي الله نفسه، وروح الله هي أيضاً الله، وهو الثالوث الإلهي الواحد في الجوهر، الوارد ذكره في الوحي الإنجيلي.
يجادل البعض في ذلك مستعينين بحجج خسيسة لا أساس لها من الصحة، كقولهم على سبيل المثال، إن هناك رؤساء دينيون يحملون لقب “روح الله” دون الانتماء إلى جوهر الله. جوابنا هو أن التقاليد البشرية هي التي نسبت للناس مثل هذه الألقاب، وأن الوحي الإلهي منها براء. إن الكتب السماوية لم تقل يوماً عن أي نبي، مهما عظمت مكانته عند الله، إنه كلمة الله أو روح منه تعالى. هنا أيضاً يتجلى شكل من أشكال انحراف التقاليد عن الوحي.
لقد استخدم الله تعالى أحسن الأساليب مع العرب ليكشف لهم تدريجياً حقيقة جوهر المسيح، بموجب خطه التربوي الحكيم. من يريد أن يتعمق في حقائق الوحي، عليه أن يلجأ إلى الكتاب، وأن يقرأه، ولكن أن يفعل ذلك مستنجداً بروح الله، لا أن يقرأ بروح محض بشرية أو فلسفية تحجب الحقائق الروحية عن العقل. ليس المهم مطالعة كتب الوحي، وإنما الروح التي بها نقرأ تلك الكتب السماوية.
إن كان القرآن لا ينفي ألوهية المسيح، فكيف يمكننا أن نفسر الآية الكريمة التالية:
[ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ] (قرآن 5؛ المائدة 72).
يشير القرآن هنا إلى فئة من المسيحيين الظالمين الكفار. لاحظ أن الآية لا تقول: “لقد كفر كل من قال إن الله هو المسيح”، بل [ الذين قالوا إن الله هو المسيح ]، وهم المسيحيون أو النصارى(*) المعروفون بمعشر الذين يقولون “إن الله هو المسيح”. علينا أن نفهم الجملة بهذه الطريقة: “لقد كفر المسيحيون…”
(*) يميز البعض بين النصارى والمسيحيين. هذا التمييز غير وارد إطلاقاً في القرآن الكريم، ويدل على جهل مروجي هذا التمييز. فكلمة “النصارى” منشقة من “الناصرة”، بلدة المسيح، وتعني أتباع المسيح “الناصري” وهي مرادف لكلمة “المسيحيون”.
ولكن لماذا كفروا؟ ألأنهم قالوا إن الله هو المسيح؟ طبعاً لا. لو كان هذا هو المقصود الإلهي، لنزلت الآية واضحة بشكل غير قابل للجدل، مبددة كل سوء فهم، مثلاً: “لقد كفر كل من قال إن الله هو المسيح”، أو أيضاً، “كل من يقول إن الله هو المسيح يكفر”. إلا أن القرآن لا يعتبر كل النصارى كفاراً، بل على العكس تماماً، إنه يقول حسنات كثيرة عنهم ويمدح فضائل كثيرين منهم، علماً بأنهم يقولون: “إن الله هو المسيح”.
[ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا (بالقرآن) الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ] (قرآن 5؛ المائدة 82).
تجدر الملاحظة إلى أن هؤلاء القسيسين والرهبان يؤمنون أن الله هو المسيح، ومع ذلك يثني القرآن عليهم:
[ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] (قرآن 2؛ البقرة 62).
[ الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به (بالقرآن) يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو (الشتم) أعرضوا عنه ] (قرآن 28؛ القصص 52 – 55).
نستنتج من هذه الآيات الشريفة أن القرآن لا يدين بوجه عام كل “الذين يقولون إن الله هو المسيح” لقولهم هذا، وإلا لقضى عليهم جميعاً. إنما مقصود الله الحقيقي في هذه الآيات هو إدانة فئة من النصارى التي كفرت من جراء أعمالها الشريرة، لكنه يثني على المؤمنين الصالحين منهم لأعمالهم الصالحة، فيطمئنهم قائلاً:
[ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ] (قرآن 2؛ البقرة 62 / قرآن 5؛ المائدة 82).
يميز القرآن بين فئتين من النصارى: فئة صالحة وأخرى طالحة وهي المنعوتة بالكفر. فيقول:
[ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يُؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف ويَنهون عن المُنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفَروهُ والله عَليم بالمُتقين ] (قرآن 3؛ آل عمران 113 – 115).
[ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ] (قرآن 3؛ آل عمران 69).
[ ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ] (قرآن 3؛ آل عمران 75).
يجب ملاحظة تمييز الوحي القرآني بين فئتين من أهل الكتاب. فالطائفة الضالة هي الكافرة، لا لأجل إيمانها بألوهية المسيح، بل من جراء أعمالها السيئة وخصوصاً سرقة أموال الناس. فالقرآن الذي يثني من ناحية على الرهبان والقسيسين، يفضح من ناحية أخرى رهباناً آخرين بقوله:
[ يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ] (قرآن 9؛ التوبة 34).
والحال هو أن “أكل أموال الناس”، وفقاً للوحي الإنجيلي، يعادل عبادة الأوثان. فقد علّمنا الوحي أن كل عمل كافر وكل فحشاء هي بمثابة عبادة أوثان، وهي بالتالي إشراك بالله. فيقول الوحي الإنجيلي:
“اعلموا هذا جيداً: إنه ليس للزاني، ولا للنجس، ولا لطماع – وكلهم عابدو أوثان – ميراث في
ملكوت الله والمسيح” (أفسس 5، 5).
وقال السيد المسيح أيضاً في الإنجيل:
“لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض أحدهما ويحب الآخر، وإما أن يتبع أحدهما وينبذ الآخر، فأنتم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (متى 6، 24)
ويقول بولس أيضاً:
“أنتم تعلمون أن الزاني والفاسق والفاجر، وهو عابد أوثان، لا ميراث له في ملكوت المسيح والله”. (أفسس 5، 5)
ومع كل ذلك، يدعي كثير من المسيحيين الانتماء للمسيح، في حين أنهم ليسوا في الحقيقة إلا عبدة أوثان، قد أشركوا آلهة المال والملذات بالله.
فلا عجب أن يفضح القرآن، بعد الإنجيل، تلك الفئة الكافرة من معشر المسيحيين الذين يقولون إن الله هو المسيح. هؤلاء النصارى منعوتون بالكفر لإشراكهم حب المال والملذات بالله، لا لقولهم إن الله هو المسيح. هذا هو تفسيرنا.
وإننا نصدّق على الوحي القرآني: نعم، كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح؛ ونحن ممن يقولونها مطمئنين آملين ألا نكون كفاراً بأعمالنا، مؤمنين أننا سنكون من بين المباركين ومن الذين [ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] (قرآن 2؛ البقرة 62).
غير أننا – كي نكون أكثر وضوحاً – نقول اليوم أيضاً: “لقد كفر الذين قالوا إن محمداً هو رسول الله”. ونحن نؤمن أن محمداً هو رسول الله، ونأمل أن لا نكون كفاراً بابتعادنا عن مبادئ القرآن ووصاياه الشريفة، وروحه السموحة الطيبة، التي ابتعد عنها الكثير الكثير ممن يقولون إن محمداً رسول الله.
كما أننا نقول: “لقد كفر الذين قالوا إن موسى نبي الله”. ونحن نؤمن بموسى نبياً، ونكفر بالصهاينة الذين يقولون إن موسى نبي الله.
إن التجسد الإلهي أمر كان لا بد منه بسبب الظلمات الحالكة التي غرق فيها الإنسان، فضل ضلالاً مبيناً، عجز الأنبياء أنفسهم عن إنقاذه منه. ويظهر هذا العجز من كلام النبي إشعيا القائل:
“كلّنا ضللنا” (إشعيا 53، 6).
فالله وحده لا يضل السبيل. وهو وحده قادر على تحرير الإنسان من الضلال. لذلك:
“صار الكلمة جسداً وسكن بيننا” (يوحنا 1، 14).
لقد استجاب المولى العزيز لصرخة النبي إشعيا المفجعة:
“آه، ليتك تشق السماوات وتنزل” (إشعيا 63، 19).
صلب المسيح
لقد تنبأت التوراة بالمسيح موضحة أن اليهود سيزدرونه ويقتلونه. فقال النبي إشعيا (في القرن الثامن ق.م) متنبئاً بالمسيح:
“مزدرى ومخذول من الناس، وموجع متمرس بالحزن. ومثل من تحجب عنه الوجوه نبذناه وما اعتبرناه. حمل عاهاتنا وتحمّل أوجاعنا، حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومنكوباً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل خطايانا. سلامنا أعده لنا، وبجراحه شفينا. كلنا كالغنم ضللنا، مال كل واحد إلى طريقه، فأَلقى عليه الرب إثمنا جميعاً. ظلم وهو خاضع وما فتح فمه. كان كنعجة تساق إلى الذبح، وكخروف صامت أمام الذين يجزونه ولم يفتح فمه. بالظلم أخذ وحكم عليه، ولا أحد في جيله اعترف به. إنقطع من أرض الأحياء وضرب لأجل معصية شعبه. وضع مع الأشرار قبره ومع الأغنياء لحده، مع أنه لم يمارس العنف ولا كان في فمه غش. لكن الرب رضي أن يسحقه بالأوجاع ويصعده ذبيحة إثم، فيرى نسلاً وتطول أيامه، وتنجح مشيئة الرب على يده” (إشعيا 53، 1 – 10).
هكذا وصفت التوراة مأساة وموت السيد المسيح قبل وقوعها بثمانية قرون. لو قيل هذا الكلام بعد حدوثه، لما كان الوصف أدق وأصح مما حدث فعلاً.
ماذا يقصد الوحي في هذه النبوءة بقوله: “مجروح لأجل معاصينا… كلنا ضللنا” ؟ ما هي تلك المعاصي، وكيف ضل اليهود؟ إنها معاصي الروح الصهيونية وأضاليلها التي تسللت في الشعب اليهودي على مر القرون وشجبها المسيح وأنبياء التوراة. “كلنا ضللنا”، قال النبي إشعيا. يتجلى هذا الضلال في تسييس اليهودية، أو تحويل اليهودية من دين إلى دولة. في حين أن الله أرادها إيماناً وتوبة للبشر أجمعين. لذلك أعلن المسيح:
“إن مملكتي (الروحية والعالمية) ليست من هذا العالم (السياسي الضيّق)” (يوحنا 18، 36).
إن اليهود الصهاينة يستمرون حتى اليوم في ضلالهم، محاولين، بعد احتلالهم فلسطين، توطيد أركان دولة إسرائيلية سياسية كبرى تمتد من النيل إلى الفرات. إن مأساة الشرق الأوسط سببها الصهيونية، وهي تعبّر عن مأساة المسيح في عصرنا، التي رفضها حتى الصليب.
لقد أصاب الضلال الصهيوني أيضاً رسل يسوع أنفسهم، إذ كانوا في البدء ينتظرون منه القيام بحركة صهيونية تحريرية، وبحملة عسكرية فاتحة، عنيفة ومسلحة، ضد الرومان والبلدان المجاورة لفلسطين. لذلك، وبعيداً عن كلام المجد عسكري، وجدنا المسيح يكلّمهم تدريجياً عن مأساته، ليهيئهم لنظرة مختلفة عن المسيح. فبعد أن تأكد أنهم آمنوا حقاً أنه المسيح المنتظر، كشف لهم المستوى الروحي لا السياسي لرسالته وأنه سيُصلب:
“ومن ذلك اليوم أخذ يسوع يصرّح لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً على أيدي شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة ومعلمي الشريعة، ويموت قتلاً، وفي اليوم الثالث يقوم” (متى 16، 21).
لكن تلاميذه لم يتقبلوا هذا الكلام لأول وهلة؛ رفض بطرس تلك الرؤية الغير سياسية، وهب صارخاً:
“لا سمح الله يا سيد، لا، لا يكون لك هذا” (متى 16، 22).
إلا أن المسيح وبخه وظل يكرر للرسل أن عليه أن يموت قتلاً على الصليب (متى 16، 23 ولوقا 9، 22 / 9، 44 – 45).
كانت الذهنية الصهيونية مسيطرة على اليهود، وعلى تلاميذ المسيح أنفسهم، لدرجة أنهم لم يفهموا قصد معلمهم حتى إلى ما بعد بعثه. فيقول الإنجيل إنه كان على يسوع، بعد قيامته من بين الأموات، أن يظهر لاثنين من تلاميذه كي يشرح لهما، من التوراة، النبوءات التي تكلمت عن قتله. فقال:
“يا قليلي الفهم ويا بطيئي الإيمان بكل ما قاله الأنبياء! أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام كلها ليدخل في مجده؟ ثم أخذ يفسر لهما ما جاء عنه في جميع الكتب المقدسة، من موسى إلى سائر الأنبياء (كتب التوراة)” (لوقا 24، 25 – 27).
لقد دخل المسيح في مجده – مجد روحي لا دنيوي ولا سياسي- من باب الفداء والاستشهاد. إن الاستشهاد من أجل الحق في نظر الله هو مجد وكرامة، وليس عار يخجل منه المرء كما يظن البعض. لم يحتقر المسيح الاستشهاد، ومن يرى في ذلك عاراً فهو ليس مقتدياً بروح الله القدوس. لقد لزم زمناً طويلاً لفهم هذه الطريقة في التفكير؛ كثيرون كانوا يشعرون بالفضيحة والعار مما سماه القديس بولس في رسالته “العائق الذي في الصليب” (غلاطية 5، 1) .
كثيرون ازدروا المسيح من أجل صلبه. لكن الرسل، على العكس، لم يخجلوا من موت معلمهم، لأن المسيح، بعد بعثه، فسر لهم عمق المعنى الحقيقي للصليب. ففهموا عندئذٍ هدف الله وحكمته وخضعوا لهما. فيقول الرسول بولس في الوحي الإنجيلي:
“فنحن ننادي بالمسيح مصلوباً، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيين” (كورنثوس الأولى 1، 23).
أراد الله من خلال موت المسيح أن يقيم معياراً للإيمان، يفرز من خلاله أتباع المسيح الحقيقيين، عن أتباع الصهاينة الذين آمنوا به لظنهم أنه سيؤسس المملكة اليهودية السياسية. هؤلاء الآخرون خاب أملهم به إذ رأوه مصلوباً وميتاً فارتدّوا عن حمل رسالته. فيقول القرآن الكريم في تلك الفئة المرتدة عن المسيح بعد موته، بعد أن كانت قد آمنت به ثم أدركت أنه لن يحقق لها حلمها الصهيوني:
[ وإن من أهل الكتاب (اليهود) إلا ليؤمنن به (بالمسيح) قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً (لأنهم رأوا آياته ولم يؤمنوا به بعد موته لتمسكهم بالصهيونية) ] (قرآن 4؛ النساء 159).
إن هذه الآية القرآنية تبرهن بوضوح أن المسيح قد مات فعلاً.
إن كان هذا وضع أهل الكتاب – اليهود وخاصة الكتبة والفريسيين منهم المهيئين لموت المسيح من خلال نبوءات التوراة – أمام المسيح المصلوب، فكيف بالأحرى كان على الله أن يهيئ عرب الجاهلية الذين لم يكن بمقدورهم استيعاب حقيقة الصليب؟ فلم يكن باستطاعة عرب الجاهلية أن يقبلوا مسيحاً مهزوماً في الظاهر، معلقاً على صليب من قبل جماعة مفروض عليها مبايعته.
لماذا كان لا بد للمسيح أن يستشهد؟ للقضاء على روح الصهيونية في أتباعه، حتى يعلموا، وهم يؤمنون أنه حقاً المسيح، إذ رأوه معلقاً على الصليب، أن الصهيونية ليست إلا خرافة يجب التخلي عنها.
لو أن المسيح لم يستشهد، لما فهم أتباعه خطأهم ولكانوا تمادوا في ضلالهم، طالبين منه تنفيذ المخطط الصهيوني بإنشاء مملكة إسرائيلية مستقلة عن الامبراطورية الرومانية، يترأسها هو ملكاً على إسرائيل، وقائداً لفتوحاتها. فقضى المسيح بصلبه على الأماني الصهيونية.
إن المسيح هو المخلّص لأنه أتى ليخلّص كل من يؤمن به، لا من سلاسل الصهيونية الخداعة فحسب، بل من كل عقيدة مماثلة، وإن تقنعت بالدين. هذا هو حال المسيحية والإسلام إذا تحولا “ديناً ودولة”. فكل محاولة لتسييس الدين، أي دين، هي صهيونية أخرى مقنعة تحت إسم آخر. وقع في هذا الفخ الكثيرون، منهم الفاتيكان نفسه منذ أن حُوّلت حاضرة الفاتيكان إلى “دولة الفاتيكان” سنة 1929.
(راجع كتاب “الإسلام والإيمان”- منظومة القيم – للدكتور محمد شحرور، الفصل الأخير منه وعنوانه “قول في الإسلام والسياسة” حيث يشجب تسييس الإسلام وأسلمة السياسة. دار النشر: “الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع”، دمشق- سنة 1996).
كما سبق أن ذكرنا، كان من المستحيل على عرب الجاهلية استيعاب رسالة المسيح المهزوم في الظاهر. لذلك قدّم لهم القرآن وقائع الإنجيل تمهيدياً، خاصة وأنهم كانوا يقيّمون الرجل بفروسيته ومهارته في السيف، لا بتواضعه وحنانه وقدرة استشهاده لأجل الحق. وهذه هي ذهنية كثير من المجتمعات حتى اليوم، كأنهم لم يتعلموا من الوحي شيئاً، فهم يزدرون ويستضعفون المتواضعين والودعاء، واصفين إياهم بالضعفاء. وهذه التصرفات هي من ملامح المنطق الصهيوني الذي انتصر عليه المسيح مستشهداً، وإياه متحدياً حتى الموت، والموت على الصليب.
لقد مهّد القرآن الكريم الحكيم العرب بدقة ولباقة متناهيتين لاستيعاب حكمة استشهاد المسيح على الصليب. ولن يتوصل إلى اكتشاف هذا الأمر إلا من بحث بتدقيق وحسن نية. فيدين القرآن اليهود قائلاً:
[ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله (برفضهم المسيح) وقتلهم الأنبياء بغير حق… وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم… بل رفعه الله إليه… ] (قرآن 4؛ النساء 155 – 158).
يتسرع بعض السطحيين إلى الظن أن هذه الآيات القرآنية الكريمة تنفي صلب وموت المسيح جسدياً. فيندفعون بالتالي، وبحماس، ويشنون هجوماً ضد الإنجيل – الذي يروي صلب يسوع – رافعين شعار التزوير، مناقضين، باستنتاجهم المتهور، الوحي القرآني المصدّق للإنجيل. ولو قرأوا في القرآن بهدوء وبدون تعصب، لوجدوه يتكلم عن موت المسيح.
هنا تظهر أهمية حاجة البحث عن وحدة الوحي، وضرورة التعمق في المقصود الإلهي من خلال [ كتاب منير ] يرشدنا، لئلا نقع في فخ التفسير الحرفي دون الروحي. إن القرآن نفسه يدفعنا إلى الالتزام بهذا الطريق بالإشارة الصريحة إلى موت المسيح الذي يقول في القرآن:
[ والسلام علي يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعث حياً ] (قرآن 19؛ مريم 33).
يتكلم القرآن إذاً عن موت المسيح وبعثه، مصدّقاً بذلك على الإنجيل. يظن بعض المؤمنين السطحيين أن هذه الآية تشير إلى عودة المسيح في آخر الزمان، وعندئذ سيموت، على حد قولهم. لا نجد في الوحي الإلهي أي أساس لهذا الهذيان، ولا نفهم لماذا يقبل هؤلاء “المؤمنون” بفكرة موت المسيح في آخر الزمان، ولا يقبلون بها في مجيئه الأول. تكلم القرآن أيضاً عن وفاة المسيح في الآية التالية من سورة المائدة، حيث يتكلم المسيح بعد وفاته مع الله عن اليهود الذين رفضوه بعد موته:
[ … وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلما تَوَفَيتَني كنتَ أنتَ الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ] (قرآن 5؛ المائدة 117).
وكما رأينا سابقاً، يدين القرآن أهل الكتاب (اليهود) الذين كفروا بالمسيح بعد موته:
[ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ] (قرآن 4؛ النساء 159).
وقد ورد ذكر وفاة المسيح أيضاً في الآية التالية من سورة آل عمران:
[ ومكروا (اليهود ليقتلوا المسيح) ومكر الله والله خير الماكرين إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا (اليهود الذين ينكرونك) وجاعل الذين اتبعوك (اليهود المؤمنون) فوق الذين كفروا (بك) إلى يوم القيامة ] (قرآن 3؛ آل عمران 54 – 55).
كيف نستطيع التوفيق بين الآيات القرآنية التي يعلن فيها الله بنفسه وفاة عيسى، والتي يعلن فيها عيسى بنفسه عن وفاته، وبين الآية القرآنية التي تقول:
[ ما قتلوه وما صلبوه لكن شبه لهم ] (قرآن 4؛ النساء 157).
فهل يناقض الوحي القرآني نفسه؟ قطعاً لا!
لقد رأينا أن الذين يتوقفون على التفسير الحرفي يتعثرون، فكما يقول القرآن:
[ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ] (قرآن 22؛ الحج 11).
إننا، بارتقائنا إلى مقصود الوحي الروحي ـ كي نفهم بحسب الروح لا الحرف ـ لا نرى في الآية 157 من سورة النساء نفياً لصلب وموت المسيح جسدياً. فما يقصده الله، هو أن اليهود، بصلبهم المسيح، لم يقضوا على رسالته. لقد تخيلوا أنهم بقتله يجهضون رسالته في مهدها، لكن ذلك [ شبّه لهم ]، وها أن رسالته قد انتشرت، بعد موته، انتشار النار في الهشيم، حتى أقاصي الأرض.
كان اليهود الصهاينة يخشون رسالة المسيح المناهضة للصهيونية، أكثر من خشيتهم لشخصه. وإذ برسالته التي استهدفوها مباشرة بقتله، تنتشر في العالم بسبب صلبه. هكذا انتصر الله، وهو [ خير الماكرين ]، على مكر اليهود (قرآن 3؛ آل عمران 54 – 55).
يظن البعض أن مكر الله فاق مكر اليهود الصهاينة لأنه رفع المسيح إليه، ولم يسمح لهم بقتله. هذا التفسير يخالف الوحي في الكتاب والقرآن، وبالتالي لا يمكننا أن نقبل به. نؤمن أن مكر الله فاق مكر هؤلاء الكفار بأن جعل من موت مسيحه هزيمة للصهيونية، ثم بعثه ورفعه إليه، وقد ظن اليهود الصهاينة أنهم أسقطوه ورسالته إلى أسافل الجحيم. لم يتوقف انتصار الله على اليهود على رفع المسيح، بل تعداه إلى رفع أتباع مسيحه فوق الكفار إلى يوم القيامة:
[ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك (اليهود المؤمنين) فوق الذين كفروا (اليهود الصهاينة) إلى يوم القيامة… ] (قرآن 3؛ آل عمران 55).
إننا لا نجد مبرراً للذين ينكرون صلب المسيح ظناً منهم أنهم بذلك يرفعون من شأنه. فهل الاستشهاد في سبيل الله عار؟ فيجيب الله هؤلاء الذين “ينزّهون” المسيح عن الصلب:
[ قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ] (قرآن 5؛ المائدة 17).
والحال، كما رأينا سابقاً، أن الكتاب المقدس يكشف لنا من خلال النبي إشعيا، ثمانية قرون قبل المسيح، أن الله قد قرر تسليم مسيحه للقتل:
… “إنقطع من أرض الأحياء وقُتِل لأجل معصية شعبه… رضي (الله) أن يسحقه بالأوجاع” (إشعيا 53، 8 – 10).
عقيدتنا راسخة بأننا [ لا نملك من الله شيئاً ] ولا يمكن لأحد أن يوقف يد الله الذي يعمل وفقاً لمخططه وحكمته اللذان غالباً ما يعجز الإنسان عن فهمهما، وأنه أراد فعلاً أن يهلك المسيح جسدياً، كما تنبأ بذلك الأنبياء في التوراة، وكما علّم المسيح في الإنجيل، وصدّق عليه القرآن. إنما، إن أراد الله أن يسحق مسيحه جسدياً، فذلك بهدف تمجيد نصره الروحي إلى الأبد، بتحطيم الصهيونية وإفرازاتها الكثيرة والمقنّعة في العالم والمتجسدة بدولة إسرائيل، تحطيماً نهائياً… وقريباً بإذنه تعالى.
الاعتقاد بأن المسيح لم يُقتل يعني الإيمان بمسيح سياسي وعسكري. وهذا شكل آخر من أشكال الصهيونية. كان على المسيح أن يقتل ليغيّر ذهنية ذوي النية الحسنة، الذين وقعوا في فخ المادة.
من بعد هذا التأمل نخرج باستنتاج بسيط وصادق: إن الإيمان بأن المسيح قد صلب فعلاً، لا يخالف تعاليم القرآن الكريم متى فُسِرت آياته الشريفة وفقاً للمعنى الروحي كما فسرناها، ولا يخالف الإنجيل. أما الإيمان بعدم صلب المسيح، فيدفع مفسري القرآن إلى البحث عن تفسيرات ملتوية يكيفونها مع سائر آيات القرآن والإنجيل التي تتكلم عن موت المسيح. فتكون نتيجة هذا التصرف نقض الإنجيل بدلاً من التصديق عليه كما يريد القرآن. هذا التصرف المذنب ليس [ الجدل بالتي هي أحسن ] ولا [ الصراط المستقيم ] الذي يوصي بهما القرآن الكريم.
إن الاستشهاد في سبيل الله فخر ومجد أبديان، ولا يمكن لأحد نزع إكليل المجد عن هامة السيد المسيح، الشهيد والفادي الأول والأعظم. مَن فهم هذه الحقيقة وهذا الواقع البديهي، سيكف عن محاولة “تنزيه” المسيح عن الاستشهاد على الصليب. فالموت في سبيل الله هو حياة أبدية كما يكشفه القرآن:
[ لا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ] (قرآن 2؛ البقرة 154).
إن القرآن منطقي مع نفسه، فهو لا يعتبر المستشهدين في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء. لذلك، لا يتوقف القرآن، الذي هو أول من يحترم وصيته، عند قتل المسيح، بل يعلنه حياً إلى الأبد. لم يقتله اليهود، فقد مكر عليهم [ خير الماكرين ] وأحياه إلى الأبد، [ لكنهم لا يشعرون ]. فيضيف:
[ ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزَقون ] (قرآن 3؛ آل عمران 169).
بناء على ذلك، نقول نحن المؤمنون بصلب وموت وقيامة المسيح: المسيح حي! [ فما قتلوه وما صلبوه لكن شبّه لهم ].
“تزوير” التوراة والإنجيل
البراهين القرآنية على صحة الكتاب
على مر القرون، روّج بعض اليهود إشاعة تزوير الكتاب المقدس، والإنجيل خاصة، على أيدي بعض المسيحيين. كان هدف اليهود من ذلك إقناع الناس بأن النبوءات التي يستند إليها المسيحيون للإيمان بيسوع مسيحاً، هي نبوءات مزورة وغير واردة في التوراة، أقله كما يقدمها المسيحيون. وبالتالي، فإن المسيحيين قد تلاعبوا بنبوءات الكتاب لتنطبق على يسوع، على حد قولهم.
كثيرون صدّقوا هذا الافتراء وتناقلوه إلى يومنا هذا، عاملين به، فاستهانوا بالكتاب، وبالإنجيل خاصة، حتى ذهب الأمر ببعض العرب إلى تحريم الإنجيل في بلادهم وبيوتهم، في حين أنهم يشرّعون أبوابهم أمام كتب ومجلات يحرّمها الخلق القرآني.
إن الادعاء بتزوير الكتاب بدعة من وحي الشيطان [ الذي يوسوس في قلوب الناس ] كذباً لتضليلهم، كما يقول القرآن:
[ الذي يوسوس في قلوب الناس ] (قرآن 114؛ الناس 5).
إننا لا نجد في الوحي القرآني آية واحدة تحذّر المؤمنين من الكتاب على أساس أنه مزور. بل على العكس، فالقرآن يقول إنه يأتي مصدّقاً للتوراة والإنجيل (قرآن 4؛ النساء 47). فهل يصدّق القرآن على ما هو مزور؟
وكيف يحذّر القرآن من الكتاب، والوحي واحد؟ والله العلي القادر على صيانة وحيه، لن يسمح بتزوير كتبه. وإلا فكيف يمكننا اللجوء إلى [ كتاب منير ] ليهدينا إلى [ الصراط المستقيم ] ؟ وأين يكون المرجع؟ من يفتري على الكتاب بالتزوير، يفتري كذلك الأمر على القرآن المصدّق عليه.
إن نقطة الاختلاف الكبيرة بين الوحي القرآني ومسلمين تقليديين كثيرين، تتجلى في أمر تصديق القرآن للكتاب وافترائهم عليه. فيقول القرآن:
[ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ] (قرآن 2؛ البقرة 121).
إن تفسير “الجلالين” لعبارة [ يتلونه حق تلاوته ]، هو “يقرأونه كما أنزل”. نتبنى هذا التفسير الصادق المصيب الجدير بالتعبير عن مقصود الرب الإله.
إن شهادة القرآن على صحة النص التوراتي والإنجيلي لا تقبل الجدل بالنسبة لنا. فنتساءل كيف يزعم البعض أنهم يؤمنون بالقرآن ويتجرأون في نفس الوقت على مخالفته؟ إنهم بافترائهم على الكتاب يكفرون، فيقول القرآن بوضوح إن
[ من يكفر به فأولئك هم الخاسرون ] (قرآن 2؛ البقرة 121).
ويشهد القرآن أيضاً على الإنجيل قائلاً:
[ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ] (قرآن 5؛ المائدة 47).
إن القرآن إذاً يدفع أهل الإنجيل أن يحكموا بموجبه إن أرادوا الهدى. أفليس هذا التصديق الإلهي القرآني شهادة لعدم تزوير الإنجيل ودعوة للرجوع إليه؟ وهناك يهود ومسلمون ومسيحيون كثيرون يقولون عكس كلام القرآن، فأي دينونة تنتظر [أولئك الفاسقين ]؟
إن الذين ينعتون الإنجيل بالتزوير، لا يعبّرون عن إيمان مطلق بالقرآن، بل عن تعصب أعمى ليس سوى قناع يخفي كراهيتهم لوحي الله. كذلك أيضاً كل الذين يزدرون القرآن بحجة تمسكهم بالإنجيل. لأن كل مسلم يؤمن بتزوير الإنجيل، هو ضد تعاليم القرآن. وكل مسيحي يطعن في القرآن هو ضد روح الإنجيل. وكل من يفهم حقاً روح الإنجيل لا يمكنه إلا أن يعانق القرآن.
فالقرآن يستند باستمرار إلى الكتاب كمرجعه الثابت والأكيد والأمين، إذ يشير الله لمحمد بالرجوع إلى قراء الكتاب إن شك مما أنزل في القرآن:
[ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرَؤون الكتاب من قبلك ] (قرآن 10؛ يونس 94).
كم نود أن نرى كل مسلم يعمل بروح القرآن، وكل مسيحي بروح الإنجيل، للتخلص من سلاسل التعصب الذي يقود إلى الهلاك الأبدي. فليقتدي كل مسلم إذاً بنبي الإسلام المتواضع الذي لم يشحن قلبه إلا بكلام التقوى والاحترام للتوراة والإنجيل:
[ إنا (الله) أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون… وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور… وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه … ] (قرآن 5؛ المائدة 44 – 47).
هل توجد آية قرآنية واحدة يمكن أن يرفضها المؤمن بالإنجيل بحجة أنها تطعن بالإنجيل؟ قطعاً لا، ليس في القرآن آية واحدة تمس بالإنجيل وتعاليمه، شرط أن يكون التفسير [ بالتي هي أحسن ]، والتفسير الأحسن هو الذي يصدق على الإنجيل، لا الذي يناقضه.
كل تفسير قرآني يناقض الإنجيل، هو شهادة زور على القرآن. فلا يسعنا إلا أن نأسف من أولئك الذين يسيئون تفسير القرآن، ثم يدعمون تفسيرهم الباطل هذا بحجة أن الإنجيل مزور. والحجة أقبح من الذنب، لأنهم يتناسون أن القرآن يعارضهم ويدينهم.
كما أننا نأسف من الذين يرفضون القرآن بحجة أنه يخالف الإنجيل، بيد أن القرآن لا يخالف الإنجيل إطلاقاً، بل إنه يصدق عليه! فلماذا إذاً يرفضونه بحجة باطلة؟ أفليس من الأفضل أن يؤمنوا به على أساس أنه للإنجيل مصدّق؟ فيقول القرآن لأهل الكتاب:
[ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا (القرآن) مصدّقاً لما معكم ] (قرآن 4؛ النساء 47).
لذا فعلى أهل الكتاب أن يجتهدوا بحثاً عن التفسير القرآني المصدّق لما معهم (الكتاب). فإذا عملوا بحكمة ومحبة، لتوصّلوا لا محالة إلى توحيد الصف والقضاء على النعرة الطائفية.
يوجّه القرآن وصاياه إلى المسلمين أيضاًً:
[ يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله (محمد) والكتاب (القرآن) الذي نزل على رسوله والكتاب (التوراة والإنجيل) الذي أُنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه (التوراة والإنجيل والقرآن) ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً ] (قرآن 4؛ النساء 136).
ليس في وسعنا أن نحكم على الذين يكفرون بالتوراة والإنجيل في نصّهما الحالي بأكثر من حكم الله عليهم [ فقد ضلّوا ضلالاً بعيداً ]. أقول “في نصّهما الحالي” لأنه نفس النص الذي عرفه النبي محمد. وهذا هو النص المقصود في الوحي، فالبراهين على أصالته كثيرة، حتى العلمية منها، وتبطل كل حجة مضادة. كما أنه لا يوجد، بالمقابل، أي برهان علمي على تحريفه. وإن وجد أحد المقتنعين بهذا التحريف هذا البرهان العلمي، فليتقدم به، فأكون له شاكراً وأصبح من أتباعه المسترشدين به.
البراهين العلمية على صحة الكتاب
لم ينزل الله وحيه الكتابي عبثاً ليتلاعب به الإنسان حسب مزاجه، وليتركه تحت رحمة نزواته وأحقاده. فيما يلي أهم البراهين العلمية – نتيجة اكتشافات الحفريات الأثرية الحديثة – التي تصدق مع القرآن الكريم على أصالة الكتاب.
- مخطوطات “البحر الميت”، اكتشفت سنة 1947 في “قمران”، بالقرب من البحر الميت في فلسطين، تبرهن على أصالة التوراة. تعود هذه المخطوطات إلى القرن الثاني ق.م وتشمل التوراة باللغة العبرية، مدونة على جلد ماعز. قام العلماء بمقارنتها مع النصوص التي بين أيدينا اليوم فوجدوها واحدة. تلك المخطوطات موجودة اليوم في متحف روكفلر في القدس، بالإضافة إلى نسخ مصورة وكاملة عنها في مختلف المتاحف العالمية، وهي تحت تصرف كل من يريد البحث فيها.
- مخطوطات عالم الآثار “رايلاندز” (Rylands) المدونة على ورق البردي، والتي تحتوي على مقطع من الفصل 18 من إنجيل يوحنا، ترجع إلى حوالي سنة 125م، وتتطابق تماماً مع النص الحالي. نذكر أن يوحنا الذي كتب إنجيله توفي حوالي سنة 105م.
- مخطوطات عالم الآثار “تشستر بيتي” (Chester Beatty) المدونة على ورق البردي، وترجع إلى القرن الثالث للميلاد، تحتوي على مقاطع كثيرة من الإنجيل، تتطابق تماماً مع النص الحالي، وتعتبر من أهم الإكتشافات التي تبرهن على صحة نص الإنجيل. هذه المخطوطات محفوظة اليوم في متحف “ميشيغان” في الولايات المتحدة الأميريكية.
- الكتاب المقدس الفاتيكاني الذي يعود إلى القرن الرابع للميلاد (حوالي 330م) ويحتوي على كل كتب العهد القديم والعهد الجديد باللغة اللاتينية، وموجود اليوم في متحف الفاتيكان. النص ينطبق تماماً على ما هو بين أيدينا اليوم، ويعرف تحت اسم “الفاتيكانوس” (Vaticanus)
- الكتاب المقدس “سينايتيكوس” الذي تم اكتشافه في دير القديسة كاترينا في صحراء سيناء على يد أمير روسي في نهاية القرن التاسع عشر، يرجع أيضاً إلى القرن الرابع للميلاد (حوالي 330م). يحتوي على نص كامل للتوراة والإنجيل باللغة اليونانية القديمة، وينطبق تماماً على ما هو بين أيدينا اليوم.
- دليل منطقي آخر على أصالة الكتاب المقدس: تتعدد الطوائف المسيحية، ولكن نص الكتاب واحد عند الجميع، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وبمختلف اللغات.
- علماء مسلمون كثيرون نفوا تزوير الكتاب، وأهمهم الشيخان المعروفان الأفغاني ومحمد عبده.
وفقاً لخرافة روّجها بعض “المؤمنين” مفادها أن الإنجيل قد رُفع إلى السماء مع السيد المسيح، وبالتالي، فإنه لم يعد موجوداً على الأرض من بعده. على هؤلاء نطرح السؤال التالي: كيف يكون ذلك والقرآن يطلب من الذين يتلون الكتاب أن يتلونه [ حق تلاوته ] ؟ فهل يمكن تلاوته وهو غير موجود؟! طبعاً لا!
القرآن لم يقل يوماً إن الإنجيل قد اختفى من على وجه الأرض. بل إنه، كما رأينا، يدعو أهل الكتاب أن يحكموا بما أوحى الله فيه. فكيف يأمر القرآن بالحكم وفقاً لكتاب لم يعد موجوداً؟!
لقد أثبتنا أن القرآن هو قراءة عربية للكتاب الذي كان موجوداً آنذاك بثلاث لغات: العبرية، اليونانية واللاتنية. وهذا دليل قاطع على وجود الكتاب على الأرض في تلك الفترة، ولم يرفع مع المسيح إلى السماء! الاكتشافات الأثرية التي ذكرناها أعلاه هي خير برهان على ذلك.
يكشف لنا التقليد الإسلامي الرسمي أيضاً في “الأحاديث النبوية الشريفة” حقيقة على درجة كبيرة من الأهمية (هذا الحديث الشريف منقول عن العالم البخاري).
بعد ظهور الملاك جبرائيل على النبي محمد، معلناً له عن رسالته، اضطرب النبي وغادر مكان تأمله المعتاد على الفور ليروي ما حصل لزوجته خديجة. فلجأت به إلى ورقة ابن نوفل، ابن عمها وعم محمد، ليطمئنه عن صدق رسالته كما ورد في الحديث. يروي البخاري أن ورقة قد اعتنق المسيحية وكان يكتب الإنجيل باللغة العبرية. هذا دليل على أن الكتاب كان موجوداً “على الأرض”، وفي شبه الجزيرة العربية بالذات في زمن محمد، وقبله، وما زال:
“كان (ورقة) امرأ قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب” (راجع صحيح البخاري).
كل هذه الأدلة تثبت صحة الكتاب، وتبرز الهوة الهائلة بين كلام القرآن ونبيّه عن الكتاب من جهة، وافتراءات بعض التقليديين من جهة أخرى. وكفى للكتاب أن يكن القرآن الكريم ونبيه المصطفى له شاهدين وعليه مصدّقين. وهذه الشهادة تكفينا.
يدّعي بعض آخر أن الإنجيل قد زوّر بعد نزول الوحي القرآني. إنها لأسوأ الحجج وأقبحها. فلقد أتينا بالبراهين العلمية القاطعة على أن النص الإنجيلي الموجود اليوم، هو النص الذي أوحاه الله في الماضي، قبل النبي محمد، والذي يشهد له القرآن ويصدّق عليه.
“إنجيل” برنابا
بعد أن روّجت فئة من اليهود إشاعة تزوير الإنجيل، أشاعوا أن الإنجيل الأصلي أو الحقيقي مخفي في الفاتيكان. هذا “الإنجيل” افتعلوه هم أنفسهم وسمّوه “إنجيل برنابا”. قصدوا من هذا “الإنجيل” زرع البلبلة والعداوة بين المسيحيين والمسلمين ليسودوا هم على العالم.
كثيرون وقعوا في فخ هذا “الإنجيل” المزيف لعدم معرفة أو تحليل ما جاء فيه، واندفعوا عشوائياً لمحاربة الإنجيل وأهله بحجة أن إنجيلهم مزور، وأن “إنجيل” برنابا هو الإنجيل الحقيقي.
هذا “الإنجيل” هو محاكاة ساخرة لحياة المسيح، ويعترف به للأسف كثير من المسلمين. لكن كل مسلم جدير بهذا الإسم، لا يمكنه إلا أن يرفض هذا “الإنجيل” لسبب في غاية الأهمية، هو أن يسوع (عيسى) في هذا “الإنجيل” ينكر أنه هو المسيح، ويقول إن المسيح هو محمد، وإنه خلق قبله. وهذا يخالف تعاليم الإنجيل والقرآن، فكلاهما يؤكدان أن يسوع (عيسى) هو حقاً المسيح. وهذه بعض المقتطفات:
“قال الكاهن ليسوع: قف يا يسوع، لأنه يجب علينا أن نعرف من أنت … (3) مكتوب في كتاب موسى (التوراة) أن إلهنا سيرسل لنا مسيّا (المسيح) الذي سيأتي ليخبرنا بما يريد الله… (4) لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق: هل أنت مسيّا الله الذي ننتظره؟ (5) أجاب يسوع: حقاً إن الله وعد هكذا، ولكني لست هو، لأنه خُلِق قبلي وسيأتي بعدي…” (الفصل 96، 1 – 5).
الفصل 97، 13 – 17 يقول أيضاًً:
“فقال الكاهن حينئذ: ماذا يُسمى مسيا (المسيح)؟ (14) أجاب يسوع: إن اسم مسيا عجيب لأن الله نفسه سماه لما خلق نفسه، ووضعها في بهاء سماوي. (15) قال الله: أصبر يا محمد… (17) إن اسمه المبارك محمد”.
تشكل هذه الآيات مخالفة صارخة للوحي الإلهي في الإنجيل وفي القرآن الذي يصدّق على ما جاء في الإنجيل بقوله إن عيسى هو حقاً المسيح. إضافة إلى ذلك، إن النبي محمد لم يدّعي يوماً أنه هو المسيح دون عيسى، أو قال إنه خلق قبل عيسى. أين تعاليم القرآن الشريف من افتراءات “إنجيل برنابا؟
إن هدف مبتدعي هذا “الإنجيل” ـ الذي لم ينجح في إخفاء اليد الصهيونية التي وراءه – كان تحريض المسلمين ضد المسيحيين، وتوسيع الهوة بين الفئتين الشقيقتين، مطبّقين مبدأ “فرّق تسد”. لعبوا على محبة المسلمين للنبي محمد، بتقديمه على أنه أعظم من يسوع. فوقع المؤمنون السطحيون عن جهل في هذا الفخ، دون أن يكونوا مدركين لخلفية وأبعاد المشكلة. إنهم بإنكار مسيحية عيسى ونسبها لمحمد، يتحوّلون إلى شهود زور على رسالة القرآن التي يدّعون الانتماء إليها.
نشرت مطبعة “المنار” المصرية، لصاحبها السيد محمد رشيد رضا، ترجمة عربية لإنجيل برنابا، وهي ترجمة من الإنكليزية للدكتور خليل سعادة، منها نقلنا المقتطفات الواردة هنا. يشرح المترجم في مقدمته ما يكفي لتعرية اليد الصهيونية التي ابتدعت هذا “الإنجيل” الذي ألّفه يهودي اعتنق المسيحية وأصبح راهباً، ثم اعتنق الإسلام. نحن واثقون أنه اعتنق الدينين زوراً لنشر أضاليله في صفوفهما. لقد اكتشف العلماء أن هذا “الإنجيل” كُتب في الأصل باللغة الإيطالية، ويرجع إلى القرن السادس عشر. تبيّن ذلك من نوع الحبر المستخدم، والخط، والأسلوب الفينيسي الذي كان مشهوراً آنذاك في إيطاليا، بالإضافة إلى نوع الورق المكتوب عليه.
هل يتكلّم القرآن عن التزوير؟
يرتكز مروّجو إشاعة تزوير الكتاب على بعض الآيات القرآنية، متناسين أن القرآن أتى مصدّقاً للكتاب. إن القرآن لا يناقض نفسه بنعت الكتاب بالتزوير بعد التصديق عليه. سنذكر بعض الآيات القرآنية التي يستند إليها دعاة التزوير ونبرهن أن المقصود في القرآن هو إدانة الذين يتلاعبون في التفسير، لا في آيات الكتاب.
[ أفتطمعون أن يؤمنوا (اليهود) لكم (أيها المسلمون) وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله (في التوراة) ثم يحرفونه ( عن معناه) من بعد ما عقلوه (فهموا مقصود الله) وهم يعلمون ] (قرآن 2؛ البقرة 75).
[ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ] (قرآن 2؛ البقرة 146).
هؤلاء المفسرون الماكرون يحرّفون معنى كلام الله في الآيات الكتابية [ من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ]. المقصود هو تحريف تفسير كلام الله. في مكان آخر يكشف القرآن أيضاً:
[ وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لِتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله (من الكتاب) وما هو من عند الله (لا من الكتاب بل من عندهم) ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ] (قرآن 3؛ آل عمران 78).
لاحظ أنهم [ يلوون ألسنتهم ]، لا يزوّرون نص الكتاب، بل [ يلوون ألسنتهم ]، أي أنهم يأتون بتفاسير تناسبهم، ليجعلوا الناس يؤمنون أن كلامهم يأتي من عند الله، [ ويقولون على الله الكذب ].
هذا هو تفسيرنا للآيات المذكورة أعلاه التي يحاول الماكرون أن يلووها بألسنتهم للافتراء على الإنجيل. القرآن يصرّح أن اليهود هم الذين يمارسون ذلك:
[ من الذين هادوا (اليهود) يحرّفون الكَلِمَ عن مواضعه… ] (قرآن 4؛ النساء 46).
الذين يحرّفون [ الكلَم عن مواضعه ]، أي عن معناه، يحرّفونه عن المعنى الذي أراده الله بتقديمهم تفسيراً خاطئاً. فيقول القرآن بهذا الخصوص:
[ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل… فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذُكروا به… ] (قرآن 5؛ المائدة 12 – 13)
إن المقصود الإلهي واضح ويشير إلى [ تحريف الكلَم عن مواضعه ]، أي تحريف الكلام عن معناه. وتجدر الإشارة إلى أن فئة من [ الذين هادوا ]، أي اليهود بني إسرائيل، هم المقصودون في تلك الآية القرآنية. وذلك لأن بعض اليهود كانوا، ومازالوا، يلوون كلام الله ونبوءاته تبريراً لرفضهم السيد المسيح. وإن “إنجيل” برنابا المنحول، لهو خير مثل على ذلك.
لكن القرآن الكريم لا ينفرد وحده بإدانة الكتبة اليهود لتلاعبهم بكلام الله وتحريفه عن مواضعه، إذ أن النبي إرميا (القرن السادس ق.م) أعلن غضب الله على اليهود لتحريفهم التوراة، فيقول:
“كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا (التوراة) ؟! أما ترون أن قلم الكتبة الكاذب حولها إلى الكذب” (إرميا 8، 8).
لا بد من التوقف عند كلام إرميا لتوضيح المقصود الإلهي منه. فقد ثار هذا النبي منذ القدم على الكتبة لأنهم شوّهوا رسالة الكتاب بتفاسيرهم الباطلة، فحوّلوا التوراة إلى كذب.
إنني، إذ أؤكد على صحة التوراة، أقصد النص التوراتي الذي بين أيدينا اليوم. إن هذا النص يطابق تماماً النص الذي كان معروفاً قبل المسيح، تصدّق عليه مخطوطات “البحر الميت”. إن هذا النص هو نفسه الذي عرفه المسيح وهو نفسه الذي عرفه النبي محمد. لا تزوير فيه، ولا يمكن أن تتلاعب فيه يد بشرية، لأن الله أراد بحكمته وقدرته الخارقة، أن يصل إلينا نص الوحي الإلهي كاملاً. لماذا؟ ليكشف لنا مخططه الخلاصي لصالح البشرية كلها، وليفضح تأثير الروح الصهيوني السلبي على الرؤساء والكتبة اليهود.
فأثناء كتابتهم التوراة بدءاً من القرن العاشر ق.م، أي بعد موت موسى بحوالي ثلاثمائة سنة، أضافوا على التوراة، عن عمد وتصميم، كثيراً من النصوص التي نسبوها زوراً إلى الله، كما يشدد القرآن. هذه النصوص لا زالت موجودة حتى اليوم في التوراة. سمح الله في حكمته أن تبقى، ليفضح اليد الصهيونية التي دستها لتبرر، باسمه، تقاليد بشرية يرفضها. هذه الآيات هي طفيليات يسهل على البصير كشفها.
كل من يبحث في التوراة عن كثب، يلاحظ وجود إلهين فيها: الإله الخالق الذي لا إله إلا هو، و “الإله” الذي ألّهَه الكتبة اليهود، وهو الشيطان، “إله” القتل والذبح والسرقة والكذب. وهناك أمثلة كثيرة عن ذلك في التوراة، نرى من خلالها عدم تمييز اليهود بين الله الخالق والشيطان الذي كان يتقدّم الله في ضمائر اليهود مختلساً اسمه.
نجد مثلاً عن ذلك في كتاب القضاة (الفصل17 و 18). إنها قصة كاهن يستشير الله بواسطة حجرين صغيرين، “الأفود والترافيم” (المعروفان عند عرب الجاهلية بـ “الأزلام” وقد حطمهما النبي محمد لدى فتحه مكة)، كان مكتوباً على أحدهما كلمة “نعم” وعلى الآخر كلمة “لا”، كانا يوضعان في وعاء، ثم يمد الكاهن يده بعد تحريك الوعاء، يتناول واحداً منهما، ويعمل بموجب الكلمة المكتوبة على الحجر الذي اختاره. فيقوم بالأمر إن كانت “نعم” وينثني عنه إن كانت “لا”. وتروي القصة أن “الرب الإله” كان تمثالاً منحوتاً يستشيره الكاهن، وقد أمر هذا “الإله” الصنم اليهود بقتل وذبح كل من حولهم والإستيطان في أراضيهم. والأمثلة كثيرة على هذا “الإله” الصهيوني الشيطاني (التثنية 20، 10 – 14).
تكمن أهمية التوراة في فضحها اليهود وتمكين المؤمن من تمييز هوية هذا “الإله” الدجال الذي يعبده اليهود العنصريون. هذا الإله الصهيوني ليس سوى الشيطان في هيئة صنم يوحي بأفكار توسعية ويحرض على الجريمة وقتل الأنبياء أنفسهم لفضحهم المجازر التي ارتكبها اليهود، كما فعل النبي ميخا الذي ندد بهم لأنهم “يبنون صهيون بالدماء وأورشليم بالظلم قائلين: إن الرب معنا وفي وسطنا” (ميخا 3، 9 – 12). فمن هو هذا “الرب” المتعطش إلى الدم الذي يدينه جميع الأنبياء؟
لقد كشف المسيح عن هوية هذا “الرب” عندما قال لليهود الذين رفضوه: “إن أباكم هو الشيطان وأنتم تريدون تنفيذ مشيئة أبيكم” (يوحنا 8، 44).
إن الإنجيل والقرآن، إذ يصدّقان على التوراة، إنما يصدّقان على ما أوحى الله فيها من هدى للناس، ويدعوان المؤمنين إلى تمييز مخالب الصهيونية المندسة في التوراة كما فعل النبي إرميا والنبي ميخا وغيرهما من الأنبياء، ومن ثم المسيح الذي فضحهم، ومن بعده أيضاً النبي العربي الكريم.
فضح يسوع الكتبة والفريسيين اليهود ونعتهم بالمرائين:
“لماذا تخالفون أنتم وصية الله من أجل تقاليدكم؟… وهكذا أبطلتم كلام الله من أجل تقاليدكم. يا مراؤون، صدق إشعيا في نبوءته عنكم حين قال: هذا الشعب يكرّمني بشفتيه وأما قلبه فبعيد عني، وهو باطلاً يعبدني بتعاليم وضعها البشر” (متى 15، 3 – 9).
نشير هنا إذاً إلى أن الكتاب نفسه يدعونا إلى التمييز بين الوحي الإلهي والوحي الصهيوني الموجودين فيه. فلا يجب على المؤمنين أن ينفروا من التوراة بسبب تسلل روح الصهيونية إليها. بل العكس، على هذه الحقيقة أن تشكل حافزاً لذوي القلوب القوية والجريئة ليتفحصوا الكتاب لاستخلاص ما فيه من كنوز روحية بالرغم من العوائق والصعوبات، كما فعل إرميا، ويسوع ومحمد.
من ناحية أخرى، إن احترام النبي محمد للتوراة والإنجيل هو ضمانة إضافية وكافية لجميع المسلمين الذين يريدون اللجوء إليهما:
[ قل (يا محمد للعرب الذين يزدرون التوراة والإنجيل) فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين ] (قرآن 28؛ القصص 49).
لا يمكننا أن نتمنى شهادة للكتاب أعظم من شهادة هذا النبي العربي الأكرم؟ ففي مفهوم نبي الإسلام الحبيب، الكتاب والقرآن كلاهما من عند الله. ولنكون أكثر تحديداً، الكتاب في نصه الحالي، بما أنه نفس النص الذي عرفه النبي محمد.
في الآية المذكورة أعلاه، لم يجعل الله من محمد رسولاً للقرآن فقط، بل للكتاب أيضاً، فالقرآن وحي عربي للوحي الكتابي. لذلك يقول الله لمحمد، في القرآن، أن لا يطلب من أهل الكتاب الرجوع إليه كحكم، لأن عندهم حكم الله في الكتاب:
[ وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله… ] (قرآن 5؛ المائدة 43).
[ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ] (قرآن 5؛ المائدة 47).
يدعو النبي محمد كل المؤمنين العرب، من خلال القرآن، إلى السير على خطى الذين سبقوهم في الإيمان، اليهود والمسيحيين الصادقين الذين نضجوا بمياه الحياة الروحية المتدفقة بوفرة من الكتاب، فيقول القرآن:
[ يريد الله ليبيّن لكم (أيها العرب) ويهديكم سنن الذين من قبلكم… ] (قرآن4؛ النساء 26).
[ يا أيها الذين آمنوا (بالإسلام) آمنوا بالله ورسوله والكتاب (القرآن) الذي نزل على رسوله (محمد) والكتاب (التوراة والإنجيل) الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً ] (قرآن 4؛ النساء 136).
ها هي وصية القرآن: الإيمان ليس فقط بمحمد والقرآن، بل أيضاً بالكتب التي أوحاها الله قبل القرآن: التوراة والإنجيل في نصهما الحالي. كل مؤمن صادق، يهودي، مسيحي أو مسلم، لا يمكنه إلا أن يؤمن بوحدة الوحي الكتابي القرآني.
وليوحّد الرب العلي القدير مختاريه، أصحاب القلوب الصادقة، وجميع البشر الصالحين، حول وحيه الواحد الذي لا يتجزأ، ليكونوا وحدة متكاملة في وجه قوات الشر التي تريد تحطيمهم.
سيرة النبي محمد
يأخذ بعض المستشرقين على النبي محمد كثرة حروبه وتعدد زوجاته. سنعرض الأسباب التي تبرر هذه الأفعال التي تبدو في نظر الكثيرين غير مقبولة وغير متوافقة مع النبوّة.
أزواج النبي محمد
أحد هذه المآخذ زواج النبي محمد من زينب بنت جحش بعد طلاقها من زيد بن حارثة، الذي كان النبي محمد قد اعتقه وتبناه قبل البعثة. فالمسلمون لا يعملون ما فيه الكفاية لإلقاء الضوء الحقيقي على تفاسير الوحي القرآني وعلى سيرة النبي محمد النزيهة، فأتت بعض التفاسير الرسمية لتزيد سوء ظن المستشرقين، ومسيحيين كثيرين، في القرآن وفي سيرة محمد. نلاحظ ذلك جلياً في أمر زواج محمد بزينب بعد طلاقها من زيد، فيفسر علماء الإسلام هذا الزواج كالتالي: “وقع بصر النبي محمد على زينب بعد زواجها من زيد فوقع في نفسه حبها”.
هذا التفسير غير أكيد إطلاقاً، إنما هو اجتهاد لا نظن أن المفسرين قد أحسنوا فيه، وسنقدّم تفسيرنا في حينه.
وُلد نبي الإسلام الكريم سنة 570م في مكة وتوفاه الله يوم الاثنين 8 حزيران (يونيو) سنة 632م. توفي والده عبد الله قبل مولده ببضعة أشهر، وتوفيت أمه آمنة وهو في حوالي الخامسة من عمره. يتيماً، تولى رعايته جده عبد المطلب الذي توفي بعد ذلك بثلاث سنوات. فاحتضنه عمه أبو طالب الذي كان يعزه كثيراً بسبب استقامته. أبو طالب هو والد علي، ابن عم محمد العزيز وصديقه المخلص مدى الحياة. تزوج علي فيما بعد من فاطمة، إبنة محمد الحبيبة.
كان عبد المطلب، جد محمد، وجيهاً من آل بني هاشم، من قبيلة قريش بمكة. كان له عشرة أبناء منهم عبد الله (أبو محمد)، وأبو طالب (عمه الذي احتضنه وتبناه)، وحمزة (الذي آمن به ودافع عنه)، وأبو لهب وأبو جهل (اللذان حاربا محمد).
آمنة، أم النبي، هي أخت ورقة بن نوفل الذي اعتنق المسيحية والذي أتينا على ذكره سابقاً، وابنة عم خديجة، زوجة محمد الأولى.
أمضى محمد شبابه في مكة، وعُرِف بنزاهته وعفته وسمو خلقه وحبه للعزلة والتأمل، ولم يكن يشارك أبناء جيله طعم الحياة الدنيوية. كان أهل مكة يدعونه “الأمين” لصدقه وأمانته. كان حبه للمناجاة والتأمل يقودانه إلى مغاور الجبال المحيطة بمكة، هرباً من غوغائية العالم، ومبحراً في أعماق الروحانيات، منصتاً إلى أصوات أمواجها الخفية، تهتز لها روحه المتعطشة لله.
لكن ذلك لم يمنعه من المشاركة في الحياة التجارية في مكة. فكان يهتم بقوافل البضائع العابرة بها بين اليمن والشام. عمل محمد عند قريبته خديجة، وهي أرملة تاجر غني في مكة. كان محمد يقود قوافلها إلى بلاد الشام للتجارة. أعجبت بصدقه وأمانته في التعاملات التجارية، فأرسلت إلى عمه أبي طالب ليكلمه عن الزواج. وافق محمد الذي كان آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره وخديجة في الأربعين.
كان الزواج موفقاً وسعيداً. رزقوا بثلاثة أبناء توفوا في سن مبكرة وأربع بنات هن: رقية وزينب وأم كلثوم وفاطمة.
أثناء رحلاته العديدة إلى الشام، تعرف محمد على رهبان مسيحيين أشهرهم الراهب بحيرة الذي ربطته به صداقه متينة. كان بحيرة معجب بمبادىء محمد الأخلاقية وغالباً ما كان يحدثه عن الأنبياء والمسيح. بتلك الطريقة كان الله يهيئه ليكون رسول العرب.
لما نضجت روح محمد بالتأمل والمناجاة، انكشفت له السماء لأول مرة وهو في سن الأربعين. فظهر له ملاك الله جبرائيل (أو جبريل) “وكان يخلو في غار حراء بالقرب من مكة. فجاءه الملاك فقال له:
“إقرأ (الكتاب المقدس). قال (محمد): ما أنا بقارئ ( كان محمد لا يقرأ ولا يكتب). فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد. فقال: إقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد. فقال إقرأ، فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطني الثالثة، ثم أرسلني. فقال: إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم. فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني، زمّلوني! فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي” (صحيح البخاري).
كانت هذه أول رؤية أنعم الله بها على رسوله. ارتاب محمد كما ارتاب من قبله موسى، إرميا، دانيال وأنبياء آخرون. وقد لجأ محمد، أول ما لجأ، إلى رفيقة حياته زوجته المخلصة وصديقته الحميمة خديجة التي طمأنته، ولم تشك به وهلة كما جاء في الأحاديث الشريفة، بل
“انطلقت به حتى أتت به ورقة بن نوفل، ابن عمها، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب… وكان شيخاً مسناً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك (محمد). فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. يا ليتني فيها جدعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوَ مخرجي هم؟ قال: نعم! لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به، إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي” (صحيح البخاري).
هكذا طمأن ورقة ابن أخيه محمداً مصدّقاً على حقيقة ما رآه. وقد تحققت نبوءة ورقة عندما نبذ أهل مكة، وعلى رأسهم قبيلة قريش، النبي محمد كما نُبذ كل نبي من قومه في الكتاب. نشير إلى أن ورقة رأى في رسالة محمد ما جاء به موسى. فالرسالة واحدة والوحي واحد.
في البداية، ولفترة طويلة، آمن بمحمد فريق صغير فقط. وكانت زوجته خديجة أولى المؤمنين. الدين الجديد الذي بدأ يبزغ فجره في مكة أقلقت مضاجع أثريائها المتاجرين بالأصنام وذوي النفوذ فيها الذين كانوا يفرضون الضرائب وينتفعون من الحج الوثني الذي كان يقام. فرأوا في عقيدة التوحيد خطراً كبيراً على تجارتهم ونفوذهم وهيمنتهم. فعادوا محمد وأتباعه واضطهدوهم شر اضطهاد.
تحمل محمد بكل شجاعة عبء رسالته ومشقاتها، مثابراً فيها وقد كلفته ماله وراحته. وأبى أن يجابه أعداءه بالسلاح، أو حتى أن يحمل سيفاً يحتمي به، بل أمر أتباعه بترك مكة والهجرة إلى الحبشة. فلجأ أثنا عشر من أتباعه إلى النجاشي، امبراطور الحبشة، وهو مسيحي. فرحب بهم ومنحهم حق اللجوء إلى الحبشة والإقامة بربوعها مطمئنين.
عانى محمد عشر سنوات من الضيق والاضطهاد في مكة، مبشراً فيها بالتوحيد دون جدوى، إذ لم يؤمن به إلا عدد قليل من أهلها. بل كانت معارضة قبيلة قريش له تزداد عنفاً حتى أنها شكلت خطراً حقيقياً على حياة النبي وأتباعه. جرت عدة محاولات لقتله، مما اضطره في النهاية للهجرة من مكة إلى يثرب، التي سميت فيما بعد “المدينة”، أي مدينة النبي، حيث كان له فيها أصدقاء ومناصرون كثيرون، ولم يعاديه فيها إلا اليهود.
غادر محمد مكة سراً تحت جناح الليل بعدما تم إنذاره بمؤامرة تحاك ضده لقتله. في تلك الليلة بالذات، حل محله علي ابن عمه في بيته، وفي فراشه، حتى ينقذ حياته. في يثرب، كان يحمي محمد عدد كبير من مؤيديه ووحدهم يهود المدينة كانوا يشكلون تهديداً له.
قبل هجرته إلى يثرب، فاجعتان أليمتان أصابتا محمد تباعاً: موت عمه أبي طالب الذي احتضنه وحماه ضد قريش، وموت خديجة، رفيقة حياته المخلصة التي أحبته وآمنت به وكانت له السند الروحي الذي ثبت إيمانه وثقته بنفسه. عام وفاة هذين العزيزين على قلب محمد دعي بعام الحزن.
حاول أهل قريش، بقيادة أبي سفيان، إغراء محمد بالمال والنفوذ ليتراجع عن رسالته. فأرسلوا وفداً إلى عمه أبي طالب، قبيل موته وهو على فراش المرض، ليتوسط بينهم وبين محمد الذي عرضوا عليه المال والجاه والمُلك شرط أن يرتد عن التوحيد، قائلين: “إن كنت بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً، سيدناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك. وإن كنت تريد ملكاً، ملكناك علينا. أما الإله الواحد، فلا!” إلا أن النبي محمد ازداد تمسكاً برسالته وقال: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه”. بعد موت أبي طالب، الذي كان يسعى إلى تهدئة الوضع، بلغ التوتر ذروته بين أهل قريش ومحمد.
في تلك الفترة، قبيل الهجرة إلى يثرب، حدثت أعجوبة “الإسراء والمعراج” المذكورة في سورة الإسراء. وهي حدث روحي وتاريخي مهم جداً في حياة النبي محمد وأتباعه كونه يشكل منطلقاً لرسالته. في تلك الليلة كان محمد في بيت ابنة عمه هند، شقيقة علي بن أبي طالب. آتاه الملاك جبريل وأسرى به على فرس اسمه “البُراق” (من البرق) إلى جبل سيناء حيث كلم الله موسى، ثم إلى بيت لحم حيث مهد المسيح، ثم إلى بيت المقدس في القدس، ومنها عرج به إلى السماء ثم أعاده إلى بيت هند:
[ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ] (قرآن 17؛ الإسراء 1).
رفض أهل قريش وكثيرون من أتباعه تصديق أعجوبة الإسراء والمعراج وارتد عنه الكثيرون. فازدادت عليه الاضطهادات واشتدت عزلته، فقرر محمد الهجرة إلى يثرب “المدينة” يوم 24 أيلول (سبتمبر) سنة 622م. هذه الهجرة تحدد بداية التقويم الهجري (الروزنامة الهجرية).
بعد الهجرة، اتخذ محمد لنفسه عدة زوجات، لا حباً بالنساء، كما يظن كثير من المستشرقين، بل لتوحيد الصفوف بالمصاهرة. أولى زوجات محمد كانت “سودة” أرملة أحد أتباعه الذين هاجروا إلى الحبشة ثم عادوا منها. كانت سودة كبيرة في السن، تزوجها محمد عرفاناً بالجميل، ليحميها ويعيلها وأولادها، لأنها وزوجها كانا من بين أتباعه الأولين.
تزوج أيضاً عائشة بنت أبي بكر صديقه ورفيقه ليعزز أواصر الصداقة بينهما. كانت عائشة في السابعة من عمرها، لكنها بقيت في بيت أبيها حتى بلغت التاسعة. في خلال هاتين السنتين تزوج محمد من سودة. وتزوج أيضاً حفصة بنت عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين الأربع الذين خلفوه بعد موته، ليزيد روابط الوحدة بين المسلمين. وإنه حرصاً منه على تلك الوحدة، زوج بناته الأربع إلى كل من عثمان بن عفان، أحد أتباعه الأمناء الذي أصبح ثالث الخلفاء الراشدين، والذي تزوج بنتيه “رقية” و “أم كلثوم”، لذا عُرِف بـ “ذي النورين”، وعلي بن أبي طالب، ابن عمه، الذي زوجه ابنته الحبيبة فاطمة، وخالد بن الوليد الذي حارب النبي وانتصر عليه في أحد، ثم أسلم وتزوج ابنته زينب. بالمقابل تزوج النبي ميمونة خالة خالد ليقوي مجتمع المؤمنين الأولين. وتزوج محمد أيضاً زينب بنت خديجة وأم سلمة لأسباب إنسانية، لا عاطفية ولا شهوانية، لأنهما كانتا أرملتي شهيدين سقطا في أرض المعركة ومتقدمتين في السن.
أما فيما يتعلق بزواجه من زينب بنت جحش، الزوجة السابقة لابنه بالتبني زيد، فهو في رأينا، ليس كما قدمه المفسرون المسلمون عن سورة الأحزاب التي تذكر القصة، بل إنهم قد ارتكبوا خطأ فادحاً بتقديمهم هذا الأمر كعلاقة حب بشري. إليكم النص القرآني بالإضافة إلى تفسير “الجلالين”، التفسير الرسمي والمعترف به بشكل عام، والذي نستنكره. ملحقين به تفسيرنا الذي ينطبق على عظمة خُلُق النبي الكريم محمد:
[ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ] (قرآن 33؛ الأحزاب 36).
تفسير “الجلالين”:
نزلت هذه الآية في عبد الله بن جحش وأخته زينب. خطبها النبي لزيد بن حارثة. فَكَرِها ذلك حين علما بظنهما قبل، أن النبي خطبها لنفسه. ثم رضيا للآية. فزوجها النبي لزيد. ثم وقع بصره عليها بعد حين. فوقع في نفسه حبها، وفي نفس زيد كراهتها. ثم قال للنبي: أريد فراقها. فقال: أمسك عليك زوجك.
تفسيرنا:
لم يقع في قلب النبي حب زينب. وكان سبب رفض النبي طلاق زيد منها، أنه هو، أي محمد، الذي استدعاها مع أخيها عبد الله للزواج من زيد. وقد تم الزواج بعد نزول الآية، مع كرههما الزواج من زيد قبل نزولها. بالتالي، فإن نية زيد بالطلاق منها وضعت النبي في مأزق حرج لما كان سيعرض زينب إلى المس في شرفها، فيقال عنها: “إن ابن النبي قد طلقها”، ويؤدي إلى طردها من المجتمع وزرع بزور الحقد والكراهية، ويسبب التفرقة بين النبي محمد وآل بني جحش. فلم يكن أمام النبي، تفادياً لهذا الوضع المحرج، إلا أن يتزوج هو من زينب ليرفع من شأنها أمام الناس، فيقال عنها: “إن النبي قد تزوجها”، فيصون شرفها وكرامتها بدلاً من تعريضها للذل والمهانة.
مع ذلك كان محمد يخشى عدم فهم الناس لحقيقة الأمر، فيقولون إنه قد تزوج زوجة إبنه لأنه هام في حبها. لهذا السبب أصر على زيد بعدم الطلاق. لو كان مغرماً بها بالفعل، لكان استحسن الطلاق ورغب به.
وكان زيد بن حارثة من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله قبل البعثة، وأعتقه وتبناه، وآمن زيد بعد ذلك بالإسلام. لقد أنعم الله على زيد مرتين، بتحريره من العبودية، وبنعمة الإيمان. لهذا السبب يتابع الله قائلاً لمحمد بعد الآية 36:
[ إذ تقول للذي (لزيد) أنعم الله عليه (بالإسلام) وأنعمت عليه (يا محمد بالإعتاق) أمسك عليك زوجك واتق الله (في أمر طلاقها) وتخفي في نفسك ما الله مُبديه… ] (قرآن 33؛ الأحزاب 37).
تفسير “الجلالين”:
[ وتخفي في نفسك ما الله مبديه ] أي مظهره من محبتها وأن لو فارقها زيد لتزوجتها.
تفسيرنا:
يخفي النبي في نفسه لا محبته لزينب، بل وعيه لخطورة الوضع، وأن لو فارقها زيد لاضطر أن يتزوجها ليسترها. من جهة أخرى، لم يكن الناس سيفهمون نيته الحقيقية وكانوا سيفسرون بادرته بصورة خاطئة؛ كانوا سيظنون علاوة على ذلك أنه تزوجها حباً بها، وهذا ما يعتقده البعض اليوم أيضاً. لهذا السبب حث الله النبي محمد على التصرف وفقاً لإدراكه وضميره، بمعزل عن ما يمكن للناس أن يعتقدوه:
[ … وتخشى الناس (أن يقولوا تزوج زوجة ابنه) والله أحق أن تخشاه ] (قرآن 33؛ الأحزاب 37).
تفسير “الجلالين” لهذه الآية:
“تزوجها ولا عليك من قول الناس”.
تفسيرنا:
على النبي أن يتصرف بحكمة أمام الله، متجاهلاًَ أقوال الناس، عاملاً [ بالتي هي أحسن ]، لا بالتي ترضي الناس، حتى وإن افتروا عليه القول إنه تزوج زوجة ابنه حباً بها. فعلى النبي أن يخشى حكم الله الذي يعلم ما في قرارة القلب، فهو يعلم أن محمداً تزوج من زينب ستراً لها وحفاظاً على رص الصف، لا لأنه عشقها.
ينسجم تفسيرنا مع سيرة حياة النبي محمد، خصوصاً في ما يتعلق بالدوافع العميقة والنبيلة لزيجاته، وفي كل لحظات حياته.
أهم حروب النبي محمد
في يثرب التي سميت “المدينة” بعد هجرة النبي إليها، أي مدينة النبي، أو المدينة المنورة، كما دعيت فيما بعد، كان لمحمد أنصار كثيرون منهم قبيلتي الأوس والخزرج، ولم يعاده فيها إلا اليهود الذين كانوا متحالفين مع مشركي مكة ألد أعدائه. لهذا السبب قال القرآن:
[ لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا (قريش) ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا (بالقرآن) الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ] (قرآن 5؛ المائدة 82).
بعد هجرته إلى المدينة، حرّض يهود هذه المدينة مشركي مكة على مواصلة حربهم ضد محمد. فكان النبي، حتى ذلك الحين، يأبى حمل السلاح، لكنه اضطر في النهاية دفاعاً عن المؤمنين وعن رسالته، ضد الأعداء الذين هجموا على المدينة بعد أن داهموا بيوت المؤمنين في مكة وهجروهم منها. فيشير القرآن إلى ذلك في الآية التالية:
[ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ] (قرآن 22؛ الحج 40).
لهذا السبب قضى محمد بواجب الدفاع عن النفس في المدينة. إن الدفاع عن النفس حق مشروع وإهماله تقصير. لذلك سمح الله للمؤمنين بالقتال:
[ أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير ] (قرآن 22؛ الحج 39).
[ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ] (قرآن 8؛ الأنفال 39).
قبل التطرق إلى موضوع الحروب، علينا أن نشير إلى أن محمد، وفقاً للآيات القرآنية المذكورة أعلاه، لم يبادر أبداً إلى الحرب، بل كان دائماً بحالة دفاع عن النفس. في بعض الحالات، اتهم محمد بأخذ مبادرة القتال، لكن الأمر كان يتعلق بملاحقة للعدو، في معركة تستكمل أخرى.
غزوة بدر
خلال هذه المعركة، تصدى المسلمون وعددهم ثلاثمائة فقط لمشركي قبيلة قريش وعددهم ألف. بالرغم من عددهم القليل، انتصر المسلمون على المشركين. وقعت هذه المعركة في السنة الثانية للهجرة.
غزوة أحد
بتحريض من يهود المدينة، هجم مشركو قبيلة قريش على محمد في أحد، إحدى ضواحي المدينة. القريشيون المتحالفون سراً مع اليهود، كانوا بقيادة خالد بن الوليد الذي اعتنق الإسلام فيما بعد وتزوج من زينب، ابنة محمد. انتهت هذه المعركة بهزيمة المسلمين واستشهاد حمزة، العم الحبيب للنبي محمد. خلال هذه المعركة تنبه النبي للتحالف السري بين يهود المدينة ومشركي قريش فقرر من ذلك الوقت أن يضع حداً لنفوذ اليهود. وقعت هذه المعركة في السنة الثالثة للهجرة.
غزوة الخندق
سميت بغزوة الخندق لأن المسلمين حفروا خندقاً حول المدينة لمنع القريشيين من دخولها. حرض اليهود مجدداً مشركي مكة على القتال ضد المسلمين، فحاصر القريشيون المدينة بعديد من عشرة ألاف رجل. كان إلى جانب محمد مقاتل فارسي يدعى سلمان، وهو مسيحي متمرس في فنون الحرب، نصح النبي أن يحفر خندقاً حول المدينة فيستحيل بالتالي على خيول المكيين اجتياح المدينة. أنقذ هذا الخندق محمداً وأتباعه. وقعت هذه المعركة في السنة الخامسة للهجرة. كان المكيون يتوقعون نصراً سهلاً، لكنهم علقوا بالمقابل في الصحراء وسرعان ما أرغموا على الانسحاب بسبب البرد القارس ومقومات الحياة التي كانت تقل يوماً بعد يوم.
غزوة بني قريظة
حصلت غزوة قرية بني قريظة اليهودية على أثر غزوة الخندق. كان محمد في تلك الأثناء قد اكتشف تآمر اليهود عليه ودورهم الفاعل في غزوة الخندق بعد وعدهم له بالحياد. فقرر ملاحقتهم بعد هربهم إلى قرية بني قريظة حيث حاصرهم وقضى عليهم. لجأ الناجون منهم إلى قلعة يهودية في خيبر، في شبه الجزيرة العربية. في هذه المكان وقعت فيما بعد معركة محمد الأخيرة ضد اليهود.
بعد غزوتي الخندق وبني قريظة توطدت قواعد الإسلام في شبه الجزيرة العربية وعرف محمد فترة من السلام. فبدأ العرب يهابونه ويبحثون عن إقامة علاقات سلام معه.
عهد الحديبية
بعد ست سنوات من هجرة النبي وأتباعه عن مكة، أراد هؤلاء الأخيرون أن يعودوا إليها للحج. فترأسهم النبي في مسيرة سلمية إلى مكة. عند وصولهم توقفوا على مشارفها في مكان يدعى الحديبية. رفض القريشيون السماح للمسلمين بالدخول للحج في مكة. فدارت بين الفريقين مفاوضات نتج عنها “عهد الحديبية” الذي أعلنت بموجبه هدنة من عشر سنوات. سمح هذا العهد للمسلمين بالدخول إلى مكة في العام التالي لمدة ثلاثة أيام فقط.
عاد محمد والحجاج إلى المدينة بعد ثلاثة اسابيع. أتاح عهد الحديبية لمحمد نشر رسالته في كافة أنحاء شبه الجزيرة العربية وساهم في إظهار الوجه المسالم للإسلام. فاعتنق عدد كبير من العرب دين التوحيد والتفوا حول النبي محمد. في تلك الفترة تزوج خالد بن الوليد، القائد الذي اعتنق الإسلام، من زينب بنت النبي، بعد أن حارب المسلمين في أحد. بالمقابل تزوج محمد ميمونة، خالة خالد، فزادت تلك المصاهرة من صلابة الوحدة بين المسلمين.
رسل محمد إلى الملوك والأمراء
بعد هدوء الوضع في شبه الجزيرة العربية، أرسل محمد إلى الملوك والأمراء يدعوهم للإيمان به وبرسالته، وأهمهم “هرقل” ملك البيزنطيين، و “كسرى” ملك الفرس، والنجاشي “أحمصة” إمبراطور الحبشة، وأخيراً، “المقوقس” عظيم الطائفة القبطية في مصر.
ننقل مضمون رسالة محمد إلى الملك هرقل في الباب الرابع.
غزوة خيبر
بعد أن عم السلام في شبه الجزيرة العربية، لم يبقى أمام محمد إلا التهديد المنبثق من اليهود الذين انسحبوا إلى خيبر. فبعد أقل من شهر من عهد الحديبية، خرج محمد على رأس جيش من المسلمين وحاصروا مدينة وحصن خيبر. اندفع المسلمون ببسالة إلى ساحة المعركة، غير آبهين بالموت، وانتصروا على اليهود بعد قتال عنيف وشرس واستأصلوهم من شبه الجزيرة العربية. حصلت هذه المعركة في السنة السابعة للهجرة، 629م.
في السنة العاشرة للهجرة، كان نور الإسلام قد انتشر في كامل شبه الجزيرة العربية حيث عاش المسلمون والمسيحيون فيها بسلام وطمأنينة. دخل محمد مكة المكرمة فاتحاً دون مقاومة تذكر. فدخل الكعبة وحطم أصنامها. فقال عندئذٍ:
[ قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ] (قرآن 17؛ الإسراء 81).
وصفح النبي الكريم عن أعدائه في قريش ـ أبي سفيان وجميع الذين قادوا المقاومة ضده ـ بعفو شامل.
إنتقل محمد رسول الله إلى رحمته تعالى في السنة الحادية عشر للهجرة (632م) في المدينة المنورة حيث يوجد قبره المكرم حتى اليوم، مطمئناً بعد أن أتم رسالته الإلهية.
أهم نقاط الالتقاء بين القرآن والإنجيل
أهم نقاط الالتقاء بين القرآن والكتاب هي الوحي بالله الواحد، خالق الكون. ومن جهة أخرى، أهم شهادة للقرآن لصالح الإنجيل هي أن عيسى هو حقاً المسيح. لو لم يؤكد القرآن على هذه العقيدة الأساسية، لما كان صادقاً. فهذه الشهادة بالذات هي التي خزت اليهود وأثارت نقمتهم على محمد. وأكثر من ذلك، فإن القرآن يأتي مصدّقاً للرسالة الإنجيلية بكاملها. لو قال القرآن أن عيسى ليس المسيح، لقبله اليهود وما حاربوا محمد، لأن ذلك كان سيبرر انتظارهم لمسيحهم الصهيوني المعروف في الإنجيل بـ “المسيح الدجال”. سنتطرق لهذا الموضوع في معرض حديثنا عن المسيح.
أهم نقاط الالتقاء بين القرآن والإنجيل هي التالية:
- المسيح
- مريم العذراء
- المائدة السماوية
- الروح (القدس)
المسيح
الحقيقة الأولى والكبرى التي كشفها القرآن للعرب هي أن لا إله إلا الله. الحقيقة الأساسية الثانية هي أن عيسى هو حقاً المسيح الذي أرسله الله والذي تنبأ بمجيئه أنبياء العهد القديم. كما ذكرنا آنفاً، إن كشف هذه الحقيقة من قبل القرآن هو الذي أثار سخط اليهود ومنعهم من تأييد القرآن. لأنهم لو اعترفوا بالقرآن لاضطروا إلى الاعتراف بالإنجيل أيضاً وبأن عيسى هو المسيح والتخلي بالتالي عن فكرة انتظار مسيحهم الصهيوني. هذه أهم الآيات القرآنية التي تؤكد أن عيسى ابن مريم هو المسيح:
[ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم… ] (قرآن 3؛ آل عمران 45).
[ …وقولهم (اليهود) إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله … ] (قرآن 4؛ النساء 157).[ المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه… ] (قرآن 4؛ النساء 171).
[ قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد الله أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه… ] (قرآن 5؛ المائدة 17).
[ …اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم… ] (قرآن 9؛ التوبة 31).
لو اعترف اليهود بمسيحية عيسى، لوجب عليهم التخلي عن فكرة انتظار مسيحهم الصهيوني، ومن ثم عن الصهيونية وعن الدولة الإسرائيلية التي تجسد مبادئ هذه الأخيرة. لقد رفض اليهود في الماضي الاعتراف بأن عيسى هو المسيح ويواصلون رفضهم حتى اليوم لأنه يدين تأسيس كيان سياسي باسم الديانة اليهودية. يخبرنا القديس يوحنا في إنجيله عن هرب يسوع وحده إلى الجبل عندما عرف أن اليهود يستعدون لاختطافه وجعله ملكاً زمنياً على إسرائيل (يوحنا 6، 14 – 15). فقد علّمنا يسوع أن ملكوت السماوات داخلي، في القلب، لا في السياسة (لوقا 17، 20 – 21).
في القرن الثاني عشر ق.م، كان القائد العسكري جدعون أول من رفض تأسيس تلك المملكة التي كان يعرضها عليه اليهود:
“وقال رجال بني إسرائيل لجدعون: تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك خلصتنا من أيدي المديانيين. فقال لهم: لا أنا أتسلط عليكم ولا ابني، بل الرب هو الذي يتسلط عليكم” (القضاة 8، 22).
ثم فيما بعد، أعلن النبي صموئيل في القرن الحادي عشر ق.م عن رفض الله إقامة مملكة إسرائيلية. إلا أن اليهود كانوا يطمحون منذ ذلك الوقت لإنشاء امبراطورية صهيونية عن طريق إقامة مملكة إسرائيلية في فلسطين مع أن الله قد أعلن صراحة بفم النبي صموئيل عن عدم رضاه عنها (صموئيل الأول 8، 19).
برفضه تأسيس مملكة إسرائيلية، يكشف المسيح الهدف الروحي، اللاسياسي للديانة اليهودية ولكل ديانة. لكن هذا لا يعني أن المؤمنين محرومون من ممارسة النشاط السياسي. بل على العكس، إنه من المرغوب ومن الأفضل أن يحكم البلاد رجال مؤمنون، يقودون الناس إلى ما يرضي الله ويخدم أفراد المجتمع بأسره، لا فئة دون أخرى. إنما الاشتراك في الحكم شيء، وتسييس الدين بجعله دين ودولة شيء آخر. فالدين للمؤمنين بالله، أما الدولة فلأبنائها، المؤمنين منهم وغير المؤمنين، فكما جاء في القرآن:
[ لا إكراه في الدين ] (قرآن 2؛ البقرة 256).
ينبغي كتابة هذا الوحي القرآني بحروف من ذهب.
إن أهمية الاعتراف بيسوع مسيحاً، علماً برفضه دولة صهيونية، هو قمة الإيمان في الإنجيل. وهذا يعطي على تصديق القرآن لعيسى كل ثقله:
“لا يقدر أحد أن يقول إن يسوع رب (المسيح) إلا بوحي من الروح القدس” (كورنثوس الأولى 12، 3).
“كل من يؤمن بأن يسوع هو المسيح، فهو مولود (بالروح) من الله” (يوحنا الأولى 5، 1).
ويقول المسيح بنفسه لليهود المتآمرين عليه:
“إن كنتم لا تؤمنون أني أنا هو (المسيح) ستموتون في خطاياكم” (يوحنا 8، 24).
لا بد لنا أيضاً من ذكر هذه الآية القرآنية التي تشهد أن يسوع هو المسيح المنتظر:
[ اتخذوا أحبارهم (الحاخامات) ورهبانهم (المسيحيين) أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ] (قرآن 9؛ التوبة 31).
هذه الآية، التي تشهد أن يسوع [ ابن مريم ] هو المسيح، غالباً ما يسيء تفسيرها بعض الذين يرون فيها نفياً لألوهية المسيح. ليس هذا مقصود القرآن الذي يأتي مصدّقاً للوحي الإنجيلي (قرآن 4؛ النساء 47). والحقيقة هي أن الإنجيل يكشف الألوهية المتجسدة في يسوع. (راجع الباب الثاني: نقاط الخلاف، الفقرة 3: “ألوهية يسوع”). لا يجب إذاً اتخاذ ابن مريم رباً وإلهاً مكان الله، إنما الله المتجسد الذي بشرت به نبوءات الكتاب المقدس. وإلا لكنا سنعبد إلهين منفصلين أحدهما عن الآخر: الله من جهة، والمسيح من جهة أخرى عندما [ أُمروا إلا ليعبدوا واحداً لا إله إلا هو سبحانه ]. تجدر الملاحظة أن كلمة [ أرباب ] هي في الجمع لتدل على الإشراك بالله. هذا التفصيل الدقيق لا يقدر أن يميزه جميع مفسري القرآن الذين لم يبذلوا أي جهد للتفسير [ بالتي هي أحسن ] كما يطلب منا القرآن في سورة العنكبوت 46.
من جهة أخرى، يحذرنا الوحي الإنجيلي أيضاً من ظهور المسيح الدجال الصهيوني:
“لقد سمعتم أن مسيحاً دجالاً سيأتي… إن الذي ينكر أن يسوع هو المسيح، هذا هو المسيح الدجال” (يوحنا الأولى 2، 18 – 22).
نعلم أن اليهود، والصهاينة خصوصاً، ينكرون أن يسوع هو المسيح.
ماذا نستخلص من كلام الوحي الإنجيلي؟ نستخلص النتيجتين التاليتين:
- إن محمد قد آمن أن عيسى هو المسيح بإلهام من الروح القدس، وهو بالتالي “مولود من الله”.
- كل الذين ينكرون أن يسوع هو المسيح، أي اليهود الذين يرفضونه وينتظرون مسيحاً آخر، يشكلون جميعهم شخص المسيح الدجال المعنوي. أي باختصار، دولة إسرائيل الحديثة التي ظهرت في فلسطين والتي تجسد قوى المسيح الدجال.
يكشف الوحي الإنجيلي أن يسوع سيقضي بنفسه على المسيح الدجال عند ظهور هذا الأخير. فيقول الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي (في اليونان) إن مجيء المسيح سيسبقه ظهور “رجل المعصية”، “العدو” الذي سيبيده يسوع بضياء مجيئه (تسالونيكي الثانية 2، 3 – 12). الكفر الذي أعلن عنه القديس بولس هو تصرف الصهيونيين الكافر والعنصري، كون الله عالمي، لا عنصري. “رجل المعصية”، “ابن الهلاك” و “العدو” الذي يتكلم عنه بولس، هو المسيح الصهيوني، “الذي لا يرضي الله ويعادي جميع الناس”، ودولته الدجال إسرائيل، قلبه النابض، كما يوضح في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي 2، 15. في الماضي، في عهد الامبراطورية الرومانية، كان الصهاينة يعملون في الخفية لتأسيس دولة إسرائيل. فأحبط الرومان خطتهم. أما اليوم، فيسمح لهم ظهور هذه الدولة بأن ينشطوا في العلن وأن يكونوا أكثر قدرة من ذي قبل لبسط سيطرتهم. هذه القوة التي تنكر المسيح يأتيها السلاح من حلفاء يزعمون أنهم تلاميذ يسوع. هنا يتجلى الارتداد عن الإيمان والخيانة في نهاية الأزمنة التي تنبأ بهما الإنجيل (متى 24).
تنبأ النبي محمد في أحاديثه الشريفة عن ظهور هذا الكفر بقوله إن المسيح الدجال سيكون مكتوب بين عينيه أحرف “ك ف ر“. هذه الأحرف تشكل مجتمعة كلمة كفر (*). وحدد أن قوى الشر هذه تنبثق من اليهود. في الوحي الإنجيلي، نجد هذا التجديف مكتوباً على رأس “وحش” الرؤيا:
- “وأعطي هذا الوحش فماً ينطق بكلام الكبرياء والتجديف”(رؤيا 13، 5).
- “فرأيت امرأة تجلس على وحش قرمزي مغطى بأسماء التجديف… وعلى جبينها اسم يرمز إلى بابل العظيمة، أم الزنى ودنس الأرض” (رؤيا 17، 1 – 5). مراجعة نص: “مفتاح سفر الرؤيا”
يؤيد النبي محمد القديس بولس ويشدد في “حديثه الشريف” أنه عند ظهور المسيح الدجال، سيقاتله المسيح عيسى وأصحابه ويقضون عليه. أصحاب عيسى اليوم، وفقاً للمقصود الروحي للوحي والنبوءات السماوية، ليسوا المسيحيين التقليديين المتعاونين مع إسرائيل والداعمين لها. هذا الدعم “المسيحي” الآثم لدولة إسرائيل تنبأ به الإنجيل أيضاً مشيراً إلى أن المسيح الدجال سيتمكن حتى من تضليل تلاميذ يسوع المزيفين (متى 24). اليوم، المؤمنون الحقيقيون هم المتعطشون للحق والعدالة، والمحرومون منهما، والثائرون من كل بلد وكل دين على الإثم الصهيوني الغدار وحلفائه المرذولين، والذين يرزحون تحت ثقل الظلم الصهيوني ويقاومون الكيان الإسرائيلي الظالم الدجال والصهيونية العالمية.
وفقاً لنبوءات الإنجيل والنبي محمد، هذا الكيان الإسرائيلي المزيف سيزول إلى الأبد. سيكون فناؤه عظيماً وسقوطه مدوياً ورمزاً لفشل الصهيونية وكل محاولة وكل فكرة تهدف إلى جعل الإيمان ديناً ودولة. بسقوطه سيتعظ كثيرون وسيدركوا أن يسوع هو حقاً المسيح وملكه راسخ إلى الأبد كما جاء في النبوءات.
(*) راجع كتاب “منهل الواردين” للشيخ صبحي الصالح، الأحاديث الشريفة رقم 1806 و 1808 و 1815.
العذراء مريم
يحتوي القرآن الكريم على أجمل وأروع الآيات عن مريم العذراء والدة المسيح ويضعها على أعلى قمم القداسة البشرية:
[ يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ] (قرآن 3، آل عمران 42).
أليست هذه الشهادة إدانة لليهود الذين يكفرون [ بقولهم على مريم بهتاناً عظيماً ] حتى يومنا (قرآن 4؛ النساء 156).
إن الله، في هذه الآية الشريفة، يصدق على ما أوحاه عن مريم في الإنجيل:
“مباركة أنت في النساء” (لوقا 1، 42).
يكشف القرآن كذلك عن استثنائية طهارة مريم وابنها. فتقول عنهما امرأة عمران، أم مريم (آل عمران هم عائلة مريم):
[ إذ قالت امرأة عمران ربِ إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم… وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها (عيسى) من الشيطان الرجيم ] (قرآن 3؛ آل عمران 35 – 36).
تقبل الله الرحمَن الرحيم من أم مريم نذرها، فكانت مريم وذريتها عيسى الوحيدان المصونان من الشيطان الرجيم، إذ يقول النبي محمد في حديثه الشريف:
“ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان (وصمة الخطيئة الأصلية) إلا مريم وابنها”. (مراجعة تفسير “الجلالين” لآية آل عمران 36)
هذا الحديث، المتفق عليه من العالم الإسلامي بأكمله، هو اعتراف بمريم الحبل بلا دنس. ويعلمنا النبي محمد من خلاله أن جميع البشر، بما فيهم الأنبياء كلهم وأمهاتهم، وهو نفسه، يولدون وقد مسهم الشيطان بدنسه، ما عدا مريم، الحبل بل دنس وابنها عيسى المسيح.
فأين موقف اليهود من هذه الشهادة؟!
المائدة السماوية
يكشف لنا الوحي القرآني أن الله أنزل [ مائدة ] من السماء غذاءً للحواريين، تلاميذ يسوع المسيح الاثني عشر. يشكل هذا الطعام السماوي نقطة مشتركة بين الكتاب المقدس والقرآن، نقطة تجهلها الأغلبية الساحقة من المؤمنين. إنها تناول جسد ودم المسيح، مائدة الله السماوية. ينقل لنا القرآن بأسلوب تربوي، مجازي وموجز، عشاء الفصح الأخير الذي شاركه يسوع مع تلاميذه، الذي أسس يسوع من خلاله المائدة الروحية بجسده ودمه. ينقل القرآن هذه الحقيقة بأسلوب دقيق، محترماً جهل العالم العربي آنذاك لرسالة الإنجيل:
[ وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها (على المائدة) من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ] (قرآن 5؛ المائدة 112 – 115).
ما هي هذه المائدة النازلة من السماء؟ من المهم جداً أن نعرف طبيعتها الحقيقية بما أن الحواريين قد تعهدوا بأن يكونوا [ عليها من الشاهدين ]. زيادة على ذلك، على هذه الشهادة أن تدوم إلى آخر مؤمن على وجه الأرض، لأن عيسى طلب من الله أن تكون هذه المائدة [ عيداً لأولنا وآخرنا ]. فأنزلها الله لهم محذراً من يكفر بها بعذاب لم يذقه أحد من العالمين.
يظن بعض المفسرين أن هذه المائدة هي طعام مادي كالسمك أو اللحم. ويخلطون بتفسيرهم بين أعجوبة تكثير الخبز والسمك المادية التي قام بها يسوع ونقلها الإنجيل (يوحنا 6)، وأعجوبة الغذاء الروحي، المائدة الروحية النازلة [ من السماء ]، كما يقول القرآن.
ينقل لنا يوحنا، في الفصل 6 من إنجيله، كلام يسوع عن هذا الطعام الروحي الحيوي. قال يسوع أن “جسده ودمه” هما قوت وشراب روحيان يمنحان “الحياة الأبدية” للمؤمنين. عند سماعهم هذا الكلام، تخلى عنه كثير من تلاميذه، لأنهم وجدوا أن هذا “الكلام صعب”، فانقطعوا عنه (يوحنا 6، 48 – 66).
اليوم أيضاً، كثير من “المؤمنين” يرفضون هذا الكلام ويتساءلون “كيف يقدر هذا الرجل أن يعطينا جسده لنأكله!” (يوحنا 6، 52).
لم يتمكن اليهود في الماضي، على الرغم من قرون من التحضير، من فهم يسوع. واليوم أيضاً، عدد كبير من المسيحيين لا يدرك المعنى العميق والحقيقي لكلامه. كيف نفسر إذاً هذه المائدة الروحية النازلة من السماء، لعرب شبه الجزيرة العربية الذين يجهلون الكتاب المقدس؟ كان على القرآن إذاً أن يعرف برسالة الكتاب مستعيناً بالتلميحات والأمثال ليثير فضولهم وولعهم للحقيقة ويحثهم على البحث عن المعنى الروحي العميق لهذه الرسالة في الإنجيل، حيث يجدون كمال النور المتعلق بسر المائدة القرآنية النازلة من السماء. كما قلنا، كثيرون يلاقون صعوبة في فهم هذه الحقيقة؛ إنها مسألة “إيمان أو عدم إيمان! القبول بها أو تركها”. لكل مسؤوليته.
يزعم بعض المفسرين أن الله لم ينزل هذه المائدة بعد. هذا التفسير لا يتوافق مع كلام الله تعالى في القرآن: [ إني منزلها عليكم ]. إذاً لقد شارك الرسل الأوائل بهذه المائدة، التي ستبقى حتى نهاية الزمان، ليشهد عليها آخر مؤمن على وجه الأرض.
أعطى المسيح رسله هذه [ المائدة ] النازلة من السماء، أي “خبز الحياة الذي ينزل من السماء” (يوحنا 6، 32 – 36) كما وعد، بعد سنة من الحديث عنه. وقد حدث ذلك خلال عشاء الفصح الأخير (العشاء السري) الذي أكله مع تلاميذه (الحواريين) عندما أخذ خبزاً وبارك وكسره وناولهم وقال:
“خذوا كلوا، هذا هو جسدي الذي يُبذل لأجلكم. ثم أخذ كأساً وشكر وناولهم وقال: إشربوا منها كلكم، هذا هو دمي، دم العهد الجديد الذي يُسفك لأجلكم ولأجل أناس كثيرين، لمغفرة الخطايا” (متى 26، 26 – 29).
عندئذٍ فهم الرسل، والمؤمنون من بعدهم، كيف يهب المسيح ذاته قوتاً وشراباً. القوت أو المائدة التي يقدمها المسيح الحي لأول وآخر مؤمن هو الروح القدس الذي سيبقى في قلوب المؤمنين من خلال هذا الخبز الذي يأكلونه وهذا الخمر الذي يشربونه، جسد ودم وروح المسيح الحي إلى الأبد.
هذا الشراب السماوي هو الذي يتكلم عنه القرآن الكريم أيضاً في سورة المطففين: الذين يشربون من هذا الخمر النادر هم الأبرار، المختارون من الله، والذين يرفضون أن يشربوا منه هم الملعونون، كما يكشف القرآن:
[ إن الأبرار لفي نعيم على الأرائكِ ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يُسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم (ماء) عيناً يشرب بها المقربون إن الذين أجرموا (الذين يرفضون أن يشربوا منه) كانوا من الذين آمنوا (بهذا الشراب) يضحكون ] (قرآن 83؛ سورة المطففين 22 – 29).
إذ يقدم القرآن الكريم هذا [ الرحيق المختوم ] للمؤمنين بأسلوب شاعري ومنسجم، إنما يصدق هو أيضاً على كلام السيد المسيح في إنجيل يوحنا عن الخبز المختوم، القوت المختوم النازل من السماء، أي المسيح نفسه، “لأن الله الآب ختمه بختمه” (يوحنا 6، 27). هذا القوت السماوي موجود في الخبز والخمر اللذان يقدمان بسخاء على مائدة الله المقدسة النازلة من السماء باستمرار.
نذكّر بما قاله عيسى في سورة المائدة:
[ اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا ] (قرآن 5؛ المائدة 114).
هذا يعني أن المائدة التي نزلت من السماء ليست للحواريين وحدهم؛ فهي تستمر بالنزول كل يوم وفي كل مكان، لتكون عيداً [ لأولنا وآخرنا ]، أي لكل المؤمنين في كل زمان وكل مكان، حتى المؤمن الأخير، إلى يوم القيامة، تشهد إلى الأبد أمام الله لمن شهد لها على الأرض.
هذه المائدة وهذا الرحيق المختوم اللذان ينزلان من السماء، هدفهما فرز البشر وتقسيمهم إلى قسمين: المختارون من الله الذين يأكلون من هذه المائدة، والملعونون الذين يرفضونها ويسخرون من الذي يؤمنون بها.
علينا أن نشدد في النهاية على نقطة في غاية الأهمية، وهي أن القرآن الكريم يدفع المؤمنين، بل يحثهم على التنافس، أي على التسابق نحو هذا الرحيق المختوم السري، هذا الشراب المجيد المحيي النازل من السماء (قرآن 83؛ المطففين 26)، الذي يختلف تمام الاختلاف عن الخمر الأرضي. ليتسلح إذاً بالحكمة كل من يرفض هذا الخمر الإلهي، وليحذر كل ساخر يسخر من المؤمنين به المتنافسين عليه، قبل فوات الأوان.
الروح
ثمة غموض في المجتمع الإسلامي حول مفهوم الروح. تتكرر هذه الكلمة كثيراً في القرآن الكريم دون أن يتم توضيح جوهرها، ما يجعل المؤمنين يتساءلون عن المعنى الصحيح لهذه الكلمة. فورد في سورة الإسراء:
[ ويسألونك عن الروح قل (يا محمد) الروح من أمر ربي وما أوتيتم (في القرآن) من العلم إلا قليلا ] (قرآن 17؛ الإسراء 85).
أراد الله في القرآن الكريم عدم إلقاء النور على معنى الروح بناءً على حكمة إلهية. فالمولى عز وجل أراد أن يكون وحيه القرآني باباً مفتوحاً ومنفذاً إلى الكتاب المقدس والإنجيل خصوصاً، وشاهداً مصدّقاً للوحي الكتابي، كما رأينا سابقاً.
مسألة الروح في القرآن شبيهة بمسألة [ المائدة ] التي أنزلها الله من السماء على الحواريين. لا يمكن للمؤمن أن يدرك معناهما إلا باللجوء إلى الكتاب. فالقرآن الكريم يحث المؤمن على الرجوع إلى الكتاب وأهله، إذ ورد في سورة يونس:
[ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرََؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك (في الكتاب والقرآن) فلا تكونن من الممترين ] (قرآن 10، يونس 94).
هكذا يجعل الله القرآن ممراً إلى الكتاب الذي فيه يجد المؤمنون توضيحاً لما كُشف جزئياً في القرآن الذي يعلن بوضوح أنه لا يقدم لعرب الجاهلية إلا بعضاً من العلم فقط، بل و [ قليلاً ] منه، معظمه الباقي موجود في الكتاب:
[ وما أوتيتم (في القرآن الكريم) من العلم إلا قليلاً ] (قرآن 17؛ الإسراء 85).
من يستخف بالرجوع إلى الكتاب فهو من [ الممترين ] (قرآن 10؛ يونس 4). أما المؤمن المنفتح على كامل الوحي الإلهي فسيجد في الوحي الكتابي الإجابة على مفهوم “الروح”، فهو روح الله القدوس، الله نفسه الذي أرسل روحه الأزلي إلى الأنبياء بدءاً من إبراهيم الخليل حتى تجسده في أحشاء مريم البتول، كما أوحى الله في الكتاب والقرآن.
فقد ورد في الإنجيل:
“فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا عذراء لا أعرف رجلاً؟ فأجابها الملاك: الروح القدس يحل عليك وقدرة العلي تظللك، لذلك فالقدوس الذي يولد منك يُدعى ابن الله” (لوقا 1، 34 – 35).
كما ورد في القرآن:
[ …المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه… ] (قرآن 4؛ النساء 171).
من جهة أخرى، عندما مثل رسل النبي محمد أمام النجاشي ليشرحوا له تعاليم النبي، أجابه جعفر بن أبي طلب عن عيسى المسيح: “نقول فيه الذي جاء فيه نبينا. يقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول”.
دعوة إلى التفكير
إنني في هذا الباب الأخير، واستخلاصاً لكل ما جاء في هذا الكتاب، أدعو القارئ إلى تفكير منطقي وتأمل هادئ بنقطتين مهمتين، وهما:
- رسالة النبي محمد إلى الإمبراطور هرقل يدعوه فيها إلى الإيمان بالإسلام.
- حسن استقبال نجاشي الحبشة ورؤسائها المسيحيين للمسلمين الذين لجأوا إليهم بعد هربهم من مكة.
الرسالة إلى هرقل
هذه ترجمة الرسالة :
“بسم الله الرحمَن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتِك الله أجرك مرتين. فإن توليت، فإنما عليك إثم الأريسيين. يا أهل الكتاب، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون”.
ما يهمّنا في هذه الرسالة هما النقطتين التاليتين:
يؤتِك الله أجرك مرتين
يؤكد النبي محمد لهرقل أن الله سيؤتيه “أجره مرتين” إن آمن برسالته. يكرر النبي هنا هذا الأجر المضاعف الذي يعد به الله المسيحيين الذي أعلنوا إيمانهم بالإسلام بقولهم:
[ إنا كنا من قبله (القرآن) مسلمين ]. فيقول الله عنهم: [ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ] (قرآن 28؛ القصص 53 – 54).
إن أجرهم الأول هو لأجل إيمانهم بالمسيح والإنجيل، وأجرهم الثاني لإيمانهم بالقرآن المصدّق للتوراة والإنجيل.
ماذا يترتب على المسحيين المؤمنين اليوم بالإنجيل والقرآن معاً؟ في مفهوم النبي محمد، وخلافاً لما يعتقده مسلمون تقليديون كثيرون، لا يترتب عليهم التخلي عن مثقال ذرة من الإنجيل وتعاليمه، فمحمد لم يطلب منهم سوى أن يقولوا: [ اشهدوا بأنا مسلمون ]، ومسلمون من قبل القرآن، كما جاء في سورة القصص. وذلك لأن تعاليم القرآن من التوراة والإنجيل.
بالإضافة إلى ذلك، يشهد الوحي القرآني أن مفهوم الإسلام كان موجوداً قبل القرآن، وأنه يعني الإيمان بالله وبعيسى مسيحاً:
[ فلما أحس عيسى منهم (من اليهود) الكفر (به) قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ] (قرآن 3؛ آل عمران 52).
ويقول الله أيضاً في آية أخرى:
[ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي (عيسى) قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ] (قرآن 5؛ المائدة 111).
وعلى ذلك، فإن كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فهو في مفهوم القرآن الكريم مسلم من قبل القرآن، أي أنه قد [ أسلم وجهه لله ] (قرآن 31؛ لقمان 22).
بعد أن جاء النبي محمد للإنجيل مصدّقاً، فإن من يكذب محمداً يكذب الإنجيل، ومن يؤمن بمحمد يصدق معه على الإنجيل و [ يُؤتى أجره مرتين ]. كذلك، فإن المسلم المؤمن بالقرآن وبمحمد، إن أسلم للإنجيل أيضاً في نصه الحالي، فهو يصدق عليه مع القرآن. لكنه إذا افترى على الإنجيل، بطل إسلامه وأمسى بالتالي شاهد زور على الإنجيل والقرآن معاً ووقع عليه “إثم الأريسيين”.
إثم الأريسيين
النقطة الثانية الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة هي “إثم الأريسيين”، المعروف في الغرب تحت اسم “الأرية”. ظهرت الآرية في الاسكندرية بمصر، في القرن الثالث للميلاد (280 – 336 م) على يد كاهن مسيحي يدعى “أريُس” (Arius) نكر ألوهية المسيح ولحقه أتباع كثيرون عرفوا بـ “الأريسيين” على اسم الكاهن (عدم الخلط بينهم وبين العرق الآري) . في سنة 325م، أدان رؤساء الدين المسيحيون الذين اجتمعوا في بلدة نيقيا (تركيا) بدعة الأرية التي اشتهرت واستمرت بعد المجمع وانتشرت في الشرق حتى إلى ما بعد زمن النبي محمد. وما زالت تبعاتها الخبيثة موجودة حتى يومنا. ما زال المفسرون المسلمون يجهلون المعنى الحقيقي للأرية ويعجزون بالتالي عن تفسيرها بصورة دقيقة مشوهين مقصود النبي العزيز.
إن لفي ذكر محمد إثم الأريسيين، حكمة لا تفوت العقل الذكي السليم والحكيم والمتيقظ. لأن النبي، انطلاقاً من بيئته الجاهلية، يصدق على فتوى مجمع نيقيا المدين للأرية، ويوافق عليها كلياً. لأن هذا الإثم ينكر ألوهية السيد المسيح والثالوث الإلهي. أليس هذا اعترافاً ضمنياً من قبل النبي محمد بهاتين الحقيقتين الإلهيتين؟
لجوء المسلمين إلى الحبشة
لجأ أتباع محمد إلى الحبشة على دفعتين. عندما وصلت المجموعة الأولى إلى الحبشة، أرسل بنو قريش، أعداء محمد الألدة، رسولين هما عمرو بن العاص- الذي أسلم فيما بعد- وعبد الله بن أبي ربيعة، محملين بالهدايا الثمينة إلى النجاشي “أحمصة” يطلبان منه تسليمهما المهاجرين المسلمين وإعادتهم إلى مكة، بحجة أنهم سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين النجاشي. وإنهم، كما يزعمان، ابتدعوا ديناً مجهولاً يضاد دين النجاشي ودين العرب.
رفض النجاشي تسليم اللاجئين قبل سماع أقوالهم. فاستهل جعفر بن أبي طالب الكلام في حضور النجاشي وبطاركة الحبشة (رؤسائها الدينيين)، قال:
“أيها الملك، كنا قوماً جاهلين نعبد الأصنام… حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته. فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده…”
أجاب النجاشي: “هل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرأه علينا؟!”
فقال جعفر: “نعم!” وتلا عليه سورة مريم بكاملها إلى الآية التي يقول فيها عيسى:
[ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ] (قرآن 19؛ مريم 33).
فلما سمع البطاركة هذه الآيات قالوا: “لكن هذا الكلام يصدر من النبع الذي صدر منه كلام ربنا يسوع المسيح”.
فقال النجاشي للرسولين مصدّقاً على ذلك: “هذا والذي جاء به موسى، ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا! والله لا أسلمهم إليكما”. إلا أن الرسولين لم يتنازلا عن غايتهما فعادا يقولان للنجاشي: “إن المسلمين ليقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً (قبيحاً). فأرسل إليهم، فسلهم عما يقولون فيه”. فلما دخل المسلمون على النجاشي، إجابه جعفر بن أبي طالب: “نقول فيه الذي جاء به نبينا. يقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول”. لقد فهم هؤلاء المسلمون إذاً أن عيسى هو وحده “روح الله وكلمته”.
عندما سمع النجاشي هذا الكلام، أخذ عوداً ورسم به خطاً على الأرض وقال: “ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط”.
لو أن النجاشي قد عرف محمد شخصياً وسمع تعاليمه، ولو لم يسمم رسولا بني قريش الجو، لما كان النجاشي قد رسم ذلك الخط بين المؤمنين. بالطبع فإن النبي ما تصوّر وما أراد يوماً مثل هذا الخط الفاصل بين المسلمين والمسيحيين. أما أوحى الله إليه، هو النبي، أن يقول لأهل الكتاب:
[ إلهنا وإلهكم واحد ] (قرآن 29؛ العنكبوت 46).
فأين هو هذا الخط الفاصل في مفهوم محمد؟! إنه بكل بساطة غير موجود.
حان الوقت كي يتخطى كل مؤمن ناضج في الإيمان الخطوط والحواجز المصطنعة التي وضعها التعصب البشري على مدى القرون. آن الأوان كي يستعيد ويعانق المؤمن أخيه المؤمن.
فلا يوجد بعد الآن لا يهودي ولا مسيحي ولا مسلم. فكلنا يهود وكلنا مسيحيون وكلنا مسلمون، شرط أن نتجاوز الحرف لنتعانق بروح الله بعد أن نكون قد أدركنا مقصوده الحقيقي في وحيه الكتابي القرآني. “لماذا لا تحكُمون أنتم بما هو حق؟” طلب منا المسيح (لوقا 12، 57). هذا هو [ الصراط المستقيم ] الذي يتكلم عنه القرآن (قرآن 1؛ الفاتحة 6).
“فلتكن لدينا الشجاعة لنكون مؤمنين متحررين!”
الخاتمة
لماذا سميت كتابي هذا “نظرة إيمان بالقرآن الكريم”؟
لسبب بسيط، لأني في نظر الناس مسيحي. والمسيحي، في نظرهم، لا يؤمن بالقرآن الكريم. إلا أن مسيحيتي أصدق إسلاماً من مسلمين كثيرين، ويشهد لي بذلك القرآن الكريم ونبيه المصطفى ويمنحاني [ أجري مرتين ].
إن القرآن الكريم والكتاب المقدس ليسا حكراً على أحد. فالقرآن هو وحي الله لكل من يعشق الحياة الروحية، ويصبو إلى السمو لمجالسة رب العالمين، ليحيا من نفحته تعالى ومن روحه المحيي إلى الأبد.
أؤمن بالله وبابراهيم خليل الله وبيسوع مسيح الله وبمحمد رسول الله. أنا مؤمن متحرر. لست يهودياً ولا مسيحياً ولا مسلماً. غير أنني كل ذلك في نفس الوقت، فأنا يهودي ومسيحي ومسلم. لأنني أؤمن أنه لا يوجد سوى طائفتين لا ثالثة لهما: طائفة المؤمنين المباركين وطائفة المتعصبين المرذولين، من كل أمة ومن كل دين.
لذلك فإني أختم، وبمسك الختام، بهذه الآية القرآنية المنيرة الواردة في سورة آل عمران 199:
[ وإن من أهل الكتاب ] ـ وأنا منهم ـ [ لمن يؤمن بالله وما أُنزِل إليكم (القرآن) وما أُنزِل إليهم (الكتاب) خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربِهم إن الله سريع الحساب ]. صدق الله العظيم.
بطرس
13.10.1984
تنقيح 23.02.2008